الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المقهي

محمد احمد الغريب عبدربه

2015 / 5 / 5
الادب والفن


أرهقه السفر بالقطار عائدا الي شقته بعد محاولاته العديدة بالهرب من المدينة، ومن كثرة التعب والاجهاد دخل الي حجرته دون الجلوس والمرور في الصالة، ومستكشفاً أي تغييرات تحدث في المكان، تزامناً مع تغييرات المدينة واحوالها وتنقلات وتقلبات الادارات وتوزيعات السلطة، بالاخبار السياسية والحديث عنها والتأمل فيها لا تترك ذهن وخيال جمال مطلقاً.
استلقي علي السرير، ومن كثرة الاجهاد والتعب، نام سريعاً، وكان جسده مرتاحاً في التمدد والاستجابة للاحلام الوردية السعيدة، وتخلله نوماً هادئاً لطيفاً، ولم ينقطع نومه ويستيقط منزعجا كما كان يحدث في بعض الايام، حيث كان يستيقظ مفزوعاً مقرونا بهاجسا يتعلق بعواقب التطورات والتغييرات في المدينة، وخائفا من اثار ذلك علي وجوده، أو خائفا بشكل مطلق، فهو علي اقل تقدير لا يعرف تحديدا علاقته بهذه التغييرات.
استيقظ في راحة وهدوء، وارتفع عن السرير ببطء حتي اقترب من كرسيه المهشم في الصالة، وجلس ليفكر ماذا يفعل اليوم، فوجد تحت اقدامه المثقلة والمتربة ببدايات قلق مرهون بالاكتشاف، صحيفة، فالتقاطها وقرأ الصفحة الرئيسية سريعاً، ثم انتقل بهمة الي الصفحة الثالثة، وقرأ خبر تضمن " كلما قررت الادارة العليا الاستقرار، وانتبهت لحركة التنقلات في الادارات الوسطي واشاعات المارة بفقدان القدرة علي الحال الجديد، ارسلت جيوشها وعساكر النظام المحلي، للتهدئة ونشر الورود والهدايا واساليب ثرثرة جديدة علي الجالسين علي المقهي، واحيانا الجلوس معهم للمشاركة في الحديث واللغو المتعدد، وقامت هذه الادارة في الاذاعات بنشر التحريضات علي التفائل والانهماك، ولكن في احد الايام امتنعت المقاهي عن جلوس العساكر مساعدين الأدارة في زيادة الثرثرة والحكي، فقامت المذابح والاقتتال الاهلي، لعدة سنوات، وانتشر الدمار والخراب، ولم ينجو من ذلك غير بعض الشحاذين وحقراء المدينة، وبعض ماسحي الاحذية.
فشعر بالقلق والتوجس، وهم الي النزول الي المقهي لمراقبة ومشاهدة ما يحدث في الحال والتو، وجلس علي أحدي المقاعد وافترش حيزا كبيرا من الارجاء، ونظر بعينيه متوسطي الحجم الي امامه بمسافة نصف متر، حيث الرؤية محددة مسبقاً، وليس هناك شئ يراه، استمر علي هذا الحال اكثر من عدة ساعات، متمنيا ان يري شئيا يبرر هذه النظرات المستمرة والجلسة القابضة...
حاول احد الجالسين التخطيط والتدبير لمساعدته، وذهبوا الي مصلحة الرؤية والاستماع، وايضا الي عيادات تأهيل العيون للمشاهدة، بالاضافة الي مؤسسات وشركات خاصة تدعي انها متخصصة في هذا الشأن، كانت الجهود وفيرة، ومقدرة مسبقا، واتوا بالملفات والكتب في عربات نقل كبيرة، وكان علي هيتئه يحاول رؤية شئ.
فكروا هؤلاء الجالسون ان هذا الكم من المساعدة كبيرا للغاية، ولم يناله اي شخص من قبل، ولا يمكن تقديمه لهذا المواطن البائس، بهذا الحجم من الفاجعة، فذهبوا الي مؤسسات متخصصة في التلخيص والمقتطفات السريعة، وهكذا تم الأمر في ثلاثة ورقات، ولكنها كانت بلغات غير مفهومة مطلقاً.
وجلسوا بهذه الوريقات القليلة بجانبه وحاولوا القراءة والشرح، ولكنه استمر في التحديق والتركيز، رافضا الحديث او الافصاح مع هؤلاء الخيرون.
ثم همس لواحدا منهم، بأنه الان يحاول التحديق والتركيز للوصول الي شئ ما، منذ الصباح، ولديه الكثير من الفرص والغنائم لتحقيق المراد، ثم اضاف لهم " أن هذه المحاولات الذي قومتوا بها كانت جيدة ولكنها ليس في المكان الصحيح، وعليكم بالفعل مثلي، التحديق والتركيز، ولكنهم جبنوا القول والفعل، وذهبوا لمشاهدة التلفزيون، ومضاجعة بعض الاناث في الطرقات الجانبية والحمامات، والتدخين والضحكات الضخمة المبتذلة، والثرثرة، ونسوا امر هذا الشخص تماما الذي استمر في التحديق والتركيز ، أكنه ليس موجودا مطلقا، بل حاول البعض طرده، ورميه خارج المقهي.
وقام اخرون خاصة من كانوا في محاولات المساعدة برمي المياه والقاذورات عليه، وارسال الضحكات والنكات، تجاهه، ولكنه لم يبالي بكل ذلك، كان مستمرا في التحديق والتركيز في صمت.
ولكنه عندما شعر بالتعب من كثرة التحديق والتركيز، قرر الراحة قليلاً، والنظر الي باقية الجالسين في المقهي، فوجد كثير من الحمقي والكثير من حاملي صفات المقت والسذاجة، فحاول تنميط وتصنيف هذه الصفات، حتي تجاوزت المائة، فشعر بالامتعضاض والملل، فعاد مرة الي محاولات رؤية شئ ما، ولكن هذه المرة، نظر في اتجاه أخر، علي بعد متر واحداً، وفي اتجاه اكثر ظلامية وسكونا، وكان هذا يحتاج الي تغير مكانه، وحمل الكرسي ونفسه الحزينة المليئة بالعدم الي هذا المكان الجديد.
وجلس مكانه ليقوم بمهمته الجديدة، لعله يجد شيئا مفيدا يراه، واثناء هذه النظرات البائسة، جلست احد الفتيات بالصدفة في مجال الرؤية، فشعر بالاثارة والشغف، ونظر اليها بسعادة وحاول مداعبتها بهذه النظرات، حتي يلفت الانتباه، ولكنها في بداية الامر كانت تنظر حوله وخلفه، فشعر بأن هناك فرص كثيرة لكي تنظر اليه، فكانت الفرحة المؤقتة بدأت تتسرب الي قلبه ناسياً التحطيم المنتظر، والعودة سريعا الي مجال الرؤية المحدد مسبقا، والذي لا يحوي شيئا علي الاطلاق مفيدا او لا مفيدا..


ولما شعر بالملل من المقهي ومن الجالسين ترك المقهي قليلاً، ولكنه لم يترك مكانه، وسار ببطء وضجر، الي الخارج بجانب المقهي، واقترب من بائع جرائد طاعناً في السن، لديه معظم الجرائد والمجلات التي تصدرها سلطات المدينة، فشعر بالخوف والقلق، وتذكر محاولات الهروب وقيام السلطات بالحكم عليه بالرقابة الجبرية والمعاقبة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد


.. مهندس الكلمة.. محطات في حياة الأمير الشاعر الراحل بدر بن عبد




.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس