الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماكينة صك الشعارات الجوفاء!

السيد شبل

2015 / 5 / 16
مواضيع وابحاث سياسية


يقال أن الكلمات عند أهل الله العارفين هي أزرار ومفاتيح إلى معان مطلقة وخروج عن تقييد اللفظ، ويقال أن الكلمات عند غيرهم وظيفتها الأولى أن تعمل كأوعية للمعان التي يريدون إيصالها بشكل مباشر؛ أما الكلمات عند ساسة اليوم فهي بمنتهى الصدق "تمييع للمعان"؛ حتى صاروا كآلات صك المصطلحات، التي لا تتوقف عن العمل ليل نهار، بهدف إطلاق شعارات جديدة وبراقة وفاتنة، وتؤدي دورها "الديماجوجي" المطلوب على أكمل وجه، فهي من جهة تقدم المصطلحات الغنية بكل محفزات الحشد والمزوّدة بكل البهارات التي تساعد على تأجيج الصراع وإزكاء حالة الاستقطاب والاحتراب الداخلي في البلاد العربية، ومن جهة اخرى تلعب دورها في تمييع الأهداف، فلا تدل على شيء بعينه ولا تطرح شيء ثابت يمكن بناء صروح من التفاؤل استنادًا عليه.

الساسة الذين يتخندقون خلف متاريسهم اليوم في الفضائيات الممولة تركيًا وقطريًا وصهيونيًا (صراحة ومن خلف ستار)، ويؤدون دورهم كـ"ألتراس" حماسي يلهب مشاعر اللاعبين، فيتحدثون بنبرة عالية وصاخبة عن ما يسمى بـ"مقاومة الاستبداد"، ويدمرون طبلة أذن المتابع وهم يهتفون بـ"الحرية"، دعونا نعرّفهم: هم مجموعة مهجنة مخلّطة من طوائف سياسية لا يجمعها مشترك، كل واحد منهم ينطلق من مرجعية تتناقض في أبسط أبجدايتها مع الجالس إلى جواره في مقعد الأستوديو الفصائي الوثير، جمعتهم أموال مشايخ قطر ووحدتهم الأرصدة التي تتضاعف بين طرفة عين وانتباهتها في البنوك التركية، هؤلاء الذين يطلون على الشاشات يتحدثون لغة واحدة حددت "السي أي إيه" نغمتها، هم مجموعة مخلطة من ليبراليين ومتأسلمين وفوضويين وأتباع لكل مذهب فكري شاذ وجد في أرضنا غير المحصنة ساحة ليجرب فيها ترهاته، لو سألت كل واحد منهم عن تعريف الشعارات التي تلوكها ألسنتهم، لسمعت العجب، فكل منهم سيشق طريقه الخاص الذي يتضاد مع طريق "رفيقه" من أول خطوة إلى آخر المشوار، وتأكد أنك لن تجد اثنين منهم يملكان تعريفًأ ثابتًا لما يطلقونه من شعارات، وأمهرهم سيفتش في كتبه العتيقة حتى يصل لتعريف محدد للكلمات الفاتنة التي يملأ بها الدنيا كل ساعة ويرجو أن لا يقعدها. هؤلاء المرتزقة، في الواقع، وكما أثبتت الأيام لا يكلفون أنفسهم عناء البحث عن خطة محددة لإدارة الصراع الذي يؤججون نيرانه كل ساعة، ولا يدور ببالهم رؤية أو مشروع لإدارة المرحلة التي تلي انتصارهم إن تحقق فرضًا!، هم فقط يؤدون دورهم المرسوم لهم بمهارة، في تسخين الأوضاع، وتوفير الوقود بكميات مناسبة لتستمر النيران في الاشتعال.

وفي ظل الشعارات الجوفاء والأهداف المائعة، يتم حشد الناس زمرًا لتسيل دماؤهم عبثًا، ويتوهم كل واحد منهم أنه بطل يسطّر بدمائه مستقبل أفضل لبلاده، بينما هو في الحقيقة لا يزيد عن ترس في ماكينة إنتاج "الفوضى المحضة" في بلدان العالم الثالث وفي مقدمتها الأقطار العربية، بهدف تحقيق أحلام زعماء العالم الحديث الجالسين على مقاعدهم الوثيرة في قصور الحكم في الجهة الغربية من المحيط الأطلنطي!

لسنا نعرف عصرًا في التاريخ لعبت النخب السياسية فيه دورًا بهذا القبح؛ فقد عرفت كتب التاريخ في فصولها المظلمة الطامعين في السلطة، وعرفت الأفاقين الذين يستغلون حاجات الجماهير لتحقيق مصالحهم، لكنها لم تعرف أبدًا هذا الصنف من النخب الذي يسوق بلاده إلى تلك المنطقة الضبابية التي يستوي بها في عين الناظر، غير ذي بصيرة، الوجود بالعدم، وتصير فيها الفوضى قانونًا، والاحتراب بين الأشقاء قاعدة، والثأر فيها دوامة لا يرتوي أصحابه مهما شربوا من الدماء.

هل يمكن لأي منصف أن يوصّف تلك الحالة بأي شيء سوى أنها إرادة التخريب، عبر آليات مائعة ومطاطة ومجهّلة، تستتر خلف كلمات كـ(الإصلاح، والتغيير، والديمقراطية)، أُسيء استخدامها إلى الحد الذي صارت هي ذاتها حجابًا، وتدل على غير معانيها الأصلية وتفيد في أغلب الأحيان عكس مدلولاتها المتعارف عليها منذ زمن، فصار دعاة الإصلاح مخربين، وصار المطبلون للديمقراطية إقصائيين إلى أبعد مدى ممكن.. متعالين على القوى الشعبية في عمومها، وصار الرافعون شعارات التغيير هدّامين، راغبين في الهدم معادين للبناء.

حقيقة هؤلاء الذين انحسرت أدوارهم مع الاستفاقة الشعبية الجارفة في الثلاثين من يونيو، والتي أمتدت آثارها الإيجابية إلى أغلب دول المنطقة، يحتاج خطابهم إلى تحليل جوهري، لا يناقش ترهاتهم، بل يسألهم عنها!، عن مقصهودهم من ورائها!، عن تعريفهم لها!، عن المرجعيات التي ينطلقون منها!، ولدينا يقين أنهم سيكشفون من تلقاء أنفسهم حجم خوائهم الفكري الممزوج بكمية مفرطة من النرجسية والتعالي، وليس أجدى من تلك الوسيلة لفضحهم وكشف أساليبهم الخبيثة الرامية لإبقاء المنطقة على الصفيح الساخن، لا تغادره.

لا نريد للكلام أن ينسحب ليعطي مبررات مضافة لمن يتغاضون عن أي فشل لدى الأنظمة العربية، المستهدفة في هذه المرحلة، في إدارة ملفاتها السياسية والاقتصادية؛ بحسب ما يعطي العقل الأحادي الذي يتعامل مع النص بانغلاق ويحاول حصر كاتبه في اتجاه معين. ولكن ما نريد له أن يصل هو نصب ميزان حساس للمطالبين بالتغيير، وبناء على ذلك التمييز بين صنفين: الأول، الذي يحمل معول الهدم ويستره أسفل عباءة التغيير، ويحاول عبر خطاب مراوغ وشعارات مطاطة تمييع الأهداف، دون أن تنفلت منه الحبكة اللازمة والتي تعطي مفعولها مع الأتباع المغفلين؛ والثاني، الذي يطلب الإصلاح بنية صادقة. وإن كان مع الأسف، فأتباع (جلهم لا كلهم) هذا المعكسر في بلادنا، لا يزالون يجهلون الآليات التي يستطيعون منها العبور لتحقيق مشروعاتهم أو أفكارهم الأصلاحية، وفي كثير من الأحيان يعجزون عن التمييز بين الدولة من حيث أنها بناء خدمي وظيفي ومؤسسي، لا بد له أن يستمر، وبين مديري هذا الكيان المؤسسي الذين يصيبهم داء الفساد، ويمكن نعتهم بالفشل أو العجز والتقصير؛ لذا فالصنف الثاني من المفكرين أو الساسة مطالبون أكثر من أي وقت مضى بوضع ملامح لمشروعهم وآليات عملهم، ليميزوها على الأقل عن سواها، كما أن عليهم تجنب فخ تُستنزف فيه طاقاتهم، هذا الفخ المسمى بـ(الشعارات والعناوين)، بل عليهم بذل جهد أكبر في تقديم مشروعات إصلاحية حقيقية كل في مجاله وفيما يحسن، مع خلق حالة من التوزان تراعي الواقع في كفة، والاحلام والطموحات في الكفة المقابلة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صور أقمار اصطناعية تظهر النزوح الكبير من رفح بعد بدء الهجوم


.. الفيفا يتعهد بإجراء مشورة قانونية بشأن طلب فلسطين تجميد عضوي




.. مجلس النواب الأمريكي يبطل قرار بايدن بوقف مد إسرائيل ببعض ال


.. مصر وإسرائيل.. معضلة معبر رفح!| #الظهيرة




.. إسرائيل للعدل الدولية: رفح هي -نقطة محورية لنشاط إرهابي مستم