الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موقف مثقفي اليسار الفرنسي من الحضور الإسلامي بفرنسا

هادي اركون

2015 / 5 / 27
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


موقف مثقفي اليسار الفرنسي من الحضور الإسلامي بفرنسا
هادي اركون

الملاحظ أن مثقفي اليسار ،يركزون على الجوانب الاجتماعية والسياسية للحضور الإسلامي بفرنسا ،ويحجبون جوانبه الثقافية ، وهي حاسمة في نظر الفاعلين الاجتماعيين المسلمين أنفسهