الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عصفور بلا أجنحة

شيرين يوسف

2005 / 10 / 1
الادب والفن


ماما استيقظت اليوم مبكرا ً ، فتحت كل نوافذ البيت ، اتصلت بمصفف الشعر و حددت موعدا ً ، أمرت الخادمة بتجهيز ثوبها الرمادي ، نادت على البواب أن ينظف السيارة ، ماما نسيت أن تقبلني اليوم !!

ماكرة جدا ً صغيرتي ، تتبعني بعيونها السوداء الصغيرة أينما ذهبت ، و خصوصا بعد أن سلمتني البرقية العاجلة ( أصل الخميس في الحادية عشرة) ، أربعة كلمات يربطها حرف جر متطفل كانت كفيلة بانتزاعي من عالمي الصامت ، و غرفتي البادرة ، و كوابيس اليقظة ، لتزرعني في أرض أشواكها حريرية لا تدمي المعصم ، فقط تجرحه بالوهم !!

ماما تعدو على الدرج بسرعة ، تصطدم بدراجتي الصغيرة إلا أنها لم تنهرني كالمعتاد ، و الأغرب من ذلك أنها لمحت القطة السوداء التي طالما أقلقتها تنام على فراشي و لم تعبأ بالأمر ، ماما نسيت أن تقبل صورة بابا !!

ثلاثة ساعات تفصلني عن الحلم ، و ربما ستقتلني نبضات الانتظار ، و ثلاثة أعوام على آخر لقاء بيننا في المقهى المجاور للمطار ، يرتجف فنجان القهوة فوق شفتي الباردة ، و شعور يقتلني بأن الجميع ينظر إلى ّ، و كفي تلوح له من بعيد و هو على سلم الطائرة ، الطريق طويل و الشمس أمامي تنتحر في السراب ، كل شيء يبدو على ما يرام ، تفرض الذكرى سطوتها الآن على تفكيري ، تذكرت أول لقاء جمعنا بعد وفاة زوجي بثلاثة أعوام ، كنت وحيدة حد اليأس ، مؤتنسة بالهموم حد الوجع ، و مفعمة بصور يتيمتي الصغيرة التي لم تر والدها قط ، كانت أمسيتي الأدبية الأولى و ديواني الأول بعد رحيله ، كنت مفعمة بالشوق إلى لحظة من الماضي ، و مشتاقة إلى غد مغترب ....

ماما اليوم لم تتناول قهوتها المرة ، و أنا كذلك لن أتناول كوب الحليب ، ماما تعطرت و تبرجت و أنا أيضا ً سأتعطر مثلها و سأضع بعضا ً من أحمر الشفاه و سأرتدي حذاء من أحذيتها ذات الكعب المرتفع ، اشتقت كثيرا ً إلى رؤية بابا و لا أدرى متى سيعود من سفره كما أخبرتني ماما ، سمعت بالأمس معلمة الصف تذكر أنى يتيمة ، يا ترى ماذا تعني هذه الكلمة ؟؟، تكررها جدتي كثيرا ً حين أتشاجر و بنات خالاتي ...

أخيرا ً وصلت إلى المطار ، المكان مزدحم بالمغتربين و المنتظرين لكل شيء _ميعاد سفر ، استقبال عزيز لهم ، توديع غال ٍ على القلب _ بينما أنا مزدحمة بكل أخبار الصباح و خوفي الداكن و مرارة أخر فنجان للقهوة و صداع مزمن لا يفارقني و طفلة تحبو على حافة نافذة القلب ؛ هل ستسقط على صقيع الأرض أم هل ستتلقاها كفاه المغتربتين بحنان ، خوفي من الاحتمال الأول ، تجاوزت الساعة الثانية عشرة و حتى الآن لم تصل الطائرة ، حتى تلك الكتلة الصماء المعلقة بين السبع سماوات ترفض أن تأتي في موعدها ، اقتربت من موظفة الاستقبال و تأكدت بأن موعد وصول طائرة لندن في الحادية عشرة مساءا ً و ليس صباحا ً ، يا لها من مفاجأة غير سارة ، و رغم كل شئ سأنتظر حتى طلوع شمسه في سمائي الباهتة ، ربما ستبرق بصدامي مع الأهل حين يعلموا بعزمي على الزواج من جديد ، ربما سأفقد ابنتي إلى الأبد ، كل شئ ممكن للأسف ، لن أوتر سكينتي أكثر من ذلك فهو حتى الآن لم يحدد طبيعة العلاقة بيننا !!

