الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


املاء الغائب

ياسر اسكيف

2005 / 9 / 30
الادب والفن


لم تخف ِ البائعة دهشتها وسرورها وهي تؤرجح رأسها نافية ً وآسفة ً .
والحلّ إذاً ؟ سألتها وأنا أرفع نظّارتي التي انزلقت إلى أرنبة َ أنفي .
ربّما ذكّرتها الحركة’ بما جعلها تضحك’ . ضحكت’ معها وأنا أرفع’ نظّارة ً لم تنزلق .
والحلّ ؟ !
لا أعتقد’ بأنّك َ ستجد’ سبعا ً وثلاثين وردة ً جوريّة ً في مثل ِ هذا الوقت ِ ولو فتّشت َ كلّ محلات الورود في هذه المدينة . قالت وهي تستردّ جديّتها مكملة تنسيق سلّة من
الأزهار .
قرنفل إذاً . قلت’ وأنا أنظر’ إلى ساعتي .
سبع وثلاثون أيضاً ؟
هززت’ رأسي مؤكداً .
أرجحت رأسها بالنفي والأسف قائلة ً : ليس لدينا سوى عشرة أو اثنتي عشر على ما أظن .
لا بأس . باشري بالتنسيق . قلت وأنا أخرج مسرعاً .

* * *

أكملت عدد القرنفلات من محلين مجاورين وعدت مزهوّاً بغنيمتي .
أهي هدية عيد ميلاد ؟
سألت البائعة دون أن ترفع رأسها . واستمرّت بتوزيع القرنفلات فوق أوراق السرخس .
حزن ما رشح َ من صوتها . ناولتها القرنفلات . أخذتها دون أن تنظر إلي .
هل تجد المرأة في السابعة والثلاثين من يعشقها بهذا الجنون ؟ سألت وهي تبحث عن المقصّ .
إذ( تدخل الأربعين بكامل مشمشها) قلت محاولاً قدراً من المرح , وأكملت’ متسائلاً:
أي جنون تقصدين ؟
أنا التي رأتك كيف دخلت , وكيف خرجت , وكيف عدت . .......
كانت تلك القصيدة سبباً في تعرّفي الحقيقي على شعر محمود درويش . أكملت وهي تضمّ الأزهار إلى بعضها مطوّقة إياها بأوراق السرخس وعروق الآس .
هممت أن أسألها عن سنّها , عن سبب انكفائها وحزنها , عن..
أي لون تريد ؟ سألتني وهي تشير إلى ورق الكورنيش .
أسود .
أسود !
هززت رأسي مؤكداً .
وهل يطوّق أحد هذه الأزهار بالسواد ؟ تساءلت مستنكرة .
الوقت , أقصد الزمن , الموت .... تدافعت الكلمات خارجة وكأنما لا هدف لها سوى الخروج .
اضطربت البائعة وفتحت عينيها على اتساعهما .
آسفة ما من ورق أسود .
الشال , الشال , قلت وأنا أشير إلى شال أسود معلّق في الزاوية .
آسفة , إنّه هدية .
آسف , عفواً . وهل فقد أحد صوابه ليهدي امرأة جميلة مثلك شالاً أسود .
نظرت إلى باقة الأزهار , تلمّست بتلات إحداها , دارت في مكانها بنفاذ صبر .
النيلي إذاً . قلت وكأنّما اعتذر عما خيّل لي أنّني أوقعتها فيه .

* * *

كانت باقة أزهارٍ عارمة ٍ , احتضنتها ومضيت مسرعاً . باقة أضخم مما كنت أتوقع .
صوت احتكاك الورق مع قماش القميص جعلني أبطيء في خطوتي بحيث يشترك الصوتان في المعزوفة البدائية .
كأنما يعرفني الجميع , ينظرون إلي إذ يعبرون , بعضهم يبتسم , وبعضهم يطلق إشارة إعجاب . ارتبكت خطوتي وكدت أن أتعثّر . تمالكت نفسي , شددت قامتي , ومضيت كجندي في صفّ النظام المنضم . أو ملك ضاق به عرشه .

* * *

( كبّاس ) كتبت بأحرف تتالت عمودياً . مسحت الشارع بنظرات من فوق الكتف ودخلت بخطى ثابتة .
لم تأت بعد . عدد من طلاب الجامعة يتناولون( البيتزا) مالئين المكان بمرحهم . أربكني وجودهم , فارتديت قناعاً من التجهم طالما كان وجهي في اللحظات التي يهددني فيها المحو .
وضعت باقة الأزهار على الطاولة وجلست مديراً لهم ظهري .
جاءت صاحبة المطعم وحيتني بابتسامة اختلط فيها الترحيب بالتواطؤ والشماتة .
طلبت القهوة وجلست أنتظر .

* * *

أوه .... ! رائعة ! قالت وهي تتناول باقة الأزهار . رائعة ! كرّرت وهي تضمّها إلى صدرها .
كلّ عام وأنت ِ بخير . همست وأنا أدفعها برفق إلى الركن الداخلي من المطعم .
كلّ سنة وأنت سالم . قالت وهي تستدير داخلة ً .
مجنون . همست ونحن نجلس . ضمّت باقة الأزهار إلى صدرها ونظرت إلي دامعة َ العينين .


* * *

سلّم لي عليه
وقلّو اني بسلّم عليه
انت َ ياللي بتفهم عليه
سلّم لي عليه
سلّم .

كانت الأغنية التي قامت واختارتها من صندوق الأغاني .
كأنّما الليل الذي حاكه الكرّامون بخيوط أحلامهم يتمزّق في الريح . والقناديل التي أزهرت في العتمة نامت برسم فراشات ٍ ستأتي , وحكايات تبّدل أثوابها . ...
اختلست النظر إلى ساعتها وهي تعود إلى مقعدها .
تشاغلت بفتح علبة السجائر متمنياً دخول عاملة المطعم بأسرع ما يمكن .
ما الذي كتبته ؟ سألت مشيرة إلى قصاصة الورق التي أمامي . أرني قالت ويدها تمتد إلى القصاصة .
أنين . قلت وأنا أبعد القصاصة وأدسها في جيبي .
قلبت شفتها السفلى مستسلمة . وسحبت يدها الخاوية ببطء المنهكين من الهزيمة .
ما الذي تريدين تناوله ؟ سألتها وأنا متشاغل بإخراج سيجارة .
بيرة . قالت وكأنما هو خيارها الوحيد .
أيضاً ؟
( بيتزا ) وسلطة ملفوف . قالت وهي تهز رأسها كأنما تردّد ما يمليه عليها أحد .
للمرّة الثانية تختلس النظر إلى ساعتها . وللمرّة الأولى تمتدّ يدي إلى مقربة وتنكفيء
دخلت العاملة بجلبة بدت مقصودة , أحدثها الاصطفاق العنيف للباب الخفيض , الذي يعترض الممرّ بين ركني المطعم . حيّت بانحناءة بسيطة وانتظرت .
كانت تسجّل الطلبات وهي تختلس النظر إلي . ذات النظرة التي قابلتني بها عند دخولي . نظرة تحتمل الكثير من المعاني .
أبيض أم أحمر ؟ استوضحت عن لون النبيذ وكأنما تشجعني على اختيار الأحمر .
وجدتني أوافقها , وكأنما أردّ لها جميلاً , مع أنّني أحبّذ الأبيض .
كأس أم زجاجة . ؟
مبدئياً زجاجة .
ضحكت وهي تدور ذاهبة بحركة راقصة .

* * *

تسلّل النبيذ إلى الأعصاب إلهاً لا يجيد المغفرة . والخاسرون هم من تقاطروا متخبطين فيما تبقى من السائل الأحمر في قعر الكأس .
لا أطلب شيئاً من الملائكة أو القديسين . قلت وأنا أسكب ما تبقى من الزجاجة الثانية .
إلى متى سندفع ضرائب حقيقية عن أرباح وهمية ؟ سألت بنفاذ صبر وهي تمسح البخار المتكاثف على الكأس .
لا تسامحهم يا إلهي . قلت وأنا أرفع الكأس مفرغاً محتواها دفعة واحدة .
علينا الذهاب . هيا . تأخرت على الأولاد . قالت وهي تنهض .
بل عليك ِ الذهاب . لست على عجل ٍ .
وستبقى وحدك ؟
ستؤنسني وحشتي .
ألن توصلني إلى المنزل ؟ قالت بقليل من الغنج الذي طالما أطار صوابي .
لا أعتقد . لم أطق القيام بذلك يوماً . وفي كل مرّة أوصلتك تمنيت لو غادر منزلك مكانه , وإذ وجدناه كرّرت الأمنية .
أتتركني أذهب وحدي ؟
نامت كلاب الضوء , والمغفرة عالقة في سرّ ميزان الذهب . أنت ِ لا الملائكة من سيجعلني أترنّح نزولاً على سلّم ِ مطعم ( كبّاس ) . اسنديني كما فعلت ِ دوماً , ولا تبخلي , كما العادة , بالثناء على مقاومتي , حتى يتملكني ذلك الوهم غير المنقوص بأنني أنتصب بقدرتي . ثمّ اقفزي بعيداً . لا تتسللي كالرحمة , أو كالقطة المنبوذة .
دعيه مكتملاً .... صاعقاً ..... ومدويّاً .
أحبّك يا مجنون . أحبك .... أحبّك . غمغمت وهي تضمّني لتنهضني عن المقعد .
نهضت مترنّحاً وأبعدتها دون قسوة . تقدّمتني بخطى بطيئة وقامة منكسرة . تبعتها وأنا أدندن : سلّم لي عليه . وقبل أن أدفع الباب الذي غابت خلفه نظرت’ إلى باقة الأزهار المتروكة وحيدة على الطرف الموحش من الطاولة . كانت هادئة وجميلة في ثوبها الأسود . ترنّحت عائداً إليها . حماتها كما فعلت من قبل . تلمّست تويجاتها المحايدة , وألقيت بها في سلّة المهملات . فاضت الأزهار آخذة راحتها , وبدت السلّة مزهريّة جليلة .

* * *

أظنّك ِ نسيت ِ باقة الأزهار . قلت ونحن نطأ الرصيف .
آ آ آ ه .. صحيح ! قالت وهي تستدير باتجاه المدخل .
لا بأس . كان موتاً جميلاً عاشت لأجله . قلت وأنا أمسك بذراعها وأثنيها عن العودة .
لكن .... قالت مقاومة .
لا بأس . قلت . وبحركة من يدي التي تمسك بذراعها حسمت الأمر .

* * *

شكراً لأنّك ِ توّجتني ملكاً لدقائق . همست وأنا أفتح لها باب التاكسي .
أتّخذت ِ الجانب البعيد من المقعد مفسحة لي مكاناً .
أغلقت’ الباب وسط ذهولها ودهشتها .
شكراً على كلّ شيء ..... شكراً على كلّ شيء . عويت’ وأنا أمضي إلى رمادي .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل