الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


منافى الرب .. حينما يحتفى الموت بالحياة

رضوى الأسود

2015 / 5 / 18
الادب والفن


أول ما يصدمك، أو دعنى أقول يثير فضولك فى هذه الرواية لأشرف الخمايسى هو العنوان الذى تفك طلسمه مع كل صفحة تُقِدم على قراءتها .. فما القراءة سوى مغامرة كما الكتابة، لتكتشف أن منافى الرب ما هى إلا منافى الإنسان التى يصنعها بيده وعقله، والتى يأتى تعريفها مرتين تحديداً وبكل وضوح من الروائى نفسه، فيقول مرة أنها "منافى الروح والجسد"، ومرة أخرة "الحزن".
تأتى شخصيتان مثل بطل الرواية (حجيزى)، والراهب (يوأنس) ليكونا مثالين صارخين لكيفية نفى الإنسان نفسه بنفسه، وحرمانها من متعها التى خلقت من أجلها، فيتجلى المسيح ليبين أن "بهجة الإنسان وسعادته هما المقصد الإلهى"، منتقداً من يعيشون فى جبل الرهبان بقوله: "يحيون بقلوب مقفلة، يؤلهون تقاليدهم ويحطمون الجمال، يخترعون قيماً قاسية كأنهم يحبون تعذيب أنفسهم، ما أردت من الإنسان تقديس ما يفقده بهجته، الآب الذى ارسلنى قال لى هذا، وقال أن مسرته فى أن يصير الإنسان رباً لا عبداً". وكان الإنتقاد ذاته هو ما وجهه (حجيزى) لأهل (الوعرة) الذين إنزعجوا من تمثال قدّ من الصخر لطفلة، ورأوا أنه عاراً ألصق بهم مما يوجب تحطيمه!
شخصية المسيح هنا محورية، فهو الذى أثر فى بطل الرواية وبدّل وجهة نظر ذلك الرجل الذى عاش عمراً طويلاً (مائة عام) لا يهاب الموت، لكنه يرتعب من فكرة الدفن مستنكراً بقوله: "لماذا يدفن الناس أعز الناس؟"، يرى أنه أثر فى الحياة وصنعها، فكيف لا يظل له نصيباً منها؟ فما أنفك يفكر بشتى الطرق كيف يتفادى الدفن، فتارة يتجه لإعتناق المسيحية التى تقوم على مبدأ قيامة الجسد بعد الموت، وتارة يسف مسحوقاً يساعد على عدم تحلل الجسد، لكن فى خضم كل هذا يكتشف أنه كان يعيش ميتاً بين الأحياء.
يبدو أن الحضارة المصرية القديمة كان لها عميق الأثر فى روح وعقل الروائى والذى تجسد فى تلك الرواية التى تناقش فكرة البعث (القيامة) والخلود كما إنشغل بها المصرى القديم، أيضاً فى إحتفاءه بالمرأة وإعادة الإعتبار لها وتجسيدها كبهجة ربما وحيدة للحياة، أيضاً كما بجلتها القوانين والأعراف فى العصور القديمة.
تعج الرواية بمرادفات كثيرة للموت، حتى أن الكاتب يقول فى عبارة واحدة: "بلاد الموتى، القبور، الجبانة" وكأنه يشرح لفظ أستعصى على الفهم، لكنه فى الواقع كان دائم التأكيد على فكرته من خلال عاملين أساسيين .. الإطناب، والمقابلة التى نجد منها الكثير: المقابلة بين البشر المتمثلون فى شخوص الرواية وبيان مدى ضعفهم أمام واحة الوعرة القوية بكل ما تحمله من غرد وصخور عملاقة تطول السماء، وأخرى بين بيوت الوعرة التى تتلاصق لتأتنس ببعضها مقابل وحشة الصحراء، وثالثة بين حجيزى الذى يعيش منشغلاً بفكره عن متع الحياة حتى أنه لا يبتسم أبداً، وصديقه سعدون الذى لايفكر تقريباً ويستمتع بحياته ضاحكاً باستمرار.
نلاحظ عمق الثقافة المسيحية عند الروائى للتأكيد على أن هذا الدين بالإضافة إلى الإسلام، يشكلا ثنائياً غير منفصل، وموروثاً ثقافياً فريداً عند الشعب المصرى الذى إحتضن واستقبل كل الأديان إستقبالاً حسناً.
اللغة قوية، قاتمة كما يليق بالموت، جريئة فى تحطيمها للتابوهات، فهى من النوع الذى يعتبر فيه القارىء شريكاً أساسياً للكاتب الذى لايكف طوال الوقت عن صدمة وعيه بعنف. فالكاتب ينتقد التراث الدينى فى الإسلام، وذلك حينما يتشكك (حجيزى) فى غالبية الأحاديث التى تأتى على لسان إمام الجامع (مزيد)، كما أنه أيضاً ينتقد المسيحية وتحديداً فيما يخص طبيعة الرب هل هى ناسوتية أم لاهوتية، وكذلك قيامته! تأتى عبقرية وذكاء ذلك النقد فى أنه يجىء على ألسنة أناس رقيقة الحال والثقافة -وربما أميين- فى حواراتهم العادية وبشكل فكاهى، وقليلاً ما كانت تأتى بشكل جدى فى اسئلة إيمانية صريحة وموجعة تفضح عمق مأزق الإنسان: "من لم تتلوث يده بدماء الأبرار خسر، ومن أجرى أنهاراً من دمائهم ربح، أى حكمة هذه التى يريد الرب أن يعلمها لنا؟"، "لماذا لا يقدم لنا الله حلولاً، إلا إذا قدم له الواحد منا ما يملكه؟! لماذا دائماً يتعامل بمنطق التجار، هات وخد؟!"
موجات الجنس المتلاحقة فى هذه الرواية ما أتت سوى لتأكيد وإستعراض روعة الحياة، فالجنس يأتى دائماً مقابلاً قوياً للموت قادراً دوماً على هزيمته بكل عنف.
الرواية تحتفى بالمكان الذى يُعَد أحد أبطال الرواية، فكم من صفحات تنوء بحملها من الوصف الدقيق والمؤثر، فقد نجح الروائى فى نقل القارىء بكل حرفية وسلاسة إلى ذلك المكان البعيد الغائص فى قلب الصحراء الغربية لنرى بأعيننا رأى العين أنشطة حياتية يومية (رعى الغنم، ملء المياه من البئر، طلع النخيل)، وظواهر طبيعية خاصة بالمكان (الغرد) .
يهدى أشرف الخمايسى روايته للإنسان، وما الإنسان سوى بطله (حجيزى)، الذى يتطور وتتغير قناعاته مع الوقت، وكما يقول: "على الرغم من أن الموت كان يتعمد ان يطل على الإنسان من كل ناحية من حياته، ويصدر صخباً لا ينتهى تردده، إلا أن الإنسان عاش حياته يتمتع بأبهج ما أتيح له منها، وكانت قمة إنتصاره على الموت، ان حوله إلا ملاذ أخير يسعى إليه إذا قست عليه الدنيا" أى أنه رغم سلطة الموت، إلا أن الإنسان يمكن أن يكون أكثر سلطوية منه حينما يذهب إليه بإرادته كملجأ أخير يختاره إذا أظلمت الدنيا وهذا ما فعله حجيزى حينما وجد أنه قد أصبح وحيداً دونما صديقيه، فأراد أن يلحق بهما. هنا ايضاً تأكيد تكرارى لإرادة الإنسان التى يظل يملكها حتى آخر لحظات عمره.
تحية لأشرف الخمايسى الذى أبدع فى غزل ملحمة للموت الذى يحاصرنا من كل إتجاه، ليفتح أعيننا على روعة الحياة.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة TheStage عن -مختار المخاتير- الممثل ايلي صنيفر الجمعة 8


.. الزعيم عادل إمام: لا يجب أن ينفصل الممثل عن مشاكل المجتمع و




.. الوحيد اللى مثل مع أم كلثوم وليلى مراد وأسمهان.. مفاجآت في ح


.. لقاء مع الناقد السينمائي الكويتي عبد الستار ناجي حول الدورة




.. هشام حداد يستفز وسام صباغ.. وهل يسبق السوري اللبناني في التم