الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من المحروسة 61 إلى المحروسة 2015 والتعبير عن هموم الوطن

أحمد عبد الرازق أبو العلا

2002 / 12 / 31
الادب والفن


           ( سعد الدين وهبة   ( 


  من المحروسة 61 إلى المحروسة  2015           والتعبير عن هموم الوطن           
                                                      
                                                        

 

    في مسرحيته الأخيرة ( المحروسة 2015) 1995(1) ، ذكر " محمد حسنين هيكل " في تقديمه لها ، أنها أثارت فزعه ، وكان مبعث هذا الفزع راجعا بالدرجة الأولي إلى أن كاتبا مسرحيا بحجم ووزن ( سعد الدين وهبة ) يري أن المشاهد التي يصورها في مسرحيته الجديدة واردة أو محتملة في الواقع الحي ، وزاد من فزعه أنه أثناء قراءة النص ، ومتابعة غيره من أعمال سعد الدين وهبة ، شعر دائما أن الأسلوب مفتوح ، وأن الشخصيات توحي بالألفة ، وأن الصور والمشاهد والحركة والإيقاع كلها واثقة مطمئنة حتى عندما تتصادم العلاقات بين الشخصيات ، وحتى عندما تتبدى علائم الشر وتظهر ملامحه .
   ويتساءل هيكل : أتري أن هذه الصور التي يرسمها سعد الدين وهبة واردة في مستقبل ما يجري في مصر بعد ذلك النوع من السلام مع إسرائيل .
  وبحثا عن الإجابة قام بسؤال ( سعد الدين وهبة ) ما إذا كان يتصور أن مشاهد نصه الجديد واردة بالفعل في الواقع ؟ فكان رده أنه ( لم يفعل في نصه غير أنه وصل بالاحتمالات إلى نهايتها المنطقية )
ماذا قدم ( سعد الدين وهبة ) في نصه الجديد ؟؟                                              
  قدم رؤيته لما يمكن أن يحدث في المحروسة  - إشارة إلى مصر – إذا سيطر التطبيع مع إسرائيل علي حياتنا ، وهي مسرحية تحذيرية كما أطلق عليها ، لأنه يري أن الوضع إذا استمر علي ما هو عليه سنصل إلى مرحلة تصبح لإسرائيل اليد الطولي في كل شيء ) لكن المسرحية  - في النهاية – تقدم رؤية متفائلة حيث نري الفلاحين يرفضون تدخل إسرائيل في كل شيء ، خاصة بعد أن طلبوا – في المسرحية – حيث نري الفلاحين يرفضون تدخل إسرائيل في كل شيء ، خاصة بعد أن طلبوا  - في المسرحية – استئجار قناة السويس ، يثورون ويطردون إسرائيل ، وهي النهاية التي يتمناها الكاتب في الواقع ، وتعد صرخة ( صابحة ) في نهاية المسرحية ، رسالة تحذير لكل المطبعين ، تقول : ( معقول يحصل في المحروسة اللي عمره ما حصل ، معقول يتحكم فيها شويه لصوص وقطاعين طرق ، معقول رجا لتها يسيبوها في ايد اللي يسوي واللي مايسواس ؟ طبعا مش معقول ، لا يمكن دا يحصل ، والمحروسة ماعدش فيها حد ، لا راجل ولا ست ، ولا عيل ، كلهم حيد فعوا دمهم قدام اللي يفكر يحط أيده عليها تاني … ) (2)                                            
   ومواقف ( سعد الدين وهبة ) من التطبيع معلومة للجميع ، حتى أن إسرائيل ذكرت في إذاعتها – يوم وفاته – أن عدو إسرائيل الأول قد مات !!
إن سعد الدين وهبة  عاش ومات ، وهو يؤمن بأن العرب ( مازال في أعماقهم يقين بالغدر الإسرائيلي ، والذي قيل ويقال عن سقوط الحاجز النفسي يعني سقوط هذا الحاجز عند الذين يقولون به فقط ، وليس عند الشعب المصري أو غيره من الشعوب العربية ) (3). أن هذا الإيمان هو ما حاولت مسرحية ( المحروسة 2015) التعبير عنه ، بجلاء وبدون مواربة .                              
 
المسرحية والرقابة

 
  من الجدير بالذكر أن الرقابة وافقت علي هذه المسرحية ، كنص بدون ملاحظات في أوائل عام 1996 ، وكان يستعد لتقديمها علي مسارح الدولة ، ولكن لماذا لم تعرض علي خشبة المسرح حتى الآن ؟؟                 
  يبدو أن الكاتب ( سعد الدين وهبة ) كان يعلم أن هذه المسرحية ستواجه بإهمال ، أو تلقي تعنتا من المسئولين ، الأمر الذي جعله يصرح في أكثر من مناسبة بأن ( عرض المسرحية علي مسرح الدولة ، لا يحرج أحدا من المسئولين في الدولة ، لأن الفيصل بيني وبين وزارة الثقافة هو جهاز الرقابة الذي يملك سلطة السماح والمنع ، وقد وافقت الرقابة علي المسرحية ، ولا أري أن أي مسرح يمكن أن يرفض مسرحية لسعد الدين وهبة ، صحيح أنا كاتب علي باب الله ، لكن مستواي الفني مش ضعيف ، الفرق اللي حصل ، إن زمان كان المسرح القومي  يضع مسرحيتي قبل أن أنتهي من كتابتها في الموسم المسرحي ، ورغم أن المسئولين عارفين أنى خلصت مسرحية المحروسة 2015 ، لكن يبدو أن المسرح القومي مزدحم ) !!(4)
مسرحياته :                           
    من المفارقات المدهشة ، أن الكاتب ( سعد الدين وهبة ) بدأ حياته مع المسرح كاتبا عن ( المحروسة  1961) وأني حياته مع المسرح كاتبا عن ( المحروسة 2015) 1995 ، ونصه الأول عرض علي خشبة المسرح القومي في شهر ديسمبر 1961 ، ثم أعيد عرضه في عدة مواسم مسرحية : 63/ 64/ - 65/66
  وهو يكتب المسرحية السياسية ، بأسلوب النقد الاجتماعي ، ويتضح هذا البعد في سلسلة أعماله المسرحية : (المحروسة) 1961 – ( كفر البطيخ ) 1962 – ( السبنسة ) 1963 – ( كوبري الناموس ) 1964 – ( سكة السلامة ) 1965 – ( بير السلم ) 1966 – ( كوابيس في الكواليس ) 1967 – ( المسامير )  1968 –  (يا سلام سلم الحيطة بتتكلم ) 1970 – ( سد الحنك) 1972 – ( سبع ولا ضبع ) 1977 – ( رأس العش) 1974 – ( مصر حبيبتي ) 1974 – ( الأستاذ) 1998 . بالإضافة إلى عشرين مسرحية من ذات الفصل الواحد ، نشرت كلها في صحيفة الأهرام – أسبوعيا – خلال عام 1977 .                           

   إن سعد الدين وهبة ، لم يكن يميل إلى كتابة المسرحية ذات الفصل الواحد ، لكنه لجأ إلى كتابتها عن طريق الصدفة وحدها ، ولظروف خاصة جعلته يتجه إليها ، عن هذه الظروف يقول : " كنت مبعدا عن وظيفتي في وزارة الثقافة ، أقرأ كتب القانون ، وأتردد علي مكتب المحامي ، وأذهب إلى المحكمة ، وأعود إلى مكتب          ( يوسف السباعي ) في جريدة الأهرام ، أحكي له ما وقع لي خلال اليوم .. قال لي مرة : لماذا لا تكتب ؟ ، ماذا أكتب ؟!  وعاد يقول : ُأكتب مسرحا ، وابتسمت ، وفهم من ابتسامتي ما قصدته .فقال ردا علي ابتسامتي : اكتب مسرحيات من فصل واحد ، أنشرها لك في الأهرام ، وبدأت بمسرحية  كان هو بطلها الحقيقي في الواقع           ( الوزير شال التلاجة ) . وجلست أمامه أرقبه وهو يقرأها ، وكان يبتسم ، وعندما انتهي من القراءة ، أرسل يدعو أحد مساعديه في الجريدة ، ويدفع إليه المسرحية قائلا : سوف يسلمك مسرحية كل أسبوع ، وأعتبرت كلامه دعوة وأمرا " . ولذلك نراه يقوم بإهداء الكتاب الذي ضم كل مسرحياته القصيرة والصادر في عام 1980 إلى ( يوسف السباعي ) . (5)                                         


الريف المصري                                                     
  
      يعد الريف المصري مجالا خصبا للتعبير عند الكاتب ( سعد الدين وهبة ) ، المولود في قرية    ( دميرة ) مركز طلخا بمحافظة الدقهلية ، وكان لعمل والده في دائرة الأمير ( عمر طوسون ) مالك أرض تفتيش الخزان – علي ما يبدو – أثره في الكتابة المسرحية ، إذ نراه يستحضر هذا التفتيش في أكثر من عمل له .                      
   فيه كان يعيش الفلاحون ضحايا الاحتلال والإقطاع والفساد ، وهذا ما عبّرت عنه مسرحية     ( المحروسة ) 1961 ، والريف المصري نراه حاضرا – أيضا – في مسرحية ( السبنسة ) التي يدين  فيها الجهاز الإداري الفاسد في مصر قبل ثورة 1952 ، وذلك من خلال موضوع طريف ، نجد فيه العسكري ( صابر ) يعثر علي قنبلة بجوار نقطة البوليس بالكفر الأخضر – يرمز إلى مصر بهذا الاسم – ثم يكتشف أن القنبلة اختفت أو سرقت ، ولم يستطع الجهاز الإداري الفاسد ، المتمثل في الصول درويش ( ضابط النقطة ) والمحقق الذي جاء للتحقيق في هذه الواقعة ، لم يستطع هذا الجهاز العثور علي القنبلة ، أو محاولة البحث عنها ، وكان ( سعد الدين وهبة ) يرمز بالقنبلة إلى الرغبة في الثورة علي هذا الفساد ، الذي أصاب المسئولين في مصر ، وكانت وسيلة أدانتهم في المسرحية ، أنهم اتفقوا علي إحضار قطعة من الحديد ، لتكون بديلا عن القنبلة الحقيقية الضائعة ، دون اهتمام بفهم الإطار التي يمكن أن تتسبب فيها القنبلة الحقيقية ، بل ويصل الأمر إلى تلفيق الاتهام لبعض الشخوص في البلدة ، ممن أرادوا المواجهة وكشف الفساد ، بل وتصل السخرية إلى ذروتها حين يأتي مندوب خاص من وزارة الداخلية وخبير في القنابل ليقرر أن القنبلة -  وهي نفسها قطعة الحديد – شديدة الانفجار ، ومن ثم يتم البحث عن الجناة ويتم تلفيق الاتهام لعدد منهم ، ويرحلون إلى العاصمة لمحاكمتهم ، وعلي  رصيف القطار يوجد مكان لركاب الدرجة الأولي ، وآخر لركاب الدرجة الثانية ، وثالث لركاب السبنسة ، وكل مكان من هذه الأمكنة – الثلاثة – يرمز إلى شيء بعينه ، يقصده ( سعد الدين وهبة ) ، و( السبنسة ) – علي حد تعبير ( د. محمد     مندور ) يمكن أن يتحول ركابها إلى الدرجة الأولي ، إذا تغير مكان القاطرة ، بينما لا يمكن أن يتغير وضع ركاب الدرجة الثانية ، وهم الانتهازيون ، تلك الرؤية قصد إليها المؤلف  ليبين – من خلالها – أن التغيير ، سيأتي حتما ، وسيكون في مصلحة ركاب السبنسة أو الدرجة الثالثة ، ولن يكون في صالح ركاب الدرجة الأولي ، أما الدرجة الثانية ، فسيظل أصحابها في أماكنهم كما هم لأنهم انتهازيون .

