الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطلياني وضياع صبر المنشئ

سامي البدري
روائي وكاتب

(Sami Al-badri)

2015 / 5 / 16
الادب والفن


الطلياني وضياع صبر المنشئ
ثمة وهم عاشه جيل مثقفي الستينيات من القرن الماضي، حاولوا من خلاله أسطرة ذواتهم ومنجزهم الثقافي، بطرح أنفسهم على إنهم المثقفين والمناضلين الأصلاء الوحيدين في التأريخ العربي، وخاصة في المشرق العربي.
لا أحد ينكر على ذلك الجيل جهده في التأسيس طبعا، ولا أحد ينكر عليه ـ ولأسباب فرضها واقع تململ الشعوب العربية للتحرر من هيمنة الإستعمار المباشر وما رافقها من مد أيديولوجي فرضته طبيعة المرحلة ـ نضاله ضد الإستعمار وبقايا أذنابه الظاهرة؛ إلا أن إصرار ذلك الجيل على أسطرة نفسه وجهده، وتمسكه إلى اليوم بفرض (تاريخ نضاله) على إنه المادة والموضوع الأهم للرواية العربية، مسألة باتت تشخص على إنها عقبة كأداء في تنوع ومعاصرة مواضيع وثيمات الرواية العربية ومجاراتها للواقع المعيش وما رافقه ويرافقه ويرشح عنه من إفرازات وإنعطافات، حضارية وتكنلوجية وتاريسياسية (وحاليا جيبولوتيكية وديموغرافية وكيانسياسية)، ومنذ ما قبل أن يطوي القرن الماضي صفحته، بعشرين سنة كاملة.
فكرة تجييل الفعل الثقافي، مارسها أدباء (وأغلبهم شعراء) جيل الستينيات وإستخدموها كعوامل تهميش وإقصاء ونبذ لمن سواهم، أو من تلاهم من أجيال، في العراق وسوريا ولبنان... وحتى الكويت، بقسوة وإستعلاء مفزعين، قصد تقزيم وتهميش جهد سواهم، رغم إنقسامهم على أنفسهم إلى فرقتين، مع وضد النظام السياسي الذي قام على أثر التحرر من الإستعمار المباشر.
ومن يومها إنقسم أولئك الأدباء إلى فرقتين، تطرح كل منهما مناضليها الايديولوجيين على إنهم أنصاف آلهة لا يخطئون ولا يجوز الشك في صلاحهم وصلاحيتهم لكل أشكال وعصور النضال السياسي والوطني، وخاصة في العراق وسوريا البعثيتين، حيث إنقسم أدباء ذلك الجيل إلى فريق بعثي ـ قومي يناصر النظام، وجيل يساري يعارضه، الأول يبشر بجنة النظام الجديد، والثاني يعض على جراح خيبته ويرسم صور إنكساره وتمرده في كل ما يكتب، وخاصة في حقل الرواية.
هذه المقدمة الطويلة أراها تمهيدا (تأريخيا) ضروريا جدا لدخول عالم (طلياني) شكري المبخوت، الرواية التونسية التي وصلت إلى القائمة القصيرة لبوكر هذا العام.. الحسنة التي يجب أن أقر بها من البداية للمبخوت هي كونه نزع عن بطله، المناضل اليساري (الطلياني) رداء القداسة، (وعلى عكس ما طرح يساريي ستينيات القرن الماضي) وفضل تقديمه كإنسان عادي يخطئ ويصيب ويستغل وسامته لحصد أكبر عدد من النساء على سرير الخدمة الجنسية.
ولكن، ومع ذلك، فإن المبخوت، وهو من البلد الذي إنطلقت منه شرارة ثورات الربيع العربي (قبل أن يشاء له العالم المتقدم أن يتحول إلى صقيع مفزع) في منتصف الربع الأول من الألفية الثالثة، لم يجد ما يسوق لنا رؤيته عبره، غير مرحلة ستينيات القرن الماضي، وعن طريق بطل يساري منكسر ومخذول من قبل نظام الحبيب بورقيبه وبن علي، المماثل في تسلطه وتجبره لنظامي البعث في سوريا والعراق، وليلوك لنا قصة الإنكسار والخيبة ذاتها التي أصابت يساريي الستينيات في البلاد العربية، مع فارق بسيط، في الشكل، وهو خلع رداء القداسة عن هذا المناضل، ولكن لأسباب خيبة شخصية (تعرضه للإغتصاب على يد شيخ مسجد، علالة) وليس لأسباب إنحراف النظام السياسي الذي خلف المستعمر الفرنسي في حكم تونس.
المشكلة التي عاناها شكري المبخوت مع (الطلياني) الذي قدمه لنا هي عجزه عن إقناعنا بأي من مسببات مراحل تصاعد حبكة روايته ولا بأي من أسباب تأزمه وإنكفائه وردود أفعاله، بتحوله إلى منتقم شبقي، لا يرى من طريق له غير الفتوح الجنسية على سرير اللذة المحرمة، ولكن أيضا ليس لإمتياز شخصي أو فكري منجز، إنما لإمتياز ما منحته الصدفة من وسامة تخلب قلوب النساء.
ولعدم توفر المبخوت على أدوات صنعة الرواية الفنية والتقانية وخبرة الإشتغال المخلص على عمله (أو العمل بعبودية، كما تصفه الروائية البريطانية، فرجينيا وولف)، نراه يتخبط منذ أول لحظة لتأسيس جسد ومعمار رواية (الطلياني) بإعتماد صيغة الإيهام والشد الميلودرامي لجر المتلقي من ضلع التشويق المفتعل، لمتابعة القراءة؛ وهذا ما عمد إليه إذ بدأ روايته بحادث قذف البطل/الطلياني لوجه إمام المسجد، علالة، بحذائه ليدميه ويثير دهشة وإستنكار مشيعيّ جثة والده، وليبقي سبب هذا الفعل سرا مدارى، إلى الفصل الأخير من الرواية، لشحذ إهتمام القارئ وإغرائه بمتابعة القراءة.
ولقلة حيلة المبخوت في مخياله، وعجزه الفني، في فعل البناء السردي، ولعدم إمتلاكه من أدوات الإيهام الفنية ـ يسميها الروائي الكبير، غابريل ماركيز، التوابل ورأس البصل وباقة البقدونس وبضعة من أسنان الثوم، التي تمنح الطبخة مذاقها المميز والمدهش ـ ما يكفي وما يؤهله لبناء عالم روائي متكامل، عن طريق تحويل الوهم وغرائبيات المخيال، إلى لذة دهش وإزاحة، تتمكن من فرض نفسها على تشوّف وشغف القارئ في الطفو على عنت وغلواء الواقع، وبالتالي قبولها كأوهام ضرورية، بالحد الأدنى، إن لم تتجاوزها، بقبولها كبدائل يجب تحقيقها، من أجل تحريك ركود بركة الواقع الراكدة عند النقطة تسعين من المرارة والعسف... والأهم تبدد حسه وفقدانه ـ الواقع ـ للجمال ومحفزاته.
وبناء على قلة الحيلة هذه، أرى أن المبخوت قد اضطر لإفتعال أسباب ومسببات غير مقنعة، لإضفاء عناصر الشد، على مراحل تطور حدث الرواية وحبكتها؛ وهي التي أظهرت نواحي عجزه عن إيجاد بدائل سلسة، لما ضخه من أفعال درامية، لا تتوفر على عناصر الإقناع (من مثل مزامنة وربط لحظة تقويض تصدعات الطلياني "الكأس كانت مهشمة من البداية" الداخلية، بإستدارة ريم ـ التي كان يهم بمضاجعتها، رغم تلقيه لخبر وفاة والده عن طريق الهاتف ـ لتعطيه مؤخرتها لممارسة الفعل "حفاظا على بكارتها" بلحظة تذكره لفعل الإغتصاب الذي تعرض له في صباه، على يد إمام المسجد، ذلك الفعل الذي قدمه المبخوت على إنه السبب المضمر "وتهشيم كأسه من البداية" لأزمة الطلياني.، وأيضا قدمه على إنه حل لعقدة الرواية) الكافية ولم تشفع له كمبررات لمفتعلاته المليودرامية والدرامية، التي أثقلت كاهل النص والمتلقي بأعباء ترقب وإنتظار تفتقر للمبررات بقدر إفتقارها لعناصر الشد والجمال السلسة.
تقوم مشكلة المبخوت في هذا العمل في تورطه بمنطقة الخطر... بل المنزلق في الكتابة الإبداعية، وهي ملاحقة المدلولات، بفضفاضيتها الحكائية ـ في العمل السردي ـ بدل ملاحقة الدوال، كمنسقات وضوابط إشارية وإشعاعية، تحصن النص من الإنزلاق إلى هاوية الحكي المجاني الذي يبيح لنفسه كل شيء من أجل تحقيق عنصر الإثارة والشد الذي لا يمتلك مبرراته الفنية ويركز على الإشتغال على عنصر الشد الإثاري والترقب الميلودراميين، من أجل الفوز بإهتمام القارئ وجذبه لمنطقة القراءة ومتابعة سلطة الحكي (فعل القص أو الروي)، وفي هذا المنزلق يبيح السارد لنفسه كل ما تصله يده من أدوات الإغراء من أجل إلحاق المتلقي بمركب المتابعة التائه... بل المتخبط، إن شئنا الدقة.
لقد إستهلكت الرواية العربية موضوعة المناضل السياسي المصدوم والمنكفئ هذه، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، ورغم أنها لم ينجو منها أحد حتى من روائيينا الكبار، كجبرا ابراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف، وخاصة إنهما عاشا ستينيات القرن الماضي في العراق، البلد الأكبر في إنتاج روايات التوجع على مجد النضال اليساري والوطني، كما في أغلب روايات جبرا، وروايات منيف الأولى، كالأشجار وإغتيار مرزوق وشرق المتوسط.. ورغم أن تلك المرحة كانت تبرر لنفسها بحقيقة الواقع وإشتراطاته الواقعية والتاريخية، إلا أن ذلك المبرر لم يكن مسوغا مقنعا لمنع الرواية من الإنطلاق في فضاءات المخيال وإقتراح البدائل (الفنية/الحلمية) التي إشتغلت عليها الرواية في مهدها (الرواية العالمية)، منذ لحظة إنطلاقها الأولى، كفن متخصص في صناعة أو حياكة الكلام ومطاردة مغامرات السرد في أوسع فضاءات التشوف والإنعتاق من ضرائب الواقع الثقيلة... والمزمنة... والتي لا يمكن التخلص من دفعها ـ ضرائب الواقع ـ بغير التشوف، في ولمراحات السرد الرحبة، مخيالا وحلميا.
لطالما وجهت النصيحة، (للأدباء الشباب الذين يرسلون إلي أعمالهم، طلبا للرأي والنصح) بأننا في الإبداع الأدبي، علينا أن نبدأ من حيث إنتهى الآخرون لا من حيث بدؤا.. وعليه علينا أن نبدأ ـ بعد أن نهضم القواعد والأسس العامة، وبوعي نقدي محكم طبعا ـ من حيث إنتهى أمثال غابريل غارسيا ماركيز، وليس من حيث بدأ (جيل التأسيس) نجيب محفوظ ومحمود أحمد السيد ويوسف السباعي وإحسان عبدالقدوس... ولكن للأسف، ها نحن نرى أنه حتى الأعمال التي ترشح لكبرى الجوائز الأدبية، تصر على المراوحة عند عتبة التهجي الأولى لعملية الخلق الأدبي العربي، وخاصة في حقل الرواية، الجنس الأصعب على ذائقة تعبيرنا وتشوفاتنا المستقبلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطريقة كوميدية.. الفنان بدر صالح يوضح الفرق بين السواقة في د


.. فايز الدويري: فيديو الأسير يثبت زيف الرواية الإسرائيلية




.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه