الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مأزق اليسار

هيثم بن محمد شطورو

2015 / 5 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


إن جوهر أزمة اليسار هو التـناقض بين أخذه بالفكر الماركسي الأوربي و بين خطه النضالي العام في التحرر من الاستغلال الامبريالي الغربي. هذا ما تعجز المجتمعات العـربية عن تـفهمه. من هنا فاليسار تيار غريب على المجتمعات العـربية. ليس لكـونه لا يتـضمن في برامجه السياسية لحلول اقـتصادية أو لرؤية أخلاقية سياسية تـتأسس على مقولة المساواة، و إنما لتبنيه العلني لفيلسوف أوربي محمل بما للغـرب من رفض عام لهيمنته و احتلاله و نظرته الفوقية المحتـقرة للمجتمعات و الثـقافة العربية. المجتمعات العربية ترى في اليسار أداة هيمنة غربـية و ترى فيه شرذمة ضالة تـنكرت لأهلها و لدينها و ثـقـافـتها و تراثها و تاريخها. و جل ما عمل عليه اليسار هو تـثبـيت هذه النظرة بقصد أو بغير قصد. بل ان اليساري يعتبر نـفـسه نخبة راقية مترفعة عن ثـقـافة الجماهير البائسة برغم تبنيه لمقولة كونه المعبر الوحيد و الأصدق عن مصلحة الجماهير. و كل فـشل اليسار يرجعه اليساري إلى تخلف الواقع الثـقـافي و في انتـقـاده الذاتي إلى الخطأ في التطبـيق و ليس في النظرية. و جل ما يعـمل عـليه هو الهروب من أزمته الحـقيقية التي هي أزمة فكر مغـترب غير قادر على الانـتـشار بين الجماهير الواسعة. لذلك بنا لنفـسه أطروحات النخبة الطلائعية الثورية التي تـنـقض على السلطة لتحرر الجماهير.
يقول عالم الاجتماع "ويلهيلم ديلتي": ".. حيويتـنا الداخلية و العالم الخارجي يكونان في تـفاعل مباشر و كل واحد منا يتمتع برؤية للحياة، لأننا ذوات مفكرة تـقيم علاقات متبادلة مع العالم الخارجي". فالتاريخ لن يكون قابلا للفهم بدون تحليل واقع الأفـراد انطلاقا من الواقع الحي و فهم الواقع الاجتماعي انطلاقا من الحياة التي نوجد و يوجد فيها الآخرون. أما اليسار فان الفرد لم يدخل بعـد في أدبياته و إنما هو مجرد رقم يتلخص في انتمائه لطبقة البروليتارية أو البورجوازية أخذا بتوصيف الشيخ "كارل ماركس" للمجتمعات. و برغم زلزال الثورة التونسية لازالت هذه النظرة الطائرة في سماوات دائرة الوهم تسيطر على عـديد اليساريـين. إنهم لا ينظرون إلى الثورة إلا بكونها انفلاته فجائية خارج دائرة التخطيط المركزي لعـقـلهم الجبار و بالتالي يكون دورهم اليوم في بناء زعامة افـتـقـدتها و آلة حزبية افـتـقـدتها، لتـقـوم بدفع الجماهير إلى ثورة ثانية تمكن الطليعة الثورية الطاهرة النـقية من الانـقـضاض على السلطة لتحـقيق أهـداف الثورة. تلك الأهـداف التي لم تعرف الجماهير بعـد سبل تحـقيـقها نظرا لغبائها و قصورها و عجزها عن تبين الخيط الأبيض من الأسود.
فبرغم مشاركة اليسار الفاعلة في الثورة إلا ان الثورة التونسية كانت اكبر منه و هذا ما يرفض الاعتراف به. فموضوع الثورة الرئيسي هو التحرر من دولة البوليس التي تحولت إلى عصابة مافيوزية تحتـقـر الجميع و تهـدد الجميع. موضوع الثورة الرئيسي هو الكرامة الإنسانية. البحث عن استرجاع وطن قد ضاع لسطوة عصابة عليه عملت على تهميش الدولة و المجتمع. و الواقع ان الانـتـفاضة الشعبية كانت مزركشة الألوان و لا يتجرأ أي كان ان يقـول أنها ثورة البروليتاريا أو الكادحين فقط، بل ان جل البروليتاريا أي الطبقة العاملة لم تـشارك في الثورة و إنما البطالين و الطبقة الوسطى و أبناء بعض الأثرياء كذلك. فبعكس انتـفاضة الخبز سنة 1984 فان المتظاهـرين لم يحرقـوا أي سيارة مرسيدس. و بما ان الانتـفاضة كللت بتدخل مؤسسة الجيش فإنها تحـولت إلى ثورة اطردت الرئيس "زين العابدين بن علي" و عائلته و عائلة زوجته من الحكم. و في الحقيقة فان كل انـتـفاضة شعبية لا تـتحـول إلى ثورة إلا بحسم المؤسسة العـسكرية مثـلما حدث في تونس و مصر. فحتى الثورة البلشفية التي كان لها ان تـلتـقـط بمهارة "لينين" السخط الشعبي على مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، و سخط الجيش، فانـدفع بكل قوة نحو التـقاط الفرصة التاريخية بان اعتبر المشاركة في الحرب لا مصلحة للشعب الروسي فيها و دعا إلى تمرد الجيش و هروبه من الجبهات، و فعلا التحـقت الكتائب الهاربة من جبهات القتال إلى ثورة البلاشفة مما حقق ثورة 1917. من هناك تكون ما سمي بالجيش الشعبي الذي كان عماده هو جزء من جيش الـقيصر. و في الحرب العالمية الثانية انشأ ستالين بما سمي بفرقة الإعدامات و هي تـتمركز وراء الكتائب الرابضة في الجبهة لتـقوم بإعـدام كل جندي يهـرب من المواجهة و ذلك خوفا من تكرار سيناريو الحرب العالمية الأولى التي أوصلت البلاشفة إلى السلطة فتخرجهم منها في الثانية. كما ان "ستالين" استنجد بمقولة الوطنية التي حاربوها في تجيـيـشهم لثورتهم في الحرب العالمية الأولى، بالقول ان الوطنية مقولة بورجوازية تمرر منها صيغ استغلال البروليتاريا و دفعهم إلى حرب يموتون فيها من اجل حياة البورجوازية المتعـفنة..
و هنا يتم تحـديد دائرة الوهم و الخطأ التاريخي الكبير الذي يمكن لليسار من الوقوع في خيـبة تاريخية عـظيمة بل ربما إلى انـتحار جماعي. فالآن هناك تأسيس لنظام ديمقراطي. دستور ديمقراطي و انتخابات حرة و نزيهة و إعلام حر. هناك دولة جديدة بصدد البناء. و صحيح ان الحركة بطيئة لعـدة عـوامل إقـليمية و دولية و داخلية متـشابكة، و لكن الخطوات التأسيسية بدأت فعليا. و برغم الاحتجاجات الشعبية و الإضرابات إلا ان الأمر لا يعني بتاتا إرادة في الارتماء في المجهول، بل ان رأيا عاما يشجب الإضرابات يتـسع يوما فيـوما، و يجب عـدم الاستهزاء بمقولة ان الاحتجاجات تعرقـل التـنمية. فأنت الآن لست في مواجهة إيـديـولوجية اسلاموية تـدميـرية تخـريـبـية للدولة و المجتمع. أنت إزاء حكومة لا تـتـبنى أي إيـديولوجية. و هي في كل الحالات قـد تعـرف النقـد اللاذع و لكن ليس السخط و الغضب منها. هناك تـقبل عام يـرافـقـه تحـفـز دائم فيما يخص الحـريات و المطالب الاجتماعية.. هذه الحالة و ان تصاعـدت وتيرتها، فإنها لن تـؤدي إلى انـتـفاضة شعبية و في كل الحالات فان الانـتـفاضة لن تكون ثورة لان مؤسسات الدولة لن تحسم أمرها إلا في إطار الدعـوة إلى انتخابات جديدة في أقصى الحالات.. أي ان حلم ثورة يسارية وهم الأوهام و ما على اليسار أو الجزء الثورجي الحالم منه ان يستـفيق من أوهامه. ليس من طريق أمامك إلا التكيف مع الديمقراطية و آليتها الانتخابية و مناخها الاجتماعي و المفاهيمي.. ليس على اليسار إلا ان يواجه عقمه النظري و التجانس مع المجتمع في وعيه التاريخي و الآني و المستـقبلي. على اليسار ان يخرج من مقولة الصراع الطبقي لأنه ما من طبقات واضحة المعالم من جهة و ما من إمكانية في الذهنية العربية الثرية بالكلمات و ذات المخزون الحضاري الكبير ان تختـزل وعيها في المصلحة المادية المباشرة. فالعرب امة الكلام و الخطابة و توليد المعنى. و يكون من التطابق الفعلي ربط مقولة المساواة بالمحبة و السلام و في تقاطع مع العبودية للاه كجوهر للتحرر من أي خضوع لأي كائن بشري..
و يجدر باليسار ان يؤسس لمقولة العـدالة و رفض الظلم بكل أشكاله. يجدر به تـنويع اهتماماته و تحركاته و أساليـبه بحيث يبرز كأرفع صوت مدافع عن رفع المظالم الفردية و الجماعية. يجدر به ان يتحمس لما يخص نكهة الحياة الجماعية و الفردية في بناء جمالية المدينة و نظافتها البيئية. يجدر به ان يقوم بإنشاء دراسات حول وضع المحاكم و المظالم التي يعاني منها كثيرون نتاج البيروقراطية و التساهل في زج الناس في السجون و التحول الفعلي إلى القانون كأداة للتسلط و التمييز بدل ان يكون أداة لتحقيق العـدالة. يجدر باليسار ان ينصهر تماما في معركة إعادة بناء مدينة أخلاقية إنسانية تتأسس على ما هو موجود فعلا من تناقضات عينية و ليس على المقولات الجوفاء بما أنها لا ترتبط فعليا بالواقع الحي. فإذا كان الشعب فعلا هو همك فابحث عن كل ما هو حق و عـدل و مساواة لتـنهض دفاعا عنه و إعلاء لأخلاق واقعية جديدة تـتـشكل بكل المعاني و الكلمات و المرجعيات بما فيها المرجعية الإسلامية و التراثية بتـنوعهما الكبيرين.. فـليس من طريق أمام اليسار إلا المصالحة مع مجتمعه و الخروج من غربته و قوقعته الهلامية..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أولينا زيلينسكا زوجة الرئيس الأوكراني. هل اشترت سيارة بوغاتي


.. بعد -المرحلة الأخيرة في غزة.. هل تجتاح إسرائيل لبنان؟ | #غرف




.. غارات إسرائيلية على خان يونس.. وموجة نزوح جديدة | #مراسلو_سك


.. معاناة مستمرة للنازحين في مخيم جباليا وشمالي قطاع غزة




.. احتجاج طلاب جامعة كاليفورنيا لفسخ التعاقد مع شركات داعمة للإ