الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(العجوز)

سيف عبد الكريم الربيعي

2005 / 9 / 30
الادب والفن


من بداية الشارع المؤدي إلى السوق الشعبي ، وضعت قدمي كآلاف الناس الذين اكتظ بهم هذا الشارع الضيق، ضمن اختناقات عديدة تعانقها تلك الوجوه الطافحة في القيظ، التي تصفعها حرارة الشمس المتوهجة في كبد السماء، دون مراعات إرهاق هذه الوجوه اللاهثة. الكل متعب هنا، بمن فيهم هؤلاء العمال الذين تقشرت جباههم من حرارة الشمس، وسقطت فكوكهم على صدورهم، وضمن هذا السيل البشري ضلت قدماي تسير بإيقاع متشضي، اعتصر الخطوات من شدة التعب والحر، تسيل بين تضاريس وجهي قطرات العرق، ذابت رئتاي من حرارة الهواء المستنشق، تتوزع ارناءاتي على معالم الوجوه المتعبة، وأرنو مرة أخرى إلى البيوت المطلة على هذا الشارع، فأشعر بماسات سكان هذه البيوت، كيف يتجرعون ضجة الشارع المستمرة حتى في هذه الظهيرة المحرقة ....
عندما رأيتها.... كانت تجلس على رصيف الشارع، وعشرات الأحذية تقرع أمامها على الإسفلت اللاهب، ترتدي ثياب رثة قد أبلها العرق وكان ألاين طافحا فوق ثنايا وجهها المتعرج، تنظر إلى الناس بانكسار والمسكنة تتوقد في عينيها الغائرتين في محجرين قد بانت عظامهما، لا وجود للظل فوقها بل كانت الشمس تهرس هامتها، بيدها الناحلة المجعدة تمسح وجهها الذابل...
تملكني التردد في الوهلة الأولى، ولكنني بشعور لا إرادي وجدت نفسي واقف أمامها، أجول بناظري في معاني ذلك الوجه المتكسر، الذي تصفعه الشمس الحارقة طوال نهار مكبل بالذل والحسرة، مددت يدي وأعطيتها بعض النقود، ما يكفيها لطعام يوم كامل، فأردفت بالشكر والدعاء لي بالتوفيق والرزق لدائم ، كانت كلماتها صافية، نقية، تبزغ من بينها شمس الأمومة، كانت شبيهة بكلمات والدتي ، والتي ما سمعت مثلها منذ وفاتها إلى حد هذه اللحظة التي عادت بها تلك الكلمات على لسان هذه العجوز الهالكة، التي أعادت إلي الإحساس المفتقد بوالدتي، ارتخت جوارحي، واشتاقت جوانحي للنظر إلى وجهها الذي أكاد أنسى ملامحه، إلى خشونة يديها، وحنان صوتها، وكلماتها اللذيذة ....
ضلت كلمات العجوز ترن في أذني، حتى أصبحت لا اسمع أي صوت يطلق حولي، وبقيت منشغلا بسحر صوت أمي الذي يردد كلمات العجوز، لقد أنساني حرارة الشمس ، وزحمة المكان حتى وجدت نفسي غائرا في نهاية الشارع، حيث ازداد الزحام إلى ما لا يطاق ، أحسست في اللحظة بيد تتسلل إلى جيبي ، وبلا إرادية انقضضت على تلك اليد التي فوجئت بتجعداتها ونحولها، وما إن رفعت رأسي حتى تنفست ريح وجه العجوز....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة أخيرة -درس من نور الشريف لـ حسن الرداد.. وحكاية أول لقا


.. كلمة أخيرة -فادي ابن حسن الرداد غير حياته، ومطلع عين إيمي سم




.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب