الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البلشفية طريق الثورة - رابطة سان بيترسبورغ للنضال

آلان وودز
(Alan Woods)

2015 / 5 / 19
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


البلشفية طريق الثورة

الفصل الأول: ميلاد الحركة الماركسية الروسية

رابطة سان بيترسبورغ للنضال


ترجمة: هيئة تحرير موقع ماركسي

في خريف عام 1893 كان الاشتراكيون الديمقراطيون في سان بيترسبورغ قد بدأوا بالكاد يتعافون من الضربة التي تلقوها بعد إلقاء القبض على زعيمهم، ميخائيل ايفانوفيتش بروسنييف. من الممكن التعرف على توجه المجموعة حتى ذلك الوقت في ما قاله بروسنييف نفسه: «دورنا الرئيسي والجوهري [كان هو] تحويل المشاركين... في الحلقات العمالية إلى اشتراكيين ديمقراطيين متطورين بالكامل وواعين بالكامل، والذين يمكنهم، في نواح كثيرة، تعويض الدعاة المثقفين»[1]. ومنذ عام 1891، كانت المجموعة قادرة على حشد 100 شخص في جنازة الثوري العجوز ن. ف. شيلغونوف. وكانت لديها اتصالات في المصانع الكبيرة وجميع الأحياء العمالية الرئيسية. كان العمل قد بدأ على يد طلاب شباب، لكن تدريجيا بدأ التكوين الطبقي للمجموعة يخضع للتغيير. حمل الطلاب على كاهلهم المهمة الشاقة لخلق كوادر عمالية أو "أمثال بيبل الروس"*، كما كانوا يقولون. بعد موجة الاعتقالات التي أبعدت بروسنييف وغيره من القادة في عام 1892، تمت إعادة بناء المجموعة على يد س. أ. رادشينكو. وقد ضمنت المجموعة عددا من الطلاب بالمعهد التقني، والذين كان قدر بعضهم أن يلعبوا دورا كبيرا في تطور الحزب، بمن فيهم ناديا كروبسكايا، زوجة لينين في المستقبل، ورفيقة حياته.






أعضاء رابطة سان بيترسبورغ للنضال من أجل تحرير العمل - الصورة سنة 1897

كانت الطريقة الأساسية لاشتغال المجموعة هي تنظيم حلقات دراسية للعمال في المصانع الرئيسية. وكان استقطاب العمال إلى الحلقة يتم من خلال العلاقات الفردية، بالطريقة المذكورة أعلاه من قبل كروبسكايا. كان هؤلاء العمال يطورون مستواهم النظري، ثم يصبحون هم أنفسهم منظمين لحلقات أخرى. وبهذه الطريقة تم إنشاء شبكة تتوسع باستمرار من الحلقات الدراسية العمالية. لينين، الذي كان قد وصل إلى سان بيترسبورغ في خريف عام 1893، شارك كمحاضر في هذه الحلقات تحت اسم مستعار هو: نيكولاي بتروفيتش. وقد وصفت كروبسكايا عمل لينين داخل الحلقة قائلة:


«كان فلاديمير إيليتش مهتما بأدق التفاصيل التي تصف ظروف عمل وعيش العمال. ومع أخذه للخصوصيات بعين الاعتبار سعى إلى فهم ظروف حياة العامل ككل، حاول أن يجد ما يمكن للمرء أن يستخدمه من أجل الاقتراب بشكل أفضل من العامل بالدعاية الثورية. كان معظم المثقفين في تلك الأيام يفهمون العمال بشكل سيء. كان المثقف يأتي إلى الحلقة ويلقي على العمال نوعا من المحاضرات. ولفترة طويلة دارت ترجمة مخطوطة لكتاب إنجلز "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" بين الحلقات. كان فلاديمير إيليتش يقرأ مع العمال من كتاب رأس المال لماركس، ويشرحه لهم. بينما كان يخصص النصف الثاني من الحصة لطرح الأسئلة على العمال حول أوضاعهم وظروف عملهم. كان يوضح لهم كيف ترتبط حياتهم مع كامل بنية المجتمع، ويشرح لهم كيف يمكن تحويل النظام القائم. كان الجمع بين النظرية والممارسة هو ميزة عمل فلاديمير إيليتش داخل الحلقات. وتدريجيا، بدأ أعضاء آخرون في حلقتنا يستعملون أيضا هذا النهج».[2]

قامت تلك الحلقات بعمل هام في تجميع كوادر الطبقة العاملة الواحد بعد الآخر. لكنها خلقت أيضا بعض العادات المحافظة والتي صارت لاحقا عقبة أمام تطور الحركة. اعترف الشاب مارتوف بشعوره بالإهانة من تعامل عامل ماركسي، عضو في مجموعة بروسنييف، معه حيث بدلا من دعوته للانضمام إلى المنظمة، قدم له كومة من الكتب عن التاريخ القديم وأصل الأنواع. كتب مارتوف:


« س... الذي ترعرع في الفترة السابقة من الركود الاجتماعي الكامل، لم يكن قادرا، على ما يبدو، على أن يتصور أية طريقة أخرى لتدريب ثوري ما عدا تكليفه، على مدى سنين طويلة، بامتلاك تصور نظري شامل عن العالم، يكون تتويجه هو القبول به في العمل الفعلي. بالنسبة لنا، نحن الذين كنا قد قرأنا بالفعل خطابات عمال الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني في فاتح ماي 1891، واهتزت مشاعرنا بمظاهر إفلاس النظام في مواجهة المجاعة، لم يكن من المقبول نفسيا بالنسبة لنا إخضاع أنفسنا لمثل هذه الفترة الطويلة من الانتظار».[3]

ترك "منعطف فيلنا" تأثيرا كبيرا على الحركة في روسيا، وكان محل نقاش ساخن في الحلقات. جلب مارتوف معه نسخة من الكراس إلى سان بيترسبورغ في خريف عام 1894. وفي مذكراتها عن لينين، كتبت كروبسكايا أنه:


«عندما ظهر كراس فيلنا حول التحريض في العام التالي، كانت الأرض معبدة بالفعل بالكامل للقيام بالتحريض من خلال المنشورات. كان المطلوب فقط هو البدء بالعمل. أصبحت طريقة التحريض، على أساس الحاجيات اليومية للعمال، متجذرة بعمق في عمل حزبنا. لم أفهم تماما كم هو مثمر هذا الأسلوب في العمل إلا بعد بضع سنوات عندما كنت أعيش كمهاجرة في فرنسا حيث لاحظت كيف أنه خلال الإضراب الهائل لعمال البريد في باريس، وقف الحزب الاشتراكي الفرنسي جانبا ولم يتدخل مطلقا في الإضراب. كان يقول إن تلك مهمة النقابات. كانوا يعتقدون أن عمل الحزب هو النضال السياسي فحسب. لم تكن لديهم أية فكرة عن ضرورة ربط النضال السياسي بالنضالات الاقتصادية والصناعية».[4]

في عام 1895، كانت مجموعة لينين مكونة من حوالي 10 إلى 16 عضوا، كانوا ينظمون بينهم العمل في ما بين 20 و30 حلقة دراسية عمالية، والتي كانت بدورها تضم ما بين 100 و150 عاملا[5]. كانت المجموعة ترتبط بالحلقات العمالية من خلال منظمي المنطقة. وبحلول نهاية العام كانت قد صارت تنشط عمليا في جميع المناطق العمالية. في شهر نوفمبر خطت المجموعة خطوة حاسمة عندما قامت مجموعة اشتراكية ديمقراطية أنشئت حديثا، كان من بين أعضائها مارتوف، بالاندماج مع "القدامى" لتشكيل رابطة سان بيترسبورغ للنضال من أجل تحرير العمل، وهو الاسم الذي اعتمد باتفاق مع مجموعة تحرير العمل لبليخانوف، وبناء على اقتراح من مارتوف على ما يبدو. تم تقسيم العمل داخل المجموعة: المالية والاتصال مع مجموعات المثقفين الثوريين وطباعة المنشورات، وما إلى ذلك. وقد حافظت المجموعة على الاتصال مع مطابع سرية تديرها مجموعة من النارودنيين بسان بيترسبورغ، الخ. وكان لينين ومارتوف هما قائدي المجموعة.


«حسنا، يا أخي، لا أستطيع التفكير ما الذي يحصل لهم في هذه الأيام، إذ صاروا فجأة يرسلون لنا هؤلاء السياسيين الموجيك! فيما سبق كانوا يبعثون لنا بأناس من الطبقة العليا والطلاب، أناس محترمون حقا. أما الآن فلا يأتي إلى هنا سوى أمثالك: مجرد موجيك عادي، مجرد عامل!»[6]

بهذه الكلمات استقبل أحد السجانين في معتقل تاغانسكايا المناضل م. ن. ليادوف، أحد قادة رابطة عمال موسكو في عام 1895. وبطريقته الخاصة، استوعب الحارس العجوز التغيير العميق الذي حدث في الحركة الثورية الروسية في تسعينيات القرن 19. كان النمو السريع نسبيا لرابطة بيترسبورغ يعكس تغييرا في الظروف الموضوعية. لقد قدم تصاعد حركة الإضرابات فرصا واسعة غير مسبوقة للتحريض من خلال المنشورات الشعبية. لاقى التحريض الجماهيري نجاحا فوريا ومكن قوات الماركسية الضعيفة من الاتصال مع فئات أوسع فأوسع من العمال. انخرط الشباب، ومعظمهم من الأعضاء الجدد، مع فهم غير عميق بالنظرية الماركسية، بحماس في نشاط التحريض في المعامل، غالبا حول قضايا "خبزية". وكان لهذا نتائج مذهلة، حيث حققوا نجاحا فوريا حتى بين الفئات الأكثر تخلفا وجهلا والأكثر اضطهادا داخل الطبقة العاملة.

خلال إضراب واحد فقط، وفقا لفيدور دان، وزعت الرابطة أكثر من 30 منشورا[7]. وتم التحريض عبر إجراء حوار مع العمال. كان مناضلو الرابطة ينصتون بانتباه لشكاوى العمال، ويكتبون الملاحظات حول مطالبهم ويجمعون التقارير عن النضالات في مختلف المصانع. ثم كانوا يعيدون هذه المعلومات إلى العمال في قالب تحريضي، إضافة إلى توجيهات تنظيمية وفضح مناورات الإدارة والسلطات، ونشر نداءات التضامن. وهكذا أصبحت حركة إضرابات تسعينيات القرن 19 مدرسة تحضيرية عملاقة للنضال، ساهمت في تثقيف جيل كامل من العمال والماركسيين. في ظل غياب حركة عمالية شرعية منظمة، كانت المنشورات الصغيرة تحدث ضجة كبيرة. كان ظهور المنشور يسبب موجة من الحماس في أماكن العمل. وكان العمال كلما تمكنوا من مراوغة العين الساهرة للمشرف عليهم، يتجمعون في مجموعات صغيرة (كان المكان المفضل للاجتماع هو "النادي"، أي: مرحاض المصنع)، حيث تتم قراءة المنشور بصوت مرتفع أمام مجموعة من العمال لا يكفون عن إبداء استحسانهم بالقول: "أحسنت قولا" و"أنت محق تماما". ويتذكر تاختاريف أن رد فعل العمال في الغالب يكون هو قولهم: "إلى المدير! أرسلوها إلى المدير!". وأنه بعد وقت قصير جدا تنتشر الشائعات حول المنشورات في جميع المصانع بسان بيترسبورغ. وسرعان ما لم يعد المثقفون محتاجين إلى البحث عن العمال، حيث أن العمال هم من بدأوا يبحثون بشوق عن "الطلاب" ويطلبون منهم المنشورات».[8]

نجاح هذا النهج الجديد يظهر في سيرة تروتسكي الذاتية، حيث يقول:


«لقد وجدنا العمال مهتمين بالدعاية الثورية أكثر مما كنا نتخيل ولو في أحلامنا. الفعالية المذهلة لعملنا أصابتنا بما يشبه نشوة الخمر. كنا نعرف، من خلال الحكايات الثورية، أنه بفضل الدعاية يمكن كسب العمال واحدا بعد الآخر. وكان الثوري الذي يكسب اثنان أو ثلاثة عمال إلى الاشتراكية يعتقد أنه قام بعمل جيد، أما بالنسبة لنا فإن عدد العمال الذين انضموا إلى المجموعة أو يريدون الانضمام إليها يبدو غير محدود. كان النقص الوحيد الذي لدينا يتعلق بالمادة التعليمية والأدبيات. كان المعلمون مضطرين لأن ينتزعوا من أيدي بعضهم البعض بالتناوب نسخة واحدة متسخة من البيان الشيوعي لماركس وإنجلز كانت قد ترجمت من طرف العديد من الناس في أوديسا، مع العديد من الثغرات والتشويه للنص الأصلي.

سرعان ما بدأنا ننتج أدبيات بأنفسنا، كان هذا حقا بداية عملي الثوري، والذي تزامن تقريبا مع بداية أنشطتي الثورية. كتبت التصريحات والمقالات ونسختها كلها بأحرف كبيرة لطباعتها بالهكتوغراف. في ذلك الوقت لم نكن نعرف حتى بوجود الآلات الكاتبة. كنت أنسخ الحروف بأقصى قدر من العناية، معتبرا أنه من المشرف جعلها واضحة بما فيه الكفاية بحيث يستطيع حتى الشخص الأقل قدرة على القراءة والكتابة قراءة تصريحاتنا من دون أي مشكلة. كان هذا العمل يستغرق مني حوالي ساعتين للصفحة الواحدة. وفي بعض الأحيان لم أكن أقف منتصبا لمدة أسبوع، ولم أكن أقطع عملي لفترة وجيزة إلا من أجل الاجتماعات والدراسة في الحلقات.

لكن كم هو عظيم ذلك الشعور الذي كنت أحسه عندما تصلني الأخبار من المصانع وورشات العمل بأن العمال يقرأون بنهم تلك الأوراق الغامضة المطبوعة بالحبر الأرجواني، ويمررونها بينهم من يد إلى يد وهم يناقشونها! كانوا يصورون المؤلف وكأنه شخص غريب جبار يتمكن بطريقة ما من الدخول إلى المصانع ويعرف ما كان يدور في ورشات العمل، وبعد مرور 24 ساعة يصدر تعليقه على الأحداث في منشورات يدوية مطبوعة حديثا».[9]

نجد رد فعل العمال العاديين تجاه المنشورات في ما كتبه تاختاريف، الذي كتب هذه التعليقات عندما كانت ما تزال ماثلة في ذهنه، في عام 1897:


«" فقط فكر في هذا الوقت الذي نعيش فيه!... لقد كنا نعمل ونعمل، ولم نكن نرى أبدا ضوء النهار. كنت ترى بأم عينيك كيف يحتالون علينا، لكن ماذا يمكنك أن تفعل حيال ذلك؟... لكن الآن لدينا أولادنا الذين يلاحظون كل شيء، في كل مكان، ويفضحونه. قل ذلك لسويوز (الرابطة)، أتسمعني، علينا أن نجعلهم يعرفون عن هذا".

"من يمرر المنشورات؟"

"الطلاب، على ما أعتقد. وبكل تقوى رسم العامل علامة الصليب على صدره وقال: فليمنح الله الصحة الجيدة لأولئك الناس الذين يطبعون المنشورات"».[10]

من خلال المشاركة بنشاط في الدعاية، تمكنت القوى الماركسية الصغيرة من لعب دور أكبر بكثير من حجمها الحقيقي. وقد لاقت المناشير الصغيرة المطبوعة بالهكتوغراف استجابة فورية. في كثير من الأحيان كان مجرد ظهور هذه المناشير يكفي لإغراق المصنع كله في حالة من الحماس والنقاش، ويمارس تأثيرا كبيرا على مجرى النضال. نجاح هذا التحريض، على وجه التحديد، سرعان ما جذب انتباه الشرطة القيصرية. والسلطات التي كانت تدرك جيدا المزاج الكفاحي لعمال بيترسبورغ، تعاملت بجدية مع ما يمكن لتلك المنشورات تحقيقه. في فبراير وأبريل من عام 1896، ظهر منشور يتحدث عن مطالب العمال في أحواض بناء السفن في بيترسبورغ، فأصدر وزير الداخلية، خوفا من الإضراب، أمرا بإجراء تحقيق نصح قائد الميناء بالاستجابة لمطالب العمال .

ومع ذلك، فإن الانتقال من الدعاية داخل مجموعات صغيرة إلى التحريض الجماهيري لم يتحقق دون ألم أو بدون صراعات وتوترات داخلية. بالنسبة للكثيرين، كان العمل السري قد صار نمط حياة. وكان له روتين معين صار البعض معتادين عليه. إن الفترة الطويلة من الوجود داخل حلقات سرية صغيرة عززت نوعا من "العقلية الحلقية" الضيقة. ومن المفارقات أنه على الرغم من الصعوبات والمخاطر المرتبطة بها، فقد كان للحلقات جانب "مريح". فظروف الحياة داخل الحلقة لا تتطلب الكثير من النشاط الخارجي المستمر. والمرء ينتقل حصرا بين الرفاق أو العمال المتقدمين، داخل الحلقات حيث الجميع يعرفون عمليا بعضهم البعض. وفي المقابل بدا التحريض بين الجماهير وكأنه قفزة في الظلام. فالروتين سوف يتعطل وستتغير الأفكار وأساليب العمل بشكل جذري. وليس من المصادفة أن الاقتراح قوبل بنوع من عدم الثقة والعداء من جانب فئة "كبار السن". حذر كراسين و س. إ. رادشينكو من العواقب الوخيمة التي ستحدث في حالة اتباع التكتيك الجديد: فهو من شأنه أن يقوض العمل السري ويتسبب في حدوث اعتقالات جماعية واسعة ويعرض الرفاق للخطر ويخرب العمل.

تم طرح مسألة "المنعطف الجديد" أولا وقبل كل شيء داخل الحلقات الضيقة للمناضلين القدامى، ثم قدمت للمناقشة في تجمعات أوسع للعمال، حيث قرأت ونوقشت مقتطفات من كتيب كريمر حول التحريض. يتذكر عضو حلقة سان بيترسبورغ، ف. إ. بابوشكين، رد فعله على المقترحات الجديدة: «لقد تمردت بشكل كامل ضد التحريض، على الرغم من أنني رأيت ثماره الأكيدة في التصاعد العام للحماس بين جماهير العمال. لأنني كنت خائفا كثيرا من موجة أخرى من الاعتقالات [مثل تلك التي أصابت بعض "المخضرمين"، بمن فيهم لينين، في دجنبر 1895] وظننت أن الجميع سيهلك الآن. لكن اتضح أنني كنت مخطئا».

يتذكر مارتوف كيف احتج له بابوشكين بغضب على الطرق الجديدة: «هنا تبدأ برمي المنشورات في كل الاتجاهات وخلال شهرين تكون قد دمرت ما تطلب بناءه سنوات طويلة... إن الشباب الجدد، الذين ترعرعوا في هذا النشاط التحريضي، سوف يكونون سطحيين في تصوراتهم»[11]. وقد أظهرت التطورات اللاحقة أن مخاوف بابوشكين كان لها ما يبررها. فبعض أولئك الذين تبنوا بحماس نشاط "التحريض" واستخفوا بالنظرية وبـ "ضيق الأفق الحلقي" لم يكونوا سطحيين فقط، بل كانوا انتهازيين صريحين. ومع ذلك، فعلى الرغم من عنصر المبالغة عند الشباب، فقد كان رد الفعل ضد "العقلية الحلقية" تصحيحا ضروريا ضد التيار المحافظ الذي، لو كان قد بقي دون رادع، لكان قد حول الحركة الجماهيرية إلى مجرد عصبة. بعد سنوات عديدة، كان تروتسكي يفكر في هذه الفترة عندما كتب أن:

«كل حزب عمالي، كل تيار، يمر خلال مراحله الأولى، من خلال فترة الدعاية الخالصة أي: تدريب كوادره. إن فترة الوجود كحلقة ماركسية تطور دائما عادات مقاربة مجردة لمشاكل الحركة العمالية. وكل من لم يتمكن من تخطي حدود هذه المرحلة في الوقت المناسب يتحول إلى عصبوي محافظ».[12]

وكمثال عن كيف كان العمل محتجزا بفعل المواقف المحافظة نسوق النقاش الذي جرى بين الماركسيين في موسكو حول كيفية تخليد يوم فاتح ماي عام 1895. يتذكر ميتسكيفيش الرعب الذي أثاره عندما اقترح تنظيم اجتماع سري في الغابات: «عندما طرحت المسألة على رفاقي، قرروا الاحتفال بصورة سرية دون إثارة الانتباه. لقد كانوا خائفين من إفساد عملنا وكانوا يخشون من الاعتقال. قال الرفاق: "إنه من السابق لأوانه التحدث علانية، فقواتنا ما تزال صغيرة جدا للعمل العلني: إن فكرة تنظيم احتفال كبير هي فكرة للمثقفين"»[13]. لكن الحياة نفسها كانت تعد مفاجأة كبيرة: انعطافة مفاجئة في الوضع قلبت جميع المخططات القديمة رأسا على عقب.

يوم 23 ماي 1896، دق إضراب نظمه عمال مصنع النسيج في منطقة نارفا بسان بيترسبورغ ناقوس اندلاع موجة قوية من الإضرابات. نظم عمال النسيج اعتصاما سرعان ما تطور إلى إضراب. كانت السرعة الهائلة التي انتشر بها الإضراب مؤشرا على المزاج المتفجر الذي تراكم على مدى العقد السابق. اجتاحت موجة إضرابات كبرى العاصمة، وللمرة الأولى وجد ماركسيو سان بيترسبورغ أنفسهم على رأس حركة جماهيرية للطبقة العاملة.

الظروف التي أحدثتها موجة الإضرابات وفرت للقوى الماركسية الصغيرة فرصا هائلة لنشر نفوذها. لكن في الفترة الأولى كثيرا ما ضاعت الفرص بسبب مقاومة الفئات الأكثر تحفظا للأساليب الجديدة. وهكذا، خلال الإضراب المهم الذي شارك فيه 2000 عامل نسيج في إيفانوفو- فوزنيسينسك في أكتوبر 1895، عارض قادة رابطة العمال المحليين في البداية اقتراحا بأن يقوموا بإرسال محرضين لربط الاتصال مع العمال المضربين، والذهاب إلى مصانع أخرى لتنظيم الدعم للإضراب. وفي نهاية المطاف تم التوصل إلى حل وسط بأن الرابطة لن تتبنى أية مسؤولية عن الإضراب، لكن في المقابل ستسمح لأعضائها بالمشاركة فيه على مسؤوليتهم الخاصة! لقد نشبت خلافات مماثلة في جميع المجموعات الاشتراكية الديمقراطية. لكن تدريجيا تم قبول الطرق الجديدة، وبدأت تحقق نتائج مذهلة.

لم يحصر الماركسيون أنفسهم في حدود التحريض على المسائل الاقتصادية، بل حاولوا أيضا أن يطرحوا على العمال أفكارا سياسية. بعد اعتقالات دجنبر 1895، أصدرت مجموعة بيترسبورغ منشور: "من هو الاشتراكي ومن هو المجرم السياسي؟". خلال الفترة الأولى للتحريض، وفي الوقت الذي كانوا ينطلقون فيه من المظالم الفورية التي يعانيها العمال، بذل الماركسيون كل جهودهم لتوسيع آفاق العمال على مسائل سياسية شاملة، وربط النضال من أجل المطالب الفورية بالنضال من أجل الهدف المركزي الذي هو الإطاحة بالحكم المطلق. ومن خلال المشاركة الجريئة في التحريض، نما تأثير الماركسية بخطوات سريعة بين فئات أوسع فأوسع من الطبقة العاملة. وعلى الرغم من صغر حجم قواهم، والوضع الموضوعي الصعب جدا، تمكن الماركسيون أخيرا من كسر الحواجز التي تفصلهم عن الجماهير. صار الطريق الآن مفتوحا لبناء حزب قوي وموحد للبروليتاريا الروسية.

هوامش:

[1] Istoriya KPSS, vol. 1, p. 159.

[2] Krupskaya, Memories of Lenin, (1893-1917), pp. 6-7.

[3] J. Martov, Zapiski Sotsial Demokrata, p. 92, quoted in A.R. Wildman, The Making of a Worker’s Revolution-Russian Social Democracy 1891-1903,p. 37.

[4] Krupskaya, Memories of Lenin, (1893-1917), p. 7.

[5] Istoriya KPSS, vol. 1, p. 222.

[6] I. Verkhovtsev, (ed) Bor’ba za Sozdanie Marksistskoi partii v Rossii (1894-1904), p. 3.

[7] F. Dan, op. cit., p. 205.

[8] منقول عن: A.R. Wildman, op. cit., p. 63.

[9] Trotsky, My Life, p. 110.

[10] منقول عن: Wildman, op. cit., p. 64

[11] كلا الاستشهادين نقلا عن: Ibid., p. 53.

[12] Trotsky, Writings, 1935-36, p. 153.

[13] منقول عن: Wildman, op. cit., pp. 54-5

*: أوغست بيبل: اشتراكي ديمقراطي ألماني، ولد يوم 22 فبراير 1840 وتوفي يوم 13 غشت 1913، قيادي داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، رفيق ماركس وإنجلز. -المترجم-








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ??مجلس النواب الفرنسي يعلق عضوية نائب يساري لرفعه العلم الفل


.. الشرطة الإسرائيلية تفرق المتظاهرين بالقوة في تل أبيب




.. مواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في تل أبيب وسط مطالبات بإسقاط


.. نقاش | كيف تنظر الفصائل الفلسطينية للمقترح الذي عرضه بايدن؟




.. نبيل بنعبد الله: انتخابات 2026 ستكون كارثية إذا لم يتم إصلاح