ماما تأخرت كثيرا ً، و السماء بدأت تمطر في تلك الأثناء ، كم احب المطر و كم أخاف من صفير الهواء على جدران البيت ، دميتي ابتلت من رذاذ المطر سأدثرها كي تنعم بالدفء و تنام قليلاً ، ماما نسيت كل النوافذ مشرعة، أرتعش الآن من البرد و ماما الآن بلا معطف للمطر !!

المطر و غبار الانتظار، و دقات ساعة المطار و النداء الآلي _طائرة تقلع و طائرة تحط الرحال_ ، لا أدرى لماذا دوما ً يتزامن المطر و عينيه ؟! ، في اللقاء الأول كان المطر و حين وداعه كان المطر و الآن أيضا ً تمطر ، و أخيرا ً تصل الطائرة ، مسرعة أعدو إلى قاعة الاستقبال أسير و رذاذ المطر يحاصرني ، فتات الأخيلة يطوح برأسي يمينا ً و يسارا ً، كان البرق الذي صعقني حين أشرق وجهه من بعيد على سلم الطائرة كاف ٍ لإذابة الجليد الناعس في عيني، كاف ٍ ليضيء الخوف أكثر بين مفرقي قلقي ،كما هو خمسة أعوام لم تهز له ساكنة، انتفض قلبي و كاد النبض يسابق دموعي فهو ليس وحيدا ً ، بللني المطر أكثر و قتلت المفاجأة الأخيرة ما تبقي بين عروقي من نبضات هادئة، شعرت بمدي قسوة الرعد حين تصطدم سحابتان مختلفتا اللون و المنحى ، شعرت بكل آلام الموتى في هنيهات الاحتضار ، لم أتخيل لون الضباب أحلك من تلك اللحظة، إنه هو بالتأكيد و لكن تتأبط ذراعه شقراء من أرض الضباب و كذلك طفلة في عامها الأول تقريبا ًَ ، سأعود الآن و تعيد رياحي أدراجها ، سأرحل عن أرض الوهم ، سأعود إلى الذكرى ، سأعود إلى ماكرتي الصغيرة ، سأعود إلى المسكنات و ترياق القلق ، سأعود إلى أحضان الخوف بين تلال صقيع العمر و الوحدة ، ابتلعني الزحام و الأرض جرت تحت قدميّ حتى بلغت سيارتي ، لم أعد قادرة على التحليق و مشاكسة الهواء المعاكس ، صرت كعصفور بلا أجنحة لا يتقن فن التحليق و كذلك لا يهرب من حجارة النبال ، و رصاص القناصين ، كان القناص هنا هو الحقيقة الباهتة و النبال عمري الهارب و حجارته صعقات الواقع !!


ماما عادت الآن ، طوقتني بذراعيها ، أعدت لي كوبا ً من الحليب و نامت إلى جواري ،بللتني دموعها الساخنة ،و قصت على ّ قصة عصفور بلا أجنحة ، يطير في أحلامه ، ماما نسيت أن تغلق النافذة !!










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق


.. لطلاب الثانوية العامة.. المراجعة النهائية لمادة اللغة الإسبا




.. أين ظهر نجم الفنانة الألبانية الأصول -دوا ليبا-؟


.. الفنان الكوميدي بدر صالح: في كل مدينة يوجد قوانين خاصة للسوا




.. تحليلات كوميدية من الفنان بدر صالح لطرق السواقة المختلفة وال