الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مذكرات سجين

سيف عبد الكريم الربيعي

2005 / 10 / 2
الادب والفن


في هذا المعتقل الموحش ، المظلم، رائحة المكان مقرفة حد القيء، تمزق أشلاء الكبرياء والتعفف، يستولي الصمت على الأجواء معظم الوقت ، سوى بعض الهمسات المتعبة التي يطلقها هؤلاء المنكوبين، ينكسر الضوء قبل دخوله من النافذة الصغيرة المتوحدة في أحدى جدران هذا المعتقل، الذي ضمني إلى جانب هؤلاء.... لم أتعرف على احد منهم ، فلا داعي للتعارف ، نحن هنا محطمين ، لا نملك أي صفة إنسانية ، سوى بعض منهم ممن يجلسون بجانبي، تعرفت على حياتهم بإيجاز، لم يكونوا أفضل مني حالا... عقيل قاسم لا تفارق شفتاه السيكارة، ملامح وجهه تدلي بصراعات خاسرة، ويستمر عامر الناصري بمواويله البائسة ، أما الشيخ فاخر الحياوي فكان لائذا بالصمت معظم الوقت، وأنا وسط هذه الوجوه المتآكلة ، تتهدل جراحنا المزروعة في حنايا الروح، نتجرع مرارة الهزيمة بالإذعان والرضوخ للواقع الأليم ...
تمر الأيام بتثاقل مرير ساحبة خلفها سحب الهزيمة والهوان ، بمرارتها تسحق لعقات الصبر لجراح العمر المتثاقلة في هذا المعتقل، في كل تلك الأجواء المريضة لا يزال جسدي ملقى على الأرض، منكسرا ، منهزما، شأني شأن هؤلاء المحطمين ، الذين لفحوا معي بحمى السجن ، يستولي الخدر على جسدي بالكامل ، وتحاصر وخزاته تحركات الدماغ اليتيمة، لينحني كهذه الأدمغة المطرق، تتكسر كل أصوات الأمل في أعماقي، ويقرع في رأسي ناقوس الخيبة بمجرد النظر إلى رداءة الحال ، وهزولة القضية البائسة..
لا زلت أتذكرها جيدا... أتذكر كل تلك المحبة التي كانت تكنها لي أيام الخطوبة، تلك الأيام، بجمالها، ذهبت كسرب عصافير ، زقزقت في سماء العمر، وتلاشت أصواتها في ثنايا المعتقل، كانت برقتها تمتص مني كل الهموم والاضطرابات، لم تكن تخبئ وراء وجهها الباسم وجوه أخرى ، كما يفعلون في عالم الأشباه.... أحاول أن استرجع كل الكلام الذي دار بيننا ، كلمات الغزل الرقيقة، ولمسات الورد... أحلام العمر لتي عشناها في تلك الأيام ، والتي أصبحت مضحكة بالنسبة لي بعدما أواني هذا المعتقل... لا تزال صور الذكريات ترسم يوميا في أجواء المعتقل للحظات، وتحرق مع أشلائي ، بكآبة المكان ...
لم تكن تتصور بان يوما سيحدث ما حصل لي ... لم تكن تفكر سوى بأحلامنا البسيطة، وتحقيقها الذي اصبح مستحيلا... كأس الموت الذي ازرعه في رقبتي كل يوم، لكني كنت متأكدا من أن شيئا كهذا سيحدث، فدرب مشيت به ، بتفاهة التفكير، وصوت وحيد لن ينفذ سوى لأذني .
أتذكرها، في ذلك المقهى الرخيص، استنشقت عطر عينيها الواسعتين ، وجلت بناضري في ذلك الوجه الرقيق، تشابكت أصابعنا بقوة ، تأملت عينيها المجهدتين، المحفوفتين بأهداب سوداء فاتنة ، لم المس الرقة المعودة ذاتها، بل بدا الغموض متمركزا في عينيها ، لم أدرك ما كان يراودها ، فكانت تحبس في أعماقها أمواج من القلق والحزن، أنبأت بذلك دموعها الصاعدة التي انهمرت من عينيها الواسعتين، أخذت تدير بعينيها هربا من الإفصاح بالحقيقة المبهمة، حاولت معرفة ما كانت تخبئه وراء هذه الدموع، حاصرتها بنظراتي المتسائلة دون النطق بأي كلمة، ربما كان علي أن اسألها، لكن الدهشة تملكتني بالكامل، حتى قطعت كل تساؤلاتي بنهوضها، ثم غادرت المكان بعد أن رمت حلقة الخطوبة على الطاولة.
تمر الأيام بتوترها المفجع، ونحن مكدسين على ارض المعتقل، تتمطى الرئتان بنفس بطيء، ساقاي تكورت في هذه الزاوية المنكوبة، أصبحت ككومة نفايات ملقاة على الأرض، مقرف حتى لأعضائي المخدرة، ألوك الأيام المهدمة بلياليها الموحشة، أكاد افتقد الإحساس بكل ما يدور حولي، تنتشلني أحيانا أشيائي القديمة للحظات من أجواء المعتقل ، ولكني سرعان ما اصفع بفقدانها، فلم يبق لي هذا المعتقل سوى هذه الجثة العاجزة... وعلقت هذا القتيل في رقبة الأيام...
حتى هؤلاء الذين معي، لقد توقفوا في هذه الأيام الأخيرة عن الكلام، وربما حتى عن الحركة، انقطعت مواويل عامر الناصري، ولازال دخان عقيل قاسم يرسم أشباح الموت في وسط المكان ... وكأنهم متهيئون لنهايتهم المرة، وربما يتمنونها بأسرع وقت ممكن، فرماد أشلائنا، وذكرياتنا التي حفرناها على الجدران ، ستطويها عاصفة الأيام... أوسمة الماضي الصدئة ستلقى على صدور هذه الجثث الهامدة، ويذكرنا الزمن في أحدى زوايا التاريخ المزيفة، لتصطبغ حقيقتنا بأي كذبة أو وشاح يضعه المهرجون، ليرقعوا عريهم المكشوفة ، وفضائحهم المخزية، وينكسر الضوء قبل الوصول إليهم..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمين علي | اللقاء


.. بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء خاص مع الفنان




.. كلمة أخيرة - فقرة غنائية بمناسبة شم النسيم مع الفنانة ياسمي


.. كلمة أخيرة - بعد تألقه في مسلسلي كامل العدد وفراولة.. لقاء




.. كلمة أخيرة - ياسمين علي بتغني من سن 8 سنين.. وباباها كان بيس