الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
إشكالياتنا مع الغرب: لماذا؟ وإلى أين؟ (الجزء الثاني والأخير)
مسعد عربيد
2015 / 5 / 27مواضيع وابحاث سياسية
(3)
نحن والغرب الرأسمالي
مدخل تاريخي
حفل القرنان الأخيران، التاسع عشر والعشرون، بتحولات وتطورات عميقة ومتسارعة تعادل، حسب الخبراء، ما مرّت به البشرية لقرون عديدة قبلهما. وقد تركت هذه التحولات في بلادنا وفي العالم باسره آثاراً عميقة على كافة المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتكنولوجية والصناعية وغيرها.
وعلى مدى هذين القرنين، كما ألمحتُ في المقدمة، ظلّت علاقتنا مع الغرب علاقة تناقض يشوبها العديد من الإشكاليات التي امتدت الى مستويات اقتصادية وسياسية وثقافية وحضارية ودينية.
دعونا نتناول في البداية نظرة الغرب الى شعوبنا وبلادنا، وبعبارة أخرى: ماذا يريد الغرب منّا؟
□-;---;-- لقد بلّور الغرب بواكير نظرته الى العالم وطوّر مشروعه وآلياته في السيطرة عليه منذ نشأة النظام الرأسمالي (1450 – 1550). وعِبْر القرنين الماضيين، تمّ تركيز الغرب على منطقتنا العربية ودراسة واقعنا وأوضاعنا ورسم مخططاته على ضوء مصالحه و"ما يريده منّا". وبعد أن حدد آليات العمل شرع بتنفيذ مشروعه، وما فتأ منذ ذلك الحين مثابراً في مسعاه هذا، ولن يثنيه عنه إلاّ مقاومتة ودحره.
□-;---;-- دون الحاجة للعودة الى التاريخ القديم وإلى زمن حروب الفَرَنْجة، يمكننا الجزم بان الغرب قد نصّب نفسه، منذ حملة نابليون على مصر وفلسطين (1798 و1799)، عدواً للشعوب العربية في المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية. لقد استهدف الغرب منذ ذلك الحين أوطاننا ولم يتوقف عبر سلسلة من محاولات ومؤامرات الهيمنة على ثرواتنا ومقدراتنا. وقد تكثفت هذه المحاولات، أكثر من أي وقت آخر، مع وهن الإمبراطورية العثمانية وتفكك أوصالها خلال القرن التاسع عشر وصولاً الى انهيارها الكامل إثر الحرب العالمية الأولى.
□-;---;-- وعليه، شكّلت الفترة الممتدة بين الحملة الفرنسية على مصر وسقوط تجربة محمد علي (الذي تولى الحكم في مصر بين عامي 1805 و 1848 ) محطة تاريخية حاسمة حفلت بالعديد من التطورات الهامة التي جسّدت التناقض بين مشروعين: (1) مشروع النهوض بالوطن العربي وتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية والتنمية لشعوبه، و(2) المشروع المناقض، مشروع الغرب الرأسمالي، الساعي للهيمنة على مقدراتنا وثرواتنا ومستقبلنا.
أ) ففي حين جهد محمد علي في بناء دولة حديثة في مصر وتصنيعها وحمايتها بجيش قوي وتنظيمها ضمن إدارة جديدة، كانت القوى الاستعمارية الأوروبية وبريطانيا خاصة، ترقب عن كثب صعود الدولة المصرية الحديثة، وتعدّ، بالتحالف مع الاحتلال العثماني، للانقضاض على هذه التجربة.
ب) في النقيض من هذا، شكّل الغرب خلال الفترة ذاتها، مصدراً للعلم والتكنولوجيا والتقدم الصناعي والنهضة الفكرية والتنويرية، ولم يدّخر محمد علي جهداً في الافادة من التقدم العلمي والصناعي والعسكري في الغرب وفتح أبواب مصر على هذه الانجازات وأرسل أبناءها لتلقى العلوم وتعلم اللغات الأجنبية وترجمة الأعمال الفكرية والفلسفية والعلمية والطبية الى العربية.
نجم عن هذا أن الغرب شكّل منذ العقود الأولى للقرن التاسع عشر، مرجعية للعديد من مفكرينا وكتّابنا، من خلال تأثيراته الفكرية والعلمية وعبر ارسالياته التبشيرية، فنفذ الى بيوتنا ومدارسنا وثقافتنا وإعلامنا واحتل حيزاً كبيراً واختراق ثقافتنا الشعبية وتدخل (سواء بالعلن أو بشكل مبطن لا فرق) في تفاصيل يومياتنا من مأكل وملبس وتسلية وغيرها.
بين طرفي هذه المعادلة المتناقضين – المشروع الاستعماري الغربي، وفي النقيض منه كون هذا الغرب ذاته قِبلة أبنائنا لطلب العلم والمعرفة - وقعت بلادنا في إشكاليات العلاقة مع الغرب وأضحت محطة للاستهداف الغربي. وهي إن لم تكن محطته الوحيدة، فقد كانت وما زالت، كما تشير وقائع التاريخ، الأولى والكبرى.
في هذا المفصل تحديداً، تكمن العلاقة التناحرية بين شعوبنا ومصالحها من جهة، والغرب الرأسمالي ومصالحه من جهة أخرى. وربما مثّلت تجربة محمد علي تجسيداً مبكراً لهذا التناقض التناحري.
نحن والغرب الرأسمالي: مشروعان متناقضان
وكي لا يبدو ما أقوله تجنياً أو مجرد تنظير، استعين بمناقشة بعض الفروق الموضوعية بين المشروع الغربي من جهة، والمشروع النهضوي العربي من جهة أخرى. وسوف أستبق ملاحظاتي هذه بعبارة ربما تكثف فحواها، وهي أنه يمكننا القول أن تاريخنا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ارتسم، وما زال، في معادلة ذات طرفين، تكمن أهيمتها في أنها تجسد التناقض الذي نعيشه: الغرب الرأسمالي ومشروعه حيالنا، من جهة، وفي الطرف الآخر مشروعنا في النهوض باوطاننا وتحقيق الحرية والتنمية لمجتمعاتنا وشعوبنا.
أ) في الطرف الأول من هذه المعادلة، يقف الغرب الرأسمالي وما أحرزه من انجازات وقفزات اقتصادية واجتماعية نوعية كبيرة شملت الثورة الصناعية والتكنولوجية وأدّت الى تغيرات عميقة في الإنتاج والتوزيع وتوسع الأسواق المحلية وخلقت الحاجة الى الأسواق الخارجية في بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والتوثب الاستعماري للبحث عنها. ومع حلول العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وفي خضم هذه التطورات والانجازات الكبيرة، تبلورت ملامح مرحلة جديدة في التطور الراسمالي: مرحلة الإمبريالية، ودخلت الرأسمالية ومعها العالم كله أشكالاً جديدة من الاستعمار والهيمنة ووسائل السيطرة الاقتصادية ونهب ثروات الشعوب، والصراع بين القوى الاستعمارية فيما بينها على مصالحها، مما مهّد لحربين كونيتين ازهقتا ملايين الأروح واستنزفتا البشرية في النصف الأول من القرن العشرين.
كان من نتائج هذه التحولات التراكمية أن تبلورت بوضوح أكبر رؤية الغرب الرأسمالي للعالم بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص، وهي رؤية شمولية تستند على مكونات ومصالح وأبعاد اقتصادية وإستراتيجية وسياسية، لكنها لا تغفل الأبعاد الثقافية والفلسفية والفكرية. على هذه الرؤية، ارتكز مشروع الهيمنة الرأسمالية وما فتأ يتطور، يخطأ فيتعلم ويصوّب مسيرته، يكبو فينهض مجدداً، وفي كل الأحوال يستند في قراءته للواقع ومستجداته الى العلم والمعرفة والبحث في أوضاعنا والتنقيب في مختلف زوايا حياتنا واعتماد التخطيط الممنهج قبل الانتقال الى التنفيذ.
وهنا، وقبل الانتقال الى الطرف الثاني في معادلة التناقض، أود أن اشير الى أن هذه السمة تمثل أحد الفروق الأساسية بين المشروعين، الغربي والنهضوي العربي، وهي التخطيط الممنهج، الذي يعتبر من أهم ما يميز التطور الرأسمالي عن غيره من المنظومات (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية)، ولعله أيضاً ما يفسر ديناميكيته ومرونته وقدرته على التكيف والبقاء. بالطبع، اضافة إلى عوامل التراكم الرأسمالي والأرباح الهائلة والبنى المادية (الإنتاجية والتكنولوجية والصناعية والحربية...)، دون أن تعيقه في مسعاه هذا آية معايير أخلاقية أو إنسانية ما دامت لا تهدد أرباحه.
ب) في الطرف الآخر منها، يقف مشروعنا، مشروع النهوض القومي والفكري العربي الذي جاء في الأصل للتخلص من الحكم والاستبداد العثماني ليجد نفسه، دون مواربة، في مواجهة المشروع الغربي دون أن تتاح لنا فرصة التقاط الأنفاس وبناء القوى الذاتية.
وُلد مشروعنا في بيئة متخلفة اجتماعياً واقتصادياً ساد فيها قطاع زراعي وإنتاج حرفي وصناعات أولية أي اقتصاد استنزفه النهب العثماني، وقُدر لهذا المشروع أن ينمو في مجتمعات أنهكها الظلم والقمع والاستغلال بكافة أشكاله على مدى أربعة قرون.
تنامى مشروعنا عبر القرنين الماضيين، وتجسد في محاولات وحركات وتيارات سياسية وفكرية جريئة وواعدة طرقت العديد الأبواب المغلقة منذ تجربة محمد علي في مصر الى زمننا الراهن، وانهمكت في هموم ومهام المرحله وتعقيداتها. ويحسن بنا في هذا المقام تذكير القارئ بالمعالم الرئيسية لهذه المحاولات انصافاً للتاريخ وكي لا يتسلل الى وعينا، كما يبتغي الغرب الراسمالي، أن شعوبنا قد استسلمت لمشاريع القوى الاستعمارية في قهرنا واذلالنا:
- اعتلاء المسألة الوطنية وقضايا الوحدة العربية على كافة المستويات السياسية والفكرية في بلادنا (القومية السورية – أنطون سعادة، الوطنية المصرية – أحمد عرابي وسعد زغلول، القومية العربية بأطيافها البعثية وحركة القوميين العرب والناصرية وغيرها).
- مهام الاصلاح الديني (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد رشيد رضا وغيرهم).
- معضلات التنمية الاجتماعية والاقتصادية والبشرية.
- العديد من القضايا الاجتماعية والفكرية (العلمانية وفصل الدين عن الدولة، حرية/تحرير المرأة...).
- بواكير الفكر الاشتراكي والدعوة الى بناء الاشتراكية.
- نهوض تيارات إسلامية تدعو الى استعادة الخلافة واقامة الدولة الدينية (حركة الاخوان المسلمين، حزب التحرير وغيرها من الحركات الإسلامية).
على الرغم من الاخفاقات التي عانت منها هذه التجارب، قدّم روادنا ومفكرونا خلال تلك الفترة، نتاجات فكرية وسياسية لو قُدر لها أن تتطور وتكتمل لشكلت نهضة جذرية ولأخذت بنا بقفزات نوعية الى الأمام في سلم التطور والارتقاء.
فشلت هذه التيارات (القومية والاشتراكية واليسارية والعلمانية) في استكمال المسيرة لأسباب عديدة ولظروف ذاتيه وموضوعية، داخلية وخارجية، ليس هنا مكان مناقشتها، ولكن تجدر الاشارة، في هذا السياق، الى أحد أسبابها الهامة والذي يتمثل في ثغرات وأزمة في الوعي والفكر وفي إنتاج رؤية معرفية كفيلة بحمل مشروع النهوض المنشود ومقاومة المشروع المعادي. كما يجدر بنا أن نلحظ أنه في خلفية دراسة هذا المحاولات والتيارات وتقييمها نجد عزوفاً عن السعي وراء المعرفة واستخدام العلم والنهج العلمي في دراسة أوضاعنا وأوضاع عدونا، وفهم العالم من حولنا وصياغة رؤيتنا ومشروعنا. ولهذا بقينا قاصرين عن خلق وصياغة المشروع وآليات التنفيذ. إذ بدون هذه الرؤية المعرفية يستعصي موضوعياً قيام الحزب والتنظيم السياسي والقيادة وبلورة البرنامج السياسي والنضالي ومن ثم تطوير الهيكل التنظيمي والقاعدة التنظيمية وشدّ الجماهير حوله. صحيح أنه قامت بين ظهرانينا أحزاب وتنظيمات وحركات وقيادات كثيرة لعبت دوراً كبيراً في حياتنا السياسية والاجتماعية، وما زالت، ولكنها لم تكن قادرة بسبب غياب الرؤية المعرفية والفكرية على تقديم قراءة دقيقة للتناقضات الطبقية/الاجتماعية والسياسية وتوظيفها في صياغة برنامج نضالي وآليات التغيير، ولم تكن قادرة على التصدي للمشروع المعادي (مشروع الغرب الرأسمالي) وانجاز مهام الثورة على الواقع وتغيير الأوضاع والمنظومة القائمة وطرح المنظومة البديلة.
خصوصيات الإمبريالية الأميركية
(والمنافسة مع الكولونياليات الهرمة)
تسببت الحرب الإمبريالية الأولى (1914 – 1918) بانهيار الإمبراطوريات الأربع الكبرى التي كانت سائدة آنذاك (العثمانية والروسية والألمانية والنمساوية – الهنغارية) ودخول العالم بعد تلك الحرب مرحلة جديدة تتصارع فيها القوى المنتصرة على استعمار العالم وتقاسم ثرواته.
وفي سياق الأطماع الإمبريالية، جاء تقسيم المشرق العربي - واعادة تنظيمه وما نتج عن ذلك من كيانات ودول، وما رسمه من حدود سياسية جديدة بين أجزاء الوطن الواحد وفق خرائط التجزئة في اتفاقية سايكس – بيكو - جاء على وقع ميزان القوة الجديد وملبياً لمصالح القوى الكولونيالية الكلاسيكية (خاصة بريطانيا وفرنسا) عقب الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية.
تماشت الولايات المتحدة، القوة الإمبريالية الصاعدة آنذاك، مع هذه التغيرات في فترة ما بين الحربين العالميتين، وإن على مضض في بعض الأحيان، وعلى خبث أحياناً أخرى، حيث لم تكن ترتيبات التجزئة هذه لتفي بطموحاتها الإستراتيجية والاقتصادية. وما أن وضعت الحرب الإمبريالية الثانية أوزارها حتى أضحى جلياً أن اللحظة قد حانت للإمبريالية الأميركية للانقضاض على الكولونياليات البريطانية والفرنسية المتهاوية والمنهكة من دمار الحرب مع ألمانيا النازية، من أجل اعادة ترتيب مشرقنا وفق الأجندة الأميركية وعلى ضوء المعطيات المستجدة وأهمها:
- دخول العالم والعلاقات الدولية حقبة جديدة، حقبة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي.
- قيام الكيان الصهيوني على ارض فلسطين العربية (1948) ليكون قاعدة إمبريالية متقدمة وليصبح بقاؤه وأمنه أولوية في أجندة الغرب الرأسمالي والإستراتيجية الأميركية خاصة بعد هزيمته للأنظمة العربية عام 1967، أي بعد التحقق من "جدواه" (الكيان) وقدرته على أداء وظيفته في مشروع الهيمنة الإمبريالية.
- المنافسة بين مصالح الإمبريالية الأميركية الصاعدة والقوى الكولونيالية الهرمة (فرنسا وبريطانيا)، وحاجة الأولى إلى "تقليم أظافر" الأخيرة في المنطقة العربية وتهميش دورها في مناطق النفوذ الواعدة بالاستحواذ الإمبريالي الأميركي. وربما سجّل العدوان الثلاثي على مصر (1956) والموقف الأميركي في تسويته أول تجليات التدخل الأميركي للحد من الدور البريطاني والفرنسي.
- تعاظم دور النفط العربي وحرص الولايات المتحدة على حماية مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية، خصوصاً على ضوء ما تعلمته من دروس تجربة مصدق في إيران وضربها واعادة تنصيب الشاه على يد المخابرات المركزية الأميركية (1953).
كل هذه العوامل كانت تشير، من المنظور الأميركي، إلى دخول العالم الى حقبة جديدة (أسماها بعضهم "الزمن الأميركي") وأن مشروعها في الهيمنة يسير بخطوات ثابتة نحو محطات جديدة ومتقدمة.
(4)
الاستهداف الغربي للوطن العربي
الاستهداف من منظور النظام الرأسمالي
ملاحظتان
ليس النظام العالمي موضوعنا هنا إلا بقدر ما يمثله في جوهر المشروع الرأسمالي للهيمنة على العالم، ومن هذا الباب يجدر بنا التوقف عنده مكتفين بالاشارة الى ركائزه الأساسية وعلاقتها بالحالة العربية وتأثيراتها عليها.
تقوم نظرية النظام العالمي، كما صاغها وطورها عمانوئيل والرشتاين وسمير أمين وجيوفاني أرّيغي وأندري جوندر فرانك ، على تقسيم العالم الى المركز الرأسمالي وبلدان المحيط (الأطراف). وهي رؤية للعالم تجمع مفاهيم الإمبريالية ونظرية المركز والمحيط والتبعية. وعليه، ينقسم العالم من منظور هذا النظام، إلى قسمين أساسيّين:
1) مراكز النظام التي تتَّسم بالثراء والتفوق والتقدم التكنولوجي والصناعي وكذلك القوة العسكرية؛
2) وأطرافه (والوطن العربي في القلب منها) الفقيرة المستنزفة والمتخلِّفة والمهمَّشة والتي تتحدد وظيفتها في العلاقات القائمة في اطار هذا النظام في تزويد دول المركز بالمواد الخام والمنتوجات الزراعية والأيدي العاملة باجور متدنية، وأن تكون سوقاً استهلاكياً لمنتوجات المركز وبأسعار مرتفعة تضمن له أرباحاً عالية.
هذه المعادلة أساسية في فهم جوهر النظام واستمراره، وديمومة "الرفاهية والرخاء" في بلدان مراكز رأس المال التي تقوم أصلاً على استغلال واستنـزاف بلدان الأطراف وتهميشها. وتقوم علاقة المركز الرأسمالي مع بلدان المحيط على الهيمنة عليها سواء بالقوة العسكرية أو بخلق أنظمة حاكمة تابعة له وملحقة به واستقطاب النخب المحلية (السياسية والاجتماعية والثقافية) وربطها بالمركز الرأسمالي.
وبالعودة الى الحالة العربية وخصوصيات علاقة النظام العالمي بها، يهمني أن أشير الى الملاحظتين التاليتين:
الأولى
إن فهم العالم والعلاقات الدولية استناداً الى منظور هذا النظام، يميّز بين الإمبراطويات الكلاسيكية والنظام العالمي، وهو تمييز يحمل تبعات ثقيلة في علاقتنا مع الغرب الرأسمالي ومستقبل صراعنا معه ومقاومة مشروعه في بلادنا:
أ) فالإمبراطوريات الكلاسيكية تتسم بفتوحاتها العسكرية وتمددها الجغرافي على مساحات شاسعة من العالم من أجل استنزاف ثروات الشعوب المضطَهدة، غير أن قدرتها على الديمومة والاستمرار محدودة تاريخياً قبل انهيارها بفعل عوامل الضعف والتآكل؛
ب) أما النظام العالمي فيقوم على السيطرة الاقتصادية للمركز الرأسمالي على العالم من خلال علاقاته الاقتصادية والسياسية مع بلدان المحيط.
فلو أخذنا الإمبريالية الأميركية مثالاً، فإنه على الرغم من صحة الكثير مما قيل ويقال عن أفول الولايات المتحدة كاحدى الإمبراطوريات في التاريخ البشري – (بفعل عوامل الأزمات الاقتصادية وتعاظم التحديات الإستراتيجية لوحدانية قطبيتها وهيمنتها وتصاعد اقطاب اقليمية ودولية قادرة ومؤهلة على هز جبروتها العسكري والسياسي والاقتصادي) - بالرغم من صحة هذه التحليلات، فانه يجدر بنا الحذر من السقوط في التشبيه الكلي بين مصير "الإمبراطورية" الأميركية والإمبراطوريات الأخرى لأسباب عدّة أهمها هو أن الأولى نسجت منظمومة من العلاقات الاقتصادية والسياسية متشابكة ومعقدة تربط كافة جوانب الاقتصاد العالمي ولها تأثيرات ذات طبيعة دائمة حتى مع وهن وتفكك السيطرة العسكرية والإستراتيجية لأميركا على أجزاء كثيرة من العالم.
كل هذا يعني، بالنسبة لنا أن معركتنا مع هذا النظام وزعيمته الولايات المتحدة معركة طويلة، ولا يتسنى النصر فيها إلاّ لمن يملك الفهم لطبيعة العدو وعناصر قوته وضعفه ولمن يقدر على حبك العلاقات والتحالفات الاقليمية والدولية لصالحه في هذا الصراع.
والثانية
إن تقسيم العالم الى بلدان المركز الرأسمالي وبلدان المحيط أو الأطراف لا يعني أن كل بلدان هذه الأخيرة (الأطراف) تحتل ذات الموقع والأهمية في سلم أولويات المركز أو أنها كلها مستهدفة في الآن ذاته (في ذات الحقبة التاريخية) أو بالقدر ذاته. بل هناك أولويات واضحة تضع بلدان الوطن العربي والمشرق منه بشكل خاص على رأس تراتبية المصالح الإستراتيجية للهيمنة الرأسمالية. وهنا تكمن احدى خصوصيات استهداف الغرب الرأسمالي للوطن العربي.
على الرغم من مركزية الوطن العربي في مخططات الاستهداف الغربي، فان هذا لا يعني ولا يريد أن يوحي باننا الجهة أو المنطقة الوحيدة المستهدفة من الغرب الرأسمالي وشركاته الراسمالية الكبرى. فليس هناك أبعد عن الحقيقة من هذه النظرة الضيقة ولا أخطر منها على النضال الأممي والإنساني، أذ ليس هناك حدوداً لجشع راس المال وانفلاته نحو تحقيق الربح الأقصى. ففي سعيه المحموم نحو السيطرة والهيمنة، استهدف الغرب الراسمالي العديد من البلدان في شرق العالم وغربه. دعونا نستحضر بعض هذه المحاولات والتجارب - على سبيل المثال ما حصل في اندونيسيا وإيران ومصر وبلدان أميركا الوسطى والجنوبية التي ما زالت حتى اليوم وبعد عقود عديدة تثير الأسئلة المصيرية - دعونا نتساءل:
- ماذا لو بقي أحمد سوكارنو في الحكم في اندونيسيا وتحالف مع الشيوعيين واليساريين؟
- ماذا لم استمرت تجربة مصدق في إيران وتم تأميم النفط ووضعه في خدمة شعبه وتنمية المجتمع الإيراني منذ خمسينيات القرن الماضي؟
- ماذا لم هُزمت مصر في العدوان الثلاثي عام 1956 وتم الانقضاض على ثورة 23 يوليو؟
نتوقف عند هذا الحد من الاستطراد، لنعود الى الملاحظة الثانية في خصوصيات علاقتنا مع الغرب الرأسمالي.
لقد تمثلت الضربة الأقسى التي استهدفت المشرق العربي في تجزئته على أساس اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 والتي تجسدت في مؤتمر سان ريمو (1920) إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقسيم هذا المشرق الى الكيانات الجغرافية والسياسية القائمة منذ ذلك الحين وفرض الحدود المصطنعة بين أجزاء الوطن الواحد. هذه التجزئة وبهذه الدرجة من التقسيم الجغرافي والسياسي والاقتصادي وما نتج عنه من تدمير وتهميش للبنى الاقتصادية والاجتماعية لم تحصل في بلدان المحيط الأخرى التي استهدفها الغرب الرأسمالي في مشروع هيمنته (في آسيا وأميركا اللاتينية مثلاً)، وبالتالي لم تعاني هذه البلدان مما عانينا نحن منه، وما زلنا، في المشرق العربي، من التبعات الوخيمة والكارثية التي أضحت سمة تاريخنا ومرحلتنا وأحد الأسباب الجذرية للتطورات الجسمية التي حلّت بمنطقتنا خلال العقود الأخيرة وأوصلتنا الى ما نحن عليه.
ليس هنا مكان الاستفاضة في مستويات وأشكال الاستهداف الاستعماري لبلادنا، ولكنه يجدر بنا أن نشير الى أن هذا الاستهداف لم يتوقف عند التجزئة الجغرافية والسياسية ومساعي الهيمنة الاقتصادية واستنزاف الثروات واحتجاز التنمية، بل تعداها الى مستويات واشكال عديدة مستخدماً آليات مختلفة كان الهدف منها ادامة السيطرة، نذكر أهمها:
- زرع الكيان الصهيوني في قلب المشرق العربي كاحدى آليات الضرب المتواصل لكافة محاولات النهوض القومي أو التنموي أو حتى الثقافي، ناهيك عن محاولات تحقيق وحدة الشعوب العربية.
- معاداة العروبة هويةً وفكرةً ومشروعاً.
- تخريب الهوية القومية والثقافية العربية واختراقها وتكييف الثقافة والقيم في مجتمعاتنا تمهيداً لادخال الثقافة الاستهلاكية الغربية وتسويق منتوجات الغرب الرأسمالي، وهو ما أضحى الأمر العادي والمألوف في الحياة العربية. بعبارة أخرى، المطلوب هو التطبيع مع هذا الغرب على كافة المستويات واستدخالة وعولمة سياساته ومنتوجاته وثقافته.
- تسخير الدين السياسي (الإسلام في حالتنا) والمؤسسة الدينية وآلياتها المحلية (من حركات تكفيرية وجماعات إرهابية) لخدمة مشروعه في تدمير الأنظمة والدول العربية (العراق ومصر سورية وليبيا واليمن وغيرها).
- تسعير وتغذية الفتنة المذهبية والطائفية بين البلدان العربية وخاصة بين بلدان شبه الجزيرة العربية والخليج العربي من جهة، وبلاد الشام والهلال الخصيب (العراق، سوية، فلسطين، الأردن، لبنان) من جهة أخرى، وفي داخل البلد العربي الواحد وبين فئات ومكونات المجتمع الواحد.
نخلص في نهاية هذا الجزء، الى أن هذه القراءة للغرب وأطماعه في بلادنا تُملي علينا ضرورة تحديد العلاقة معه وطبيعة التناقض التناحري بين مشروعه ومشروعنا، كما تؤكد هذه القراءة على أن العامل الخارجي (الاستهداف الغربي) ليس العامل الوحيد في المأزق الذي وصلنا إليه، وأن العوامل الموضوعي والذاتية المحلية في الواقع العربي لا تقلل أهمية وتأثيراً (مصالح الطبقات والأنظمة الحاكمة، دور النخب السياسية والثقافية، وهن القوى والأحزاب القومية واليسارية وغيرها).
التجزئة آلية الهيمنة
1) التجزئة كآلية للتدمير الذاتي
تمايزات الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية
لم يكن نمط التجزئة في بلدان الهلال الخصيب هو النمط الوحيد الذي استخدمه الغرب الرأسمالي، بل اتبع هذا الأخير نمطاً مغايراً وإن للغاية ذاتها في بلدان شبه الجزيرة العربية:
1) في الهلال الخصيب، أدّت التجزئة الى:
- خلق كيانات تفصلها حدود سياسية مصطنعة وما تبعها من خلق دول قُطرية وهويات "وطنية" ودينية وطائفية؛
- نسف امكانية التنسيق والتكامل الاقتصادي واقامة سوق عربية موحدة؛
- ربط سوق الدولة القُطْرية لوحدها وعلى نحو مستقل بالأسواق الغربية وعجلة الاقتصاد الرأسمالي الغربي؛
- احتجاز التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان رغم توفر الموارد البشرية والثروات والامكانيات المادية لبناء اقتصاد ومجتمع منتجين.
2) وليس بعيداً عن بلاد الشام، في شبه الجزيرة العربية الغنية بالنفط، خلق الغرب الرأسمالي أيضاً مشروعاً للتجزئة والهيمنة فرسم خارطة دول ودويلات ومشيخات تابعة وعميلة للغرب الرأسمالي ومرتبطة بقراره، وهي كيانات حظيت، رغم صغرها في الجغرافيا والتاريخ، بثروة نفطية هائلة.
3) هكذا أصبحنا أمام مفارقة لافتة في تاريخنا وربما في التاريخ البشري:
- فعلى جانب من هذه المفارقة، تقف دول كبيرة تتوفر فيها مقومات الدولة، ودول غنية بالحضارة والثقافة، بل هي مهد الحضارة الإنسانية ووعاؤها، ولكنها فقيرة ساد فيها نمط الإنتاج الزراعي المرتبط بالسوق الغربية.
- وعلى الجانب الآخر، تقف كيانات ودول ودويلات صغيرة وغنية بالنفط ومشتقاته، ولكنها فقيرة ومتخلفة حضارياً وثقافياً وتاريخياً.
4) استخدم الغرب الرأسمالي هذه الأوضاع في تحقيق أجندته ومصالحه، فكانت النتيجة خلق التناقضات بين طرفي هذه المعادلة التي وصلت اليوم أشدّ درجاتها حدة وعداءً وتجلت في استخدام أنظمة وأموال السعودية والخيلج العربي في تمويل الحرب على سورية والعراق وانقضاض الدول الغنية بالنفط على الدول الكبيرة والفقيرة وتحالفها مع الغرب الرأسمالي في مشاريع تدمير الأخيرة وتفتيتها الى كيانات صغيرة وعديدة على اسس مذهبية وطائفية وقبلية. وفي هذا المسعى، هدرت دول النفط ثرواتها لتمويل الإرهاب وترحيل أموالها الى مصارف الغرب الذي يوفر الحماية للأسر الحاكمة، وحرمت شعوبها وشعوب المنطقة باسرها من استخدام هذه الثروات في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
نخلص الى القول، بأن مشروع التجزية والهيمنة على بلادنا كرّس التناقض بين المستفيدين منه (أنظمة الدول الغنية واسرها الحاكمة وطبقاتها ونخبها السياسية والثقافية) من جهة، وشعوب محرومة من مداخيل الثروة النفطية في بناء التنمية، من جهة أخرى. ناهيك عن الفوارق الحضارية والثقافية والاجتماعية بين مجتمعات الهلال الخصيب من جهة، وتلك في شبه الجزيرة العربية من جهة أخرى.
2) وهم الدولة القُطْرية
كان من تبعات تقسيم الاستعمار للمنطقة العربية سياسياً وجغرافياً خلق الوهم بامكانية بناء الدولة الوطنية على أساس هذا التقسيم. فقد خلق الغرب الرأسمالي نخباً سياسية تابعة له يرعاها وتستند في وجودها وبقائها على دعمه، ونَسَج معها علاقات وتحالفات تضمن له الحفاظ على مصالحه.
أخذت هذه النخب، التي تربعت على الحكم، بهذا الوهم تحقيقاً لمصالحها ولم يتوانَ العديد من القوى والنخب السياسة والاجتماعية والثقافية من اللحاق بهذا السراب فتعاملت مع الاستعمار وفق أجندته ظناّ منها أنها دخلت اللعبة مع الغرب كطرف أو ند دون أن تدرك أنه (الغرب) لا يتعامل معها إلاّ وفق مصالحه وقواعده، قواعد الطرف الأقوى، وشريطة أن يظل في موقع الدونية والخنوع للأوروبي – الأميركي – الغربي.
هكذا أصبحت التجزئة آلية للتدمير الذاتي ودخلت مجتمعاتنا مرحلة التكيف مع متطلبات الهيمنة الإمبريالية عليها. وهو ما ينطق به واقعنا اليوم بكل جلاء.
كانت هذه جذور خطاب وسياسة التبعية والدونية حيال الغرب الذي انسقنا وراءه منذ عقود والذي جعل منا أدوات في اخضاع انفسنا لسطوة الغرب وخدمة مصالحه على حساب شعوبنا، فسلبنا ارادتنا ووعينا وخرج بنا من موروثنا الحضاري والثقافي، ناهيك عن أنه ربط اقتصادنا وتنمية مجتمعاتنا بعجلة ومصالح رأس المال الغربي.
3) وهم الهويات "المحلية" او "القطرية"؟
بعد انجاز التجزئة الجغرافية للمشرق العربي، عمد الاستعمار خلال سنوات احتلاله لبلادنا الى إنتاج هويات وطنية لصيقة به من أجل ضرب الهوية العربية القومية الجامعة كما حصل في خلق الكيان الأردني (1921) على سبيل المثال (امارة شرق الأردن) وغيره من بلدان الخليج العربي والذي خلق بدوره واحتضن الهويات المختلقة والتي تجلت في مقولات الأردن أولاً، لبنان أولاً، على سبيل المثال.
بلادنا في عيون الإمبريالية الأميركية
ذكرتُ في مكان آخر من هذه الدراسة أن القراءة الأميركية للوطن العربي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كانت تستدعي اعادة رسم خرائط سايكس – بيكو من أجل من أجل "اعادة تنظيمها"، لأنها (الولايات المتحدة) أدركت أن حماية مصالحها تستدعي تنظيم المشرق العربي على "صورتها ومثالها"، وأنه يتوجب اعادة تنظيم الواقع القائم بكياناته ودوله أي تفكيك المُفكك، واقامة شرق أوسط جديد ذي نظام اقليمي يقوم على حماية المصالح الإستراتيجية والاقتصادية الأميركية ومتغيراتها (ما يُسمى أحياناً بسايكس – بيكو 2 وغيرها من المُسميات). كما أنها (الولايات المتحدة) أدركت أن تحقيق مثل هذا المشروع، في خضم سنوات الحرب الباردة وتعقيداتها، سوف يستدعي المزيد من الوقت والاعداد.
كانت هذه هي بذور مفهوم ومشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي خرج الى النور في العقدين الأخيرين، والذي تبلورت مفاهيمه الأولية في عهد هنري كيسنجر وزير الخارحية الأميركي الأسبق الذي أدرك بوضوح أن الكيان الصهيوني وأمنه يجب أن يكونا، وأن يظلا، المحور الرئيس للإستراتجية الإمبريالية في المنطقة، وفي حين أنه أدرك الحاجة الى استخدام الأنظمة العربية القائمة وتوظيفها، إلا أنه حذّر من أنه لا يمكن الارتكان اليها ولا الى استقرارها وديمومتها، فالشعوب العربية لا تثق بأنظمتها ولا بالغرب ونواياه وستظل رافضة لمشاريعه وثائرة ضدها لأنها تتناقض في جوهرها مع مصالحه تلك الشعوب وفطرتها وطبيعتها وتاريخها وحضارتها.
ففي حين أنتجت سايكس – بيكو شرقاً عربياً على أرضية تجزئته الجغرافية والسياسية الى كيانات ودول قُطرية (سورية، لبنان، الأردن، فلسطين المحتلة، العراق)، فإن الرؤية الأميركية لمصالحها تستدعي صياغة جديدة للمنطقة تشمل تكيفاً إستراتيجياً يقوم على تدمير الكيانات القائمة ومقوماتها ومؤسساتها (وخصوصاً الدول والجيوش العربية القوية في مصر وسورية والعراق) وتفتيت مكوناتها الاجتماعية على اسس إثنية ودينية ومذهبية. ويكون هذا تحت غطاء شعارات الحرية والديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان الى آخر تلك المعزوفة التي خبرناها سابقاً في الحالة اليوغسلافية (قصف صربيا في مارس 1999) وتدميرها تحت شعار "التدخل الإنساني" لحماية لاجئي كوسوفو)، وخلق حالة مماثلة في البلدان العربية تأخذ عناوينها من مقولات كاذبة وملفقة مثل حماية حقوق الأقليات (الدينية والمذهبية والإثنية) من قمع واضطهاد هذه الدول وأنظمتها الاستبدادية (ومرة ثانية في العراق وسورية ومصر).
تتطلب هذه المتغيرات، بالاضافة الى التكيفات الإستراتيجية، تكيف الخطاب الإمبريالي الأميركي (الأمر الذي كثيراً ما يفسر تقلباته) لأن المصالح الإسترايجية والاقتصادية ديناميكية ومتبدلة باستمرار مما يستدعي استخدام آليات مختلفة وأدوات متنوعة ولكنها تظل ثابتة في خدمة الهدف ذاته: حماية المصالح الإمبريالية. واليوم نلحظ أن هذا المتغيرات أضحت أكثر حدةً من العقود الماضية، إذ أنها تواجه المزيد من التحديات والتهديدات المستمرة والمتجددة في عدّة مستويات أهمها:
أ) نهوض الشعوب العربية وغيرها من الشعوب المضطَهَدة لمقاومة الإمبريالية الأميركية وتنامي هذه المقاومة لتشكّل إرهاصات لحالات ثورية ذات تداعيات كبيرة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وفي القلب منها أمن وبقاء الكيان الصهيوني وضمان قدرته على القيام بوظيفته الإمبريالية في المنطقة.
ب) تحدي وزعزعة هيمنة القطبية الأميركية المنفردة من قبل القوى المعادية والمنافسة، روسيا والصين وغيرها من دول البريكس، والتي تتبلور في صياغة علاقات وتحالفات جديدة إقليمة ودولية مناوئة للهيمنة الأميركية.
الغرب الرأسمالي والحراك العربي
لست معنياً في هذا المقام بالجدل حول توصيف أحداث السنوات الأربع الأخيرة سواء كانت "ثورات" أو "احتجاجات" أو "انتفاضات" أو "حراك شعبي"، فكل من هذه التسميات ينطلق من منهج معين في قراءة الحدث. ولسنا أيضاً بصدد الجدل حول أسبابها سواء كانت ذاتية أو موضوعية، داخلية أو خارجية، فجدلية الداخل والخارج ليست أمراً مستجداً بل هي ثابتة ومتكررة في حياة الشعوب وحراكها. وعليه، فالأسباب والعوامل، على اختلافها وتعددها، متداخلة فيما بينها.
ما يهمنا في سياق هذه الدراسة هو دور الغرب الرأسمالي فيها، دون المغالاة في دور الخارج وتداخلاته أو التقليل من تأثيراته على أوضاعنا، فمهما عظم دور العامل الخارجي فإنه يصطدم دوماً بجدار الداخل وتماسكه (أنظر على سبيل المثال الصمود السوري على مدى السنوات الأربع الأخيرة).
نخطأ كثيراً إذا حصرنا نظرتنا الى الحراك الشعبي العربي (واسبابه وعوامله) الى كونه مجرد حدث داخلي أو "وطني" أو "محلي": مصري، تونسي، ليبي، سوري..الخ. فعلى الرغم من أثقال الظروف الاقتصادية والاجتماعية (الطبقية) التي تعيشها شعوبنا في ظل الفقر والجوع والبطالة وقمع الأنظمة الاستبدادية، فإن أوطاننا تبقى في مركز الاستهداف الغربي، ولذا نرى أنه إذا ما ثارت شعوبنا على أوضاعها المتردية، يزداد الغرب الرأسمالي خوفاً وتوحشاً في حماية مصالحه ويأخذ دوراً مركزياً ومؤثراً في تسيير الأحداث وإدارتها كي لا تتضرر هذه المصالح.
وكل هذا يأتي في سياق الرؤية الأميركية لبلادنا وشعوبنا التي تقوم أولاً وأخيراً على حماية مصالحها الإمبريالية.
إذن، فالقول بأن هذا الحراك جاء للمطالبة بتوفير الحاجات الأساسية للطبقات الشعبية في الوطن العربي (اقتصادية، طبقية، اجتماعية... الخ)، لا ينفي مطلقاً توثب الغرب الرأسمالي للحدث وتدخله بأدواته المتنوعة (المحلية والعربية والإقليمة بما فيها الكيان الصهيوني) لحماية مصالحه المتغلغلة في اقتصاداتنا ومجتمعاتنا واسواقنا ناهيك عن مصالحه الإستراتجية والسياسية. كما أنه لا ينفي، وهو ما يغيب عن بالنا في كثيرٍ من الأحيان، التخطيط والتآمر الممنهج الذي انتهجه الغرب الرأسمالي حيال بلادنا لعقود طويلة، سواء كان التخطيط للحدث نفسه أو تشغيل أدواته وعملائه المحليين أو التدخل في إدارته وتوظيفه وحرفه لما يتوافق مع مصالحه.
ولا شك أنه مع تعاظم الحراك الجماهيري وانفلاته ليشكل أرهاصات ثورات عارمة، تعاظم دور الغرب الرأسمالي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، وازداد توغلاً وشراسة ووحشية (كما حصل في مصر وليبيا وسورية والعراق). مع أن الكثيرين منا ما زالوا ينفون هذا الدور أو يقللون من تأثيراته أو وهو الأخطر ينسبون للغرب الراسمالي دوراً ايجابياً مساهماً في بناء "الديمقراطية" والتقدم في بلادنا. ولا نحصر الدور الخارجي بالتدخلات السياسية أو العسكرية، المباشرة أو غير المباشرة، بل هو يتجلى أيضاً في أنشطة ودور العديد من المنظمات والمؤسسات (المدنية وغير الحكومية والدولية) التي زُرعت في مجتمعاتنا منذ أمد وأخذت تنشط تحت غطاء دعم التغيير الديمقراطي أو تمكين المرأة أو حماية حقوق الطفل والإنسان والحقوق المدنية وغيرها. وليس أكثر من المشهد الراهن دلالة على ما نقول. فنحن نعيش اليوم حالة من اختراق الغرب لمجتمعاتنا على كافة المستويات: أنظمة، شعوب، ثقافة، إعلام، تربية، مأكل، ملبس، تسلية، لغة، برامج تلفزيونية، افلام سينمائية، وسائل ترفيهية، حياة اسرية....وغيرها.
غير أنه من اللافت أنه على الرغم من وضوح التدخل الغربي الفج والوحشي والسافر في الحراك العربي، وكافة مستويات حياتنا وأنشطتنا، فاننا ما زلنا نتجادل فيه ونختلف عليه، وما زال بيننا مَنْ يرى فيه أمراً ايجابياً داعماً "للثورات العربية" و"للعملية الديمقراطية"، ومسانداً لمطالب شعوبنا المحقة بالحرية والديمقراطية. وهناك أيضاً مَنْ وجد في التدخل الغربي "انفتاحاً معولماً" على العالم يزيل الحواجز التي تفصل بين الشعوب ليصبح العالم كله "قرية عالمية" global village يخيم عليها الوئام والسلام والمحبة. تفاهات وسخافات لا يستطيع العقل أن يفهم أو يصدق كيف تنطلي على عقولنا بعد كل ما عانيناه وعانته البشرية من الاستعمار وويلاته.
ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل انبرى بيننا مَنْ طالب بالتدخل العسكري واحتلال بلاده للتخلص من هذا النظام أو ذاك، وامتعض من أميركا ل"تلكؤها" وترددها في قصف سورية. مواقف ندر ان شهدت البشرية مثالاً لها، ولا تتماهى إلا مع الخيانة والغدر بالأوطان. ومع ذلك، فما زلنا "نتحاور" معها ك"وجهات نظر".
(5)
إشكالياتنا مع الغرب الرأسمالي
الإشكالية الأولى: فهمنا للغرب
ينم المشهد العربي عن استفحال التدخل الأجنبي في بلادنا واستهداف ثرواتنا ومجتمعاتنا بغية تفكيكها وتدميرها. هذا من ناحية. ولكنه ينم من الناحية الثانية، عن جهلنا فادح بالمشروع الرأسمالي الغربي في الوطن العربي وفي العالم باسره، وعن تواطؤ العديد من الأنظمة والقوى السياسية والاجتماعية والثقافية معه وعمالتها له ولخدمة مصالحه من جهة ثالثة.
ففي خطابنا السائد تطغى المقالات والتحليلات السياسية التي تتناول أحداث الساعة والتي رغم كون بعضها معادٍ للغرب الرأسمالي وللإمبريالية الأميركية، فان خطابنا (الإعلامي والفكري والسياسي) قلما يغوص في عمق التناقضات في المصالح والثقافة بيننا وبين الغرب الرأسمالي. فعلى سبيل المثال، تشح في المكتبة العربية الأعمال والأدبيات التي تتناولها الغرب الرأسمالي وأميركا شرحاً ونقداً وتشريحاً أو التي تقدم قراءة جذرية لمشروع هذا الغرب ومصالحه. في المقابل، نرى أن مثل هذه الأعمال متوفرة باللغات الأخرى.
وليس هذا سوى احدى تجليات أزمتنا مع الغرب الرأسمالي وأحد أبعاد جهلنا بطبيعته وآليات عمله ومنظومته الاقتصادية والاجتماعية النيوليبرالية المدمرة، وهو جهل نابع من أزمة معرفية على عدّة مستويات سياسية واجتماعية وثقافية. وتظهر أهم تبعات هذه الأزمة المعرفية في غياب الرؤية لدينا لمقاومة الغرب الرأسمالي ومخططاته وهي رؤية تتطلب تفكيك منظومته الفكرية والفلسفية والسياسية وطرح آليات ومشاريع بديلة.
الثانية: في طبيعة التناقض
ذكرتُ في معرض مناقشة تبعات التجزئة أنها مزّقت الوحدة الجغرافية والسياسية والاجتماعية لبلادنا لتقيم كيانات هزيلة مفككة، وأنها خلّفت أنظمة عربية مرتبطة وتابعة في دعمها وبقائها وقرارها للغرب الرأسمالي، اضافة الى أنها (التجزئة) أسست لأوهام الدولة القُطرية والهويات المُختلقة (الأردنية، اللبنانية، الفلسطينية...الخ) على حساب الهوية القومية الجامعة. وقد تظافرت هذه العوامل في تطور التناقضات في بلادنا عبر العقود الأخيرة، وتكرّس التناقض بين (1) الأنظمة (والطبقات الحاكمة في الدولة القطرية التابعة) والغرب الرأسمالي (الذي يحافظ على أمن هذه الأنظمة ويضمن بقاءها واستمرارها) من جهة، وبين (2) الشعوب والجماهير والطبقات الشعبية المظلومة والمستَغَلة والمقموعة، من جهة أخرى.
ارتسم هذا التناقض واضحاً في رؤية بعض الأنظمة العربية والقوى والأحزاب القومية واليسارية العربية وتبلور في شعار "معسكر الأعداء" حيث كان الاستعمار والإمبريالية احد مكوناته الأساسية بالاضافة الى الكيان الصهيوني والرجعية العربية. غير أن هذا الشعار ظلّ يحوم في فضاء الرطانة السياسية وخطابات القادة والزعماء وأدبيات الأحزاب والتنظيمات السياسية، دون أن يترسخ كتناقض رئيسي وهدف سياسي متبلور في برنامج نضالي متجذر في وعي الجماهير العربية وفعلها وفهمها لطبيعة الصراع القائم ومكوناته.
ورغم الحضور المستمر للغرب الرأسمالي وعدوانه المتواصل على الشعوب العربية ومصالح طبقاتها الشعبية:
1) فاننا نرى أنه لم يتم الربط بين الإمبريالية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، أي أنه تم تغييب النظام الرأسمالي وطمس طبيعته الاقتصادية والطبقية الاستغلالية والمهيمنة التي تقف وراء الاستعمار سواء في حقبة الكولونياليات الكلاسيكية، أو لاحقاً في حقبة الإمبريالية والعولمة الرأسمالية الراهنة، ولم يرقَ شعار معسكر الأعداء ليضم الرأسمالية كأحد مكوناته وهو ما يفسر، اضافة الى غيره من الأسباب، أن الرأسمالية والغرب الرأسمالي (وتحديدهما بدقة كمفهوم وعدو) لم تدخل في معجم تناقضاتنا وتحديد أعدائنا.
2) كما نرى، وللسبب ذاته، أنه تم الربط بين الأنظمة العميلة والاستعمار، في حين تمّ تغييب الربط بين هذه الأنظمة والعدو الرأسمالي، أي الفصل بين الاستعمار والإمبريالية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى.
3) هنا نلحظ أن هذا التناقض والربط بين مكونا مكونات الأعداء (غرب رأسمالي وثورة مضادة من أنظمة عميلة وأدوات محلية وإقليمية) لم يتبلور في رؤية وبرامج الأحزاب والقوى القومية والتقدمية واليسارية.
4) ظلّ معسكر الأعداء هدفاً مشتركاً للنضال العربي وجامعاً لقواه وأحزابه وتياراته القومية واليسارية والاشتراكية على مختلف تلوناتها، على الأقل على المستوى النظري، على الرغم من بعض التفاوتات في الرؤية والموقف. غير أن قراءة الواقع العربي في العقود الأخيرة تشير الى غياب البرنامج النضالي وعدم وضوح الرؤية للتناقضات (رئيسية كانت أم ثانوية) وانعدام الجدية في التعامل مع هذا المعسكر، حتى إذا ما حلّت هزيمة حزيران عام 1967 وتبعاتها لنشهد تهاوياً في المشروع النضالي العربي وتساقطاً للقوى والأحزاب القومية والاشتراكية واليسارية تبعها صعود المدّ الإسلامي والحركات التكفيرية. وقد رافق هذه التحولات العديد من التغيرات العربية الإقليمية والدولية العميقة ليس هنا مكان التفصيل فيها رغم أهيمتها وتأثيراتها الكبيرة.
5) بعبارة أخرى بقي الصراع في بلادنا خلال العقود الأخيرة مفككاً الى جزئيات دون أن يكون التعامل معها في معسكر أعداء واحد، فلم يرقَ التناقض مع الأنظمة العميلة الى تناقض مع سيدها: الغرب الرأسمالي. مفارقة لافتة دون شك ولا تنذر إلاّ بثغرات في الوعي والفكر وبضياع البوصلة.
6) جاءت الحركات الاحتجاجية التي عمّت العديد من البلدان العربية في السنوات الأربع الأخيرة لتنطق بالكثير حول هذه الإشكالية. فما زلنا، باستثناء القلة، لا نرى مختلفين في فهم العلاقة الرابطة بين مكونات العدو: الإمبريالية والغرب الرأسمالي وقوى الثورة المضادة المحلية المتمثلة في الأنظمة الحاكمة والنخب والاجتماعية والثقافية. وبسبب هذا القصور لم نعِ، على سبيل المثال، أن القوى المحلية للثورة المضادة هي أيضاً مندرجة في معسكر الأعداء وبالتالي ستكون مواجهتها والصدام معها جزءً من برنامج نضالي ثوري وتغييري في المجتمعات العربية. ولعل خطورة هذه القوى تكمن في أنها تمثل الأدوات المحلية للغرب الرأسمالي، ما يعني أنها تقوم بالمهمة، في كثير من الأحوال، نيابة عن الأجنبي دون حاجته الى التدخل المباشر.
قد لا تفي هذه الفقرات بمعالجة كافة جوانب وأسباب هذا المأزق، ولكنها تبقى حريصة على تقديم إشارة ولو مقتضبة الى سقوط المفاهيم وثغرات الفهم والوعي السياسي في مستوياته الحزبية والشعبية.
الثالثة: الكيان الصهيوني
من نافلة القول أنه لم يكن للكيان الصهيوني أن يقوم أو يدوم على قيد الحياة لولا الدعم الرأسمالي – الإمبريالي الذي كان وراء تأسيسه ولم يتوقف عن دعمة وتوفير شريان الحياة له للابقاء على وظيفته كقاعدة إمبريالية للغرب الرأسمالي.
غير أن الحالة العربية تشي بأننا لا نرى هذا الترابط بين الكيان والغرب، ولا نرى أن صراعنا معه (الكيان الصهيوني) هو في الجوهر صراع مع الغرب الرأسمالي. أن أننا لم نرقَ بعد قرن من الصراع الى فهم أن التناقض مع الكيان هو حرب مفتوحة مع الغرب الرأسمالي، ومن هنا يتوجب علينا مناهضتة ومقاومته ومقاطعة منتوجاته.
وفي حين يصرخ سياسيونا وأحزابنا ليل نهار بالعداء للصهيونية وبان قضية فلسطين هي قضية العرب الأولى والمركزية، فان الواقع يؤكد أن تناقضنا مع الغرب الرأسمالي ما زال معزولاً ومغيباً عن جبهات الصراع في بلادنا وكأنه لا علاقة له بالكيان الصهيوني ووظيفته الإمبريالية وتأسيسه ودعمه وابقائه على قيد الحياة، بل ما زلنا على العكس من هذا، نتعامل مع الغرب على أساس التبعية والدونية والتطبيع على كافة الأصعدة، ناهيك عن التطبيع مع الكيان الصهيوني في الخفاء والعلن لا فرق، ولم يقوَ الكثيرون من مثقفينا ومفكرينا على تحديد العلاقة التناحرية معه وتصنيفه في معسكر الأعداء.
الرابعة: اليسار العربي والغرب الرأسمالي
لا سبيل لتأسيس مقاومة للغرب الرأسمالي ومشروعه دون أفق معادي للرأسمالية يطرح البديل الاشتراكي كنمط في الإنتاج وكمشروع تنموي للمجتمع والإنسان. بعبارة أخرى، لا أمل لنا في مستقبل أفضل دون مشروع اشتراكي وبرنامج نضالي يقوم على رؤية مقاومة للرأسمالية ويمتلك حزباً شيوعياً ثورياً مناضلاً بقيادة ثورية وقاعدة شعبية وتنظيمية تمثل الحامل الاجتماعي لهذا المشروع وتحقيقه.
فأين نحن من هذا كله؟
لقد دأبت الأحزاب الشيوعية واليسارية والتقدمية والقومية لسنوات طويلة على ترديد شعارات مناهضة الغرب ورأسماليته وإمبرياليته، ولكنها بدأت تتهاوى وتتراجع بعد هزيمة حزيران 1967 ولاحقاً بعد الانهيار السوفييتي، فارتدت قطاعات كبيرة من قياداتها وكوادرها وتنظيماتها الى قوى وأحزاب تتحالف مع هذا الغرب وتروج لايديولوجيته وتبشر بنهاية الاشتراكية والانتصار الأزلي للرأسمالية، بل تتمول من فتاته وتعمل تحت إمرته ووفق أجندته على حساب مصالحنا وقضايانا، على حساب الوطن والمستقبل (الأمثلة على هذا كثيرة ولا حصر لها في العديد من بلداننا خصوصاً في فلسطين المحتلة والعراق ومصر وغيرها.
الخامسة: ماذا تريد قوى الدين السياسي؟
يزيد الدين السياسي في بلادنا، حركات وقوى الإسلام السياسي، من تعقيد العلاقة وصعوبة التعامل مع الغرب الراسمالي، بل ويعيق خلق وعي شعبي بطبيعة هذا الغرب وسياساته ومخططاته حيال مجتمعاتنا، وبطبيعة علاقتنا التناحرية وصراعنا معه. وعلى مدى العقود السابقة، عملت حركات الدين السياسي على حرف النضال الجماهيري عن همومنا وقضايانا المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية واستنزافها قوانا وجهودنا في المشروع العربي النهضوي.
يمكننا بايجاز تكثيف إشكالية الدين السياسي والحركات الإسلامية مع الغرب الرأسمالي بالملاحظتين التاليتين:
أ) فمن ناحية، تحالفت هذه الأحزاب تاريخياً مع الغرب ووضعت نفسها في خدمة مصالحه وأجندته (الاستعمار البريطاني ثم الإمبريالية الأميركية)، وشكّلت أداةً للثورة المضادة من أجل حرف وتدمير محاولات التغيير الجذري والثوري في بلادنا، وتحالفت مع الغرب الرأسمالي ضد القوى القومية العربية ووحدة الأمة العربية، وخلال سنوات الحرب الباردة كانت أداة في ضرب الحركات الشيوعية واليسارية والعلمانية والتقدمية في الوطن العربي وأجزاء أخرى من العالم.
ب) ومن الناحية الثانية، يدّعي الإسلاميون بان الغرب كافر وملحد ومنحل أخلاقياً... الخ، ويدعون الى الجهاد ضده وضد ربيبته "إسرائيل"، في حين نرى سيوفهم وبنادقهم قد شُرعت في كل اجزاء المعمورة دون أن تقترب من فلسطين المحتلة.
السادسة: الإشكالية الثقافية
في تناقض فاضح مع تراثنا وقيمنا وموروثنا الثقافي والحضاري، نشهد منذ عقود استدخال العولمة والقيم الراسمالية والثقافة الاستهلاكية الى مجتمعاتنا وعقول أبنائنا من الأجيال الصاعدة، بما فيها المأكولات الرديئة والأفلام التافهة وغيرها الكثير من سخافات الغرب وتقليعاته الهادفة الى الربح والربح فقط، حتى أضحت هذه "الثقافة" الدخيلة الأمر العادي والمألوف والسائد في مجتمعاتنا.
(6)
ملاحظات ختامية
نهاية "الزمن" الأميركي... والبدائل
1) لقد بسط الغرب الرأسمالي، منذ نشأة مشروعه في الهيمنة، خريطة الكرة الأرضية وأخذ يعبث فيها فساداً ونهباً ودماراً، فهو بطبيعة نظامه وبنيته لا يقبل التسوية أو المساومة أو المناصفة على أرباحه، فالربح كله له وله فقط. هذا في الاقتصاد. أما في السياسة فهو إما غالب أو مغلوب، قاتل أو مقتول، ولا مكان بينهما. وبالرغم من دموع ودماء الفقراء والمظلومين من الشعوب المحتلة والمُبادة، فإنَّ هذا كله لم يهز ضمير الغرب قيد أنملة ولم يخدش حياءه لا من قريب أو بعيد، وما فتأت القوى المهيمنة فيه تقتحم كافة أرجاء المعمورة في سبيل السيطرة على ثرولتها ومقدراتها. فالتاريخ البشري لم يشهد حروباً ودماراً وسفكاً لأرواح الملايين من البشر، مثل التي شهدها القرن العشرون في الحربين الكونيتين والتي تسبب فيها النظام العالمي وقوى المركز الرأسمالي في الغرب. أما ما تلى هاتين الحربين من سنوات هيمنة القطبية المنفردة والمنفلتة للولايات المتحدة، زعيمة الغرب الرأسمالي، فلم تقل بشاعة ووحشية وهمجية.
2) غير أنه لم يعد من باب الرومانسية القول ان السيادة العالمية لقوى طرفي الأطلسي (الأورو- أميركية) التي دامت خمسة قرون آخذة في الزوال رويداً رويداً، مقابل النهوض والتفوق الاقتصادي للصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها من بلدان البريكس، وأن عالماً أحادي القطبية لم يعد ممكناً:
أ) فاستمرار هذه القطبية أصبح موضوعياً ضرباً من المحال، كما أصبح مشروع الهيمنة على مقدرات الكرة الأرضية مرفوضاً ومستحيلاً، فقد لفظه التاريخ كما رفضته الإنسانية بأسرها بقيمها وأخلاقها.
ب) بالاضافة فان الحسم العسكري للصراعات لم يعد قراراً سهلاً (انظر التردد الأوروبي والأميركي في استخدام الحسم العسكري في سورية).
ج) لم تعد أميركا وغيرها من القوى الدولية قادرة على توفير كلفة الهيمنة العسكرية الهائلة، بل هي بسبب هذه الكلفة ولغيرها من الأسباب، آخذة بالترنح اقتصادياً واجتماعياً.
د) وبالرغم من القوة العسكرية التي لا تضاهى للولايات المتحدة، والتي حالت بسبب تفوقها وعدم القدرة على مواجهتها، دون تفجير الخلافات والصراعات بين الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الأخرى (دول أوروبا الغربية على سبيل المثال)، غير أنه من الواضح أن العلاقات بين قوى الغرب الرأسمالي ذاتها تعتريها خلافات وتشققات وتصدعات متعددة.
هذا ما يؤكده استقراء الوقائع. ومن الناحية الثانية ليس هناك ما يدعو الى الشك بأن الصعود الاقتصادي لمراكز نمو الاقتصاد العالمي كما أسلفت في الصين وروسيا والهند وغيرها، وما يكمن في قدراتها الصناعية والتكنولوجية، سوف يتحول الى قوة سياسية مؤثرة ودافعة باتجاه التعددية القطبية. ففي مقابل الركود الاقتصادي والسياسي الذي شهدته بلدان المركز الراسمالي، استفاقت بعض الدول (المستعمَرة سابقاً مثل البرازيل والهند) من تخلفها وأخذت بالصعود الاقتصادي والسياسي على نحو جادٍ ومؤثر. بالاضافة الى تنامي القوة الاقتصادية والسياسية لروسيا والصين حيث أصبحت هذه الأخيرة القوة الاقتصادية الثانية في العالم.
بعبارة أخرى لم يعد زمننا زمناً أميركياً كما يتبجح منظرو الإمبريالية – الرأسمالية، والأهم أن أميركا ذاتها أخذت تدرك هذا وتصحو من "سكرة الهيمنة" أو على الأقل قطاعات كبيرة وهامة من النخبة السياسية والثقافية في ذلك البلد.
3) على الرغم من القوى العالمية الكبرى أخذت موقعها ودورها في صنع القرار والوصول الى تسوية أو صفقة في الأوضاع والتوترات الدولية، فان هذا لا يعني أن الإمبريالية لن تقدم على مزيد من الصدامات العسكرية والسياسية البلهاء، فهذا الاحتمال لا يزال قائماً كما هو حال رأس المال دائماً في تصدير الأزمات والهروب الى الخارج.
4) وفي حين تشير المؤشرات، من تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية، إلى أزمة رأس المال ومحدودية دور الغرب وتأثيراته، وإلى أنَّ الإمبريالية تسير عكس حركة التاريخ، فإنه يجب الحذر من الوقوع في وهم أن الغرب الرأسمالي على وشك الانهيار وأن نهايته أضحت تلوح بين ليلةٍ وضحاها، فأزمته قد تطول عقوداً، كما أنه لا يجوز الاستخفاف بالامكانيات المادية للإمبريالية والرأسمالية الغربية ووحشية مشروعها وأساليبها. أما الأخطر فهو الارتكان إلى الحتمية التاريخية لهزيمة الإمبراطوريات، فمقاومة الشعوب واعتمادها على قواها الذاتية هي الدرب الوحيد المفضي إلى انتصارها وإلى محو الظلم والقهر وانعتاق الإنسان من كافة أشكال الاستغلال.
5) لا نغالي إذا قلنا ان منطقتنا العربية كانت، وما زالت، على رأس أولويات الغرب الرأسمالي واستهدافه لليهمنة عليها ونهب ثرواتها. ومن هنا يصح القول بان تاريخنا الحديث قد تمت صياغته، بدرجة أو بأخرى، بالصراع بين القوى الاستعمارية الغربية وأطماعها في الهيمنة على بلادنا من جهة، ومعاركنا في محاربتها ومقاومتها من أجل نيل الاستقلال والنهوض بمجتمعاتنا وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية لطبقاته الشعبية العريضة، من جهة أخرى. وهذا قول ينطبق على العديد من بلدان العالم الثالث في قاراته الثلاث: آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية.
في المشهد العربي: لا بديل عن المقاومة الدائمة
1) لا شك باننا نعيش سلسة من الأزمات الشديدة والمتوالية، وفي مثل هذه اللحظات، كثيراً ما تتجه أنظارنا نحو الحلول الآنية ومعالجة النتائج الكارثية لهذه الأزمات واحتواء تداعياتها، فتنصب جهودنا على إدارتها وتفادي مخاطرها. ولدى بحثنا عن العلة والسبب، فإننا غالباً ما نجد التفسير في تصرفات الأفراد والساسة والقادة، أو نتجه نحو ذلك الحزب أو التنظيم السياسي أو تلك الطائفة. ويبدو أن هذا يمنحنا قدراً كبيراً من الارتياح، ولا شك أن فيه الكثير من الحقيقة، ولكننا قلما نغوص في الجذور (الأسباب الجذرية) الكامنة في الوعي والفكر السياسيين والاجتماعيين.
وعليه، يكون السؤال أمام هذا الواقع: ألم تحن لحظة الحقيقة؟
2) لذلك عمدتُ في هذه الدراسة الى تناول المعضلة التي نراها الأساس في إشكالياتنا مع الغرب الرأسمالي: غياب الوعي والفهم لطبيعته، ومصالحه في بلادنا وعلاقته بالأنظمة الحاكمة والنخب (السياسية والثقافية والإعلامية)، ورعايته لشرائح اجتماعية وثقافية ارتبطت به مادياً ومصلحياً وثقافياً وسياسياً على مدى عقود طويلة. وبدون هذا الوعي لن تقوم لنا قائمة ولن نستطيع أن نتصدى للمهمة الأكبر والأكثر الحاحاً وهي مواجهة الغرب الرأسمالي ومخططاته في بلادنا ومقاومة مشاريعة في الهيمنة عليها.
لعلها مفارقة محزنة أن الغرب - الذي أمعن في توغله بأوطاننا ومصيرها، والذي وصل مرحلة الوهن الشديد التي يدركها هو نفسه كما تدركها شعوب وقوى أخرى توثبت منذ سنوات لتشكيل جبهة أو محاور معادية ومقاومة لهيمنته - بينما ما زلنا نحن بعيدن كل البعد عن الوعي بطبيعته وحقيقت أهدافه.
3) نقطة الانطلاق: لا تتسنى للشعوب أسباب القوة والسطوة إلاّ إذا تسلحت بالمعرفة والوعي. وعليه، فإن امتلاك المعرفة وتراكمها هي بداية تكوين الوعي واستدخاله ليصبح جزءً من الفعل الإنساني، ما يعني تفعيل المعرفة والوعي في الأنشطة الإنسانية أي في سيطرة الإنسان على الواقع والطبيعة واستثمارهما في توفير احتياجاته وتأمين مستقبله. يتبع ذلك أيضاً أن تفعيل المعرفة والوعي شرط اساسي في تغيير الواقع والثورة عليه وتسخيره لخدمة الإنسان والمجتمع.
4) غير أن نقطة الانطلاق لا تقف عند تخزين المعرفة والمعلومات، فلا بد من أجل تفعيلها واستخدامها، من تجذير الوعي وترسيخه في ثقافة شعبية عمادها الصمود والتحدي والمقاومة وأن يتجسد هذا الوعي في برنامج نضالي جماهيري تتبناه القوى والاحزاب. فمن العبث توقع أي تغيير بمجرد امتلاك المعرفة النظرية أو حتى تقييم أخطاء الماضي و"تصحيحها"، بل إن التغيير يتحقق عندما تزول أسباب وظروف الواقع القائم ويحسم الصراع وفق عملية تتحقق فيها مصالح القوى الطبقية المستفيدة من هذا التغيير على حساب وبهزيمة مصالح القوى المضادة له التغيير والمتضررة منه. وهذا لا يتسنى دون مقاومة شعبية شاملة ومستمرة على كافة الجبهات.
5) لا أدّعي أنني قدمت اجابات جاهزة لمعضلات وإشكاليات معقدة، فهذه الاجابات لا تتوفر إلاّ
(أ) بتظافر الجهد الجمعي المشترك في البحث عن الحلول والبدائل، جهود تشمل كافة القوى والأحزاب والمنظمات الاجتماعية والسياسية الفاعلة في المجتمع، فالجهود الفردية كما بلغت من التفاني لا تفي بهذه المهمة الجسمية.
(ب) والوصول الى مجتمع (وثقافة) الإنتاج والانخراط في بناء المجتمع والإنسان، وهو ما يتطلب طوراً صناعياً في النمو الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا.
(ج) توفر أفق بعيد ومدى زمني طويل كي تتكامل عوامل النضوج وانجاز أهداف المشروع النهضوي والتنموي العربي.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. كواليس اللحظات الأخيرة.. ماذا دار بين الأسد وقادة إيران قبل
.. بعد 32 عاما.. معتقل لبناني محرر من سجون النظام السوري السابق
.. النجم البرتغالي لويس ناني يعلق حذائه بعد مسيرة كروية حافلة
.. مسيّرات أوكرانية تستهدف مروحيات وطائرات روسية في مضيق كيرتش
.. الدروز في الجولان يحتفلون بسقوط نظام بشار الأسد