   
       تعد ( كوبري الناموس) من أجمل مسرحيات ( سعد الدين وهبة ) ، لا يفارقها طابع الريف ، والبعد السياسي في معالجة الأحداث يظهر أمامنا ، وفيها أنماطا من البشر يعيشون في العالم السفلي ، لا يجدون ملجأ يلجأ ون إليه ، سوي العشة التي تملكها ( خضرة ) ، وهي امرأة في الثلاثين من عمرها ، تكسب لقمتها من مقهى صغير ، يقع بجوار كوبري أسمه ( الناموس ) وهو يوصل بين مدينة وقرية في الدلتا ، والجو الفنتازي الذي يغلف الأحداث المتعلقة بها يشير إلى أن خضرة هي مصر ، وأنها حامل في رجل كبير يأتي ليخلصها مما هي فيه ، وفكرة الانتظار التي طرحتها مسرحية ( كوبري الناموس ) ، تلك الفكرة نراها متجسدة في مسرحية  بير السلم 1966حيث الشخوص ينتظرون كبير العائلة ، القابع في ( بير السلم ) ثم نعلم أنه لم يكن موجودا أصلا !!
   وتُعد مسرحيات ( المحروسة – السبنسة – كوبري الناموس ) ثلاثية يعبر فيها الكاتب ( سعد الدين وهبة ) عن الريف المصري قبل ثورة يوليو 1952 ، تلك الفترة التي شهدت تفسخا في العلاقات الاجتماعية ، وضعفا في الحياة السياسية ، وخنوعا من الحاكمين والساسة ، وظلما يقع علي الفلاحين الفقراء من أصحاب الأرض .
 
    وفي مسرحية بير السلم يعزف لحنا جديدا ، من ألحان تطوره الفني في مجال المسرح ، ولقد أحدثت – عند عرضها – علي خشبة المسرح القومي في عام 1966 ، جدلا كبيرا بسبب مضمونها ، فهناك من فسر شخصية الشبراوي الوهمية ، التي لم  تظهر علي خشبة المسرح أبدا ، بأنها رمز الله عز وجل !! وفسرها آخرون أنها رمز للشعب ، وهناك من فسرها علي أنها الضمير ، وأي كان الحال ، فان المسرحية تتعرض لجماعة من البشر غاب عنهم الضمير ، فلم يكن لهم غير السرقة والعبث في مقدرات الغير ، وخيانة الأمانة ، ولأن العمل تم عرضه في سنة 19966 ، فقد اعتبرها البعض ، وبسبب تلك المعاني التي حملتها ، عملا معاديا للثورة ولنظام   ( عبد الناصر ) .                                             
وموضوع المسرحية يدور حول عائلة الشبراوي ، ذلك الرجل الغني ، صاحب الثروة ، الذي أصيب فجأة بشلل ألزمه الفراش ، فلم يعد قادرا علي الحركة ، أو الكلام ، لكنه يستطيع متابعة من حوله ، نري ابنه الكبير ( حسن ) يستولي علي ثروته ، ويحاول السيطرة علي المحيطين من حوله ، حتى ولو كان خادم البيت ( فرج) ، يغدق عليهم ، لكي لا يطالبه أحد بالثروة ، ويتغاضي عن العلاقة التي تربط بين أمه ومحاميها الخاص ، ويساعد أخوه سامي ، ويعطيه مالا ، وكذلك عمه ( علي الشبراوي ) وزوجته ، ويشتري ذمة ( محمد أبو فرقلة ) ناظر الزراعة ، حتى يقوم بتزوير الأوراق – أوراق لبيع والشراء – وعندما يقف شقيقه الصغير مصطفي أمامه يقاومه ويعاتبه ، يقوم بإرساله إلى إحدى المصحات العقلية ، وتبقي أخته عزيزة ، التي كانت تحب الأب حبا شديدا ، وتؤمن بأنه سيشفي ويقوم من رقدته في ( بير السلم ) حيث المكان الذي يعيش فيه ، فهي الوحيدة الني تضحي بكل شيء ، بينما باقي أفراد الأسرة يجدون في مرض الشبراوي فرصتهم لتقسيم التركة ، والاستمتاع بها ، وفي نهاية المسرحية  لا نجد أثرا لشخصية ( الشبراوي ) تلك !! فتبدو أمامنا وكأنها وهم ، أو رمز ، ويصبح الصراع كما تقدمه المسرحية ، صراعا فلسفيا ، بين الوهم والحقيقة ، بين الواقع والحلم .                                   
 
   ومن حكاية تاريخية يرويها ( جمال الدين أبو المحاسن ) صاحب ( النجوم الزاهرة ) في أحداث عام 778 ه – 1377 م ، وفي أيام حكم السلطان المنصور علي ، في القاهرة عاصمة السلطنة المصرية ، يستقي ( سعد الدين وهبة ) موضوع مسرحيته التي عرضت علي خشبة المسرح القومي  بالقاهرة في عام 1970 م ، والحكاية هي : أن الناس رأوا حائطا كان يتكلم في أحد البيوت الواقعة بالقرب من الأزهر الشريف وقيل أن العامة كانوا يوجهون الأسئلة إلى الحائط فيرد عليهم ردودا فصيحة بليغة ، وكان رجا أسمه ( عمر ) يدعو العامة إلى توجيه الأسئلة الي الحائط ، ويحضهم علي ممارسة هذه اللعبة التي تكشف الأسرار ، وأصيب العامة بشيء يشبه الذهول ، وبكثير من الإشفاق والضلال ، ويقول المؤرخ : انهم أكثروا من القول – يا سلام سلم الحيطة بتتكلم !!
   وخاف حاكم القاهرة من أن يشتد ضلال الناس بالحائط ، وكشف سره ، وكان السر هو أن زوجة صاحب البيت هي التي تتكلم من وراء الحائط!! وأمر الحاكم بالقبض عليها هي وزوجها والرجل الذي كان يحض الناس علي أن يوجهوا إليها الأسئلة ، وأمر بضربهم وحبسهم والطواف بهم في شوارع القاهرة .                        
أخذ سعد الدين وهبة هذه الحكاية ، ونسج منها موضوعا لمسرحيته يتعرض لفكرة العلاقة بين الحاكم والمحكومين ، بل وتمتد الفكرة لتتعرض للفساد الذي يصيب حاشية السلطان العادل من معاونيه المنتفعين ، فنراهم – في المسرحية – يستعملون فكرة الحائط الذي يتكلم ، لإيهام الناس أن الحائط قال بعزل السلطان ، ومن ثم يصبح الطريق أمامهم ممهدا للوصول إلى السلطة ،  استغلال السذاجة الناس وطيبتهم .                    

نكسة  67                                                        
 
   يقول ( سعد الدين وهبة ) عن نكسة 67 ، إنها ألقت بظلال كئيبة علينا ( وأنا بدوري لم أغادر المكتب طوال هذه المدة  - يقصد مدة الحرب – فكنت أنام فيه ، وحتى يوم 9 يونيه ، وبعد أن ألقي ( جمال عبد الناصر ) خطاب التنحي ، ومع الجموع الحاشدة من الجماهير ، التي توافدت من كل مكان ، تطالب عبد الناصر بالعودة ، وعدم الاستسلام للهزيمة ، قمت بكتابة منشور ذكرني بمنشورات قبل الثورة ، قلت فيه لأول مرة " نقول لك لا ، فنحن تعودنا أن نقول نعم "  وطبعت منه حوالي ثلاثة ملايين نسخة مع أعداد كبيرة من صور عبد الناصر ، وكلمات موجهة إلى الجماهير ، وفي المنطقة المحيطة بمجلس الشعب ووسط المدينة – تقريبا – زحف الشعب علي مجلس الأمة ، يطالبه بالعودة ، وحدث لي في هذه الأثناء بعد هزيمة يونيه ، ما يشبه الغصة النفسية الشديدة ، فلزمت البيت ، وبدأت أكتب مسرحية ( المسامير ) والتي تنتهي بمقولة ( فاطمة ) زوجة الفلاح ( عبد الله ) – وعبد الله هو رمز عبد الناصر – " أضرب يا عبد الله ، قوم يا عبد الله ، اضرب يا عبد الله " والمسرحية تقول ببساطة : لا حل إلا القوة ، تلك المقولة التي قالها عبد الناصر بعد ذلك : إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة . (6)                  
     لقد استمد ( سعد الدين وهبة ) مادة هذه المسرحية من حادثتين جاء ذكرهما في كتاب ثورة 1919 لعبد الرحمن الرافعي : الأولي   حين فرض جنود الاحتلال الإنجليزي علي بعض القري المصرية تقديم عدد من الفلاحين لجلدهم يوميا يهدف الانتقام وقمع الثورة ، والثانية : حين قبضوا علي بعض الأهالي ودفنوهم في الأرض حتى أنصاف أجسادهم بحجة محاكمتهم ، ثم قتلوهم ، وهم علي تلك الحالة رميا بالرصاص ، والمسرحية تتناول جوانب الصراع الذي دار بين الفلاحين وقوات الاحتلال أثناء تلك الفترة .                                      
  لقد وصف ( سعد الدين وهبة ) – علي لسان أحد أبطال المسرحية – جنود الاحتلال بأنهم كانوا مسامير تغطي أرضنا ، وتدمي أقدامنا ، والمسرحية تقول ( أنه فضلا عن مسامير المحتلين ، فان هناك مسامير أخري يمكن أن تعرقل سيرنا ، إنها جبن الخائفين ساعة النضال ، وخشية أصحاب الأموال علي أموالهم ) والمسرحية – مثل بقية أعماله – تقف مع الفلاحين المعدمين الذين ضحوا بأنفسهم من أجل حريتهم ، تماما كما وقفوا ضد الإسرائيليين في مسرحية المحروسة 2015 . إن روح المقاومة هي الروح التي يؤكد الكاتب عليها ، ويدعمها لأن فيها خلاص الأمم ، وبها يستطيعون نيل حريتهم المسلوبة .                                        
  مسرحية ممنوعة :                                             
 
   وتطويرا لأسلوب الفنتازيا الذي لمسناه في بعض مسرحياته مثل ( بير السلم ) و ( يا سلام سلم الحيطة بتتكلم ) جاءت مسرحية ( الأستاذ) التي منعتها الرقابة ذات يوم ، ولم تعرض علي خشبة المسرح حتى الآن !                       
وفي المسرحية نري أهل المدينة ، وقد أصابتهم حالة مرضية غريبة مؤداها أنهم أصيبوا جميعا بالصمم التام ، فكانوا يتكلمون ولا يسمعون ، الأمر الذي جعل ملكة البلاد تستعين بأستاذ متخصص للبحث عن وسيلة تواجه بها هذه الحالة ، لكن الأستاذ لا يستطيع أن يفعل شيئا ، بكل ما يملكه من علم ، إلا أم يقلب الوضع ، بحيث يُشفي الناس من حالة الصمم ، ولكنهم يصابون بحالة أخري ، هي البكم ، أي يسمعون ولكن لا يتكلمون ، وتتصاعد الأزمة ، ويبدأ ( الأستاذ) العلاج من جديد ، وفي معمله يتوصل إلى علاج يأتي بنتيجة غريبة ، إذ نري فريقا يسمعون ولا يتكلمون ، وفريقا آخر يتكلمون ولا يسمعون !! وينشأ – بالطبع – الصراع بين الفريقين ، ذلك الصراع الذي يفجر المأساة الكاملة .
  إن المسرحية – علي النحو الذي جاءت عليه – تطرح فكرة التواصل بين البشر في كل زمان ومكان ، التواصل بين البشر ، مع بعضهم البعض ، ومع السلطة .. فلابد – في النهاية – أن نسمع جيدا ، ونتكلم جيدا  أيضا  ..                                                       
   إن ( سعد الدين وهبة ) استطاع – في مسرحه – التعبير عن هموم هذا الوطن / هموم الثورة المحاصرة في واقعنا المعاصر  ، وكانت رؤيته لهذا الواقع تنبع من إيمان كامل بقدرة الإنسان البسيط علي الفعل  ، مهما كان حجم الضغط الذي يقع عليه ، سواء كان نفسيا ، أو اجتماعيا ، أو سياسيا ، أو اقتصاديا .                    

 

هوامش :                          
 
1)   المحروسة 2015 – سعد الدين وهبة – الفجر للنشر والتوزيع – القاهرة 1996 
2)   المصدر السابق – صفحة 139                 
3)   من مفكرة سعد الدين وهبة - الجزء الرابع- الفجر للنشر والتوزيع 1996                            
4)   حوار مع الكاتب قبل رحيله أجرته معه صحيفة العربي الناصري                              
5)   سعد الدين وهبة – الوزير شال الثلاجة ومسرحيات أخري – أنظر المقدمة صفحة 5 – الهيئة المصرية العامة للكتاب –1980   6)   أنظر كتاب سعد الدين وهبة كاتب مصر المحروسة – إعداد: إبراهيم عبد المجيد- الهيئة العامة لقصور الثقافة - 1994
  
  








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي