الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوجه الثالث للعملة

صلاح نيازي

2015 / 5 / 20
الادب والفن




أصغيتُ لهما وهما يضعان النقاط على الحروف. يمعنان أشدّ إمعانٍ في كشف الحساب.وحينما جذّا من حوارهما كلّ الفوارز وعلامات الاستفهام والتعجب والتروّي من الجمل، وتضعضعتْ جسور العودة بينهما، تذكرتُ على الفور مسرحية "ابن المستر ونزلو" للكاتب البريطاني "ترنس راتيكان".
لُمْتُ نفسي، إذ لم أحاولْ أنْ أُصلح ذات البين بينهما. قلتُ مبرراً موقفي الشاذّ الفاذّ إنّهما كانا يتحدثان من قمّتين عاليتين، والحلّ الوسط يعني سقوطهما في الهاوية.
كان زيد شاعراً من نوعٍ ما، مولعاً بالتشبيه بالصقور والنسور والنمور. يحبّ الخمور والطبول ويتغنّى بالدماء الشاخبة والانتصارات النازفة.تنفرط عيناه وتلتمّ بحَوَلٍ مسكون على فساتين البنات ولكنّهما لا تكتبان إلاّ عن الحرائق والخنادق والبنادق. يشتهي كلّ امرأةٍ باستطالات دودية، ولا يخاطبها إلاّ: أختاه، يا أختاه. سألني مرّةً عن شعره باستعلاء، كأنّما أراد أن يمتحن مقدرتي على فهم القريض، فقلتُ كمنْ يتفادى لغماً: "شعرك تصعب ترجمته". لكنْ حينما سألتُ صديقاً خبيراً بالشعر، قال لي: مصيبة هذا الشعر في المسميات. فالبالون قنبلة ما داما يشتركان في صفة الانفجار. والربو لا يختلف عن التأوّه ولا يختلفان عن اللهاث فكلّها انقطاع نفس. هذا الشاعر يريد أنْ يقتل ذبابة بعشرة أطنان من الكلمات، ولا يتردّد في قيادة رباعية موسيقية لا تحتاج إلى قائد موسيقي أصلاً بعصا غليظة من خشب الزان.
لم أُربّتْ على ظهر صديقي الخبير بالشعر، فقد نمّ عن تطرف. ولكنْ ضحكتُ حينما قال بمرارةٍ صادقةٍ: إنّ صاحبك الشاعر يصرّ على رقص الباليه بالقبقاب.
أمّا صديقي عمرو، فقد استطاع بعد مجاهدةٍ ومجالدة في الغربة أنْ يكتشف عفويّته. إذا نظر إلى الأشياء فباندهاش وفضول وكأنّما رُدّ عليه بصره. وإذا أصغى فبكلّ وجهه المنبسط القسمات.وهو إلى ذلك عكس الشاعر زيد، يخجل أنْ ينقاد إلى الخبر المجعجع والسبق الصحفيّ، ويكره مكبرات الصوت على حبال حنجرته.
لم يكن عمرو طيباً بالمعنى المتداول لدرجة غضّ النظر عن العيوب، ولكنّ اعتراضاته ليست تقريعاً ولا عقاباً ولا إشارة مرورية حمراء. وإذا احتججتَ عليه لا يضع أصابعه في أذنيه أو يفكر بوسيلة لإخراسك أو الانقضاض عليك. الحياة عنده وكذلك البشر بمثابة أرقام زهر الطاولة. الرقم الخاسر لا يكون خاسراً دائماً، والرقم الرابح لا يكون رصيداّ مصرفياً مضموناً. التجارب الشائكة التي التفّت عليه لم تجعل منه حكيماً يحمل معه منبراً في كلّ وقفة وقعود. يهمّه أنْ يتعلم إشارات المرور، وأخلاقيات السابلة قبل تعلّم السياقة. أمّا علمه فيتحاشى أنْ يكون معارك أو صليلاً أو صليات يرشّها على غابات وجوه.
للحقيقة لقد تعلمتُ أنا شخصيّاً منه خصالاً جديدة جنّبتني كثيراً من المآزق. مع ذلك لم أستطع التخلص من عادة المبارزة في النقاش مثلاً، أو من الأسئلة الاستفزازية اللئيمة، أو إصدار الأحكام دون الإصغاء إلى الشهود . هذه مثالب موشومة ورثتها كابرا عن كابر. باختصار: صديقاي زيد وعمرو متنافران تنافر رباط أحمر مع قميص بنفسجي رغم أنهما من قماش واحد. فزيد لا يتهم نفسه بشيء ويعيش على صهوة الموجودات. أما عمرو فأوانٍ مستطرقة.
كان النقاش بينهما قد وصل إلى طريق مسدودة، فزيد الشاعر الذي جعل من يديه سيفين أو سيخين، ذكّر صديقه القاص بان الوطن يحتاج إلى كتاباته. نصحه كالآمر أن يكفّ عن كتابة القصة المتأملة في الوقت الحاضر، ويتجه إلى المقالة، لأنها أسرع هضما وأخف تأويلاً. شعرتُ لأول مرة أن وجه عمرو يختنق وكأنك فركت بعينيه فصّ نشادر. قال عمرو أكتب فلا تصغون. أكتب مجّاناً فكيف أعيش؟ لم ينْزل زيد عن صهوته العالية، وقال بلهجة متهم يحتل كرسي القاضي عنوة: نحن مشغولون بمهامّ جسيمة، نحارب " قوى الظلام" على عدة جبهات. مطاليبك أشياء طفيفة ليست بذات شأن.
كان بإمكان عمرو أن يذكّر زيدا بأن ملابسه الإفرنجية التي لا تحلم بترفها حتى فتاة قبل الزواج، لا تنمّ عن آثار مجابهة قوى الظلام، وأن معظم الثورات فشلت لأنها اعتبرت بعض حقوق الأفراد ثانوية أو قضايا معلقة. غير أنه اكتفى بالقول: ألم تقرأ تصريح رئيس جمهورية امريكي ما يزال حياً بأنه إذا أراد أن يدبّر إنقلابا في بلدٍ ما فأوّل ما يلجأ إليه إفساد الموظفين. نسيت أن أذكر شيئا آخر عن صديقي القاص عمرو، فقد كان يحب الرسام "تيرنر" اعتباراً من سفنه عابرة الأعاصير والزوابع وقطاراته خارقة الضباب والأمطار، إلى لوحاته البيضاء النازفة هنا وهناك شرائح صفرا منهوكة. علق في غرفته لوحة مطبوعة له لا أذكر تفاصيلها تماما، سماء وبحر وجرف وكلب وصياد، الطقس مربد منذر، السماء كدِرة بعيدة الغور تتحرك فيها غيوم كبيرة، السمّاك عائد يصيده، والكلب يتسلق على صدره بكل ترحاب المحبين المفترقين المتلاقين. ربما تفسر هذه اللوحة جانبا من شخصية عمرو، فهو لا يدعو لك بالشفاء وإنما يكتب لك وصفة طبية كأنما أتاك بصيد، ولكن يتوقع منك أن تلقاه بترحاب ما.
قلت في البداية إن نقاش الصديقين ذكّرني بمسرحية " ابن المستر ونزلو" وهي مستقاة من حادثة وقعت فعلا. الصبي " روني" ونسلو" تتهمه ادارة المدرسة بسرقة خمسة شلنات وبعد التحقيق تثبت إدانته فيفصل من المدرسة. غير أن والده المتقاعد آمن ببراءة ابنه بصورة غريزية عجيبة، فعين للدفاع عنه أشهر المحامين. وبعد سنتين من المرافعات تُبرأ ساحة الصبي، ولكن بعد أن تفقد العائلة كل مدخولها المالي أجوراً للمحامي، وبعد أن تفقد كاثرين أخت الصبي خطيبها جون لأن والده هدّده بقطع المعونة المادية عنه إذا لم يفسخ الخطبة. وذلك لأن سمعة عائلة كاثرين قد تردت في المجتمع. يقول جون في معرض إقناع كاثرين للتنازل عن قضية أخيها: "حسنا إنظري الآن، ثمة حروب اوربية وحرب أهلية بايرلندا ، وهناك أكثر من مائة شئ وشئ في الأفق الآن يمكن أن تقولي عنها بحقّ إنها مهمة، ومع كل هذا ومجلس العموم يستغرق يوماً كاملاً لبحث مشكلة أخيك…"، فتجيبه كاثرين : " كل ما أعرفه يا جون أنه إذا جاء يوم يكون فيه مجلس العموم مشغولا لدرجة أنه لا يجد الوقت لبحث مشكلة كمشكلة أخي والشلنات الخمسة، فإن هذا البلد سيكون مكانا أكثر فقراً مما هو عليه الآن".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مدهش
أحمد السيد علي ( 2015 / 5 / 20 - 21:14 )

د صلاح نيازي

تحية طيبة

كتاباتك الاخيرة تصنع الدهشة والحيرة والاستفهام ،اتابع نتاجاتك بشغف، الجملة الاخيرة في المقال فيها عصارة فكر رائع

أنه إذا جاء يوم يكون فيه مجلس العموم مشغولا لدرجة أنه لا يجد الوقت لبحث مشكلة كمشكلة أخي والشلنات الخمسة، فإن هذا البلد سيكون مكانا أكثر فقراً مما هو عليه الآن
الان-.

اخر الافلام

.. حوار من المسافة صفر | المسرحية والأكاديمية عليّة الخاليدي |


.. قصيدة الشاعر العقيد مشعل الحارثي أمام ولي العهد السعودي في ح




.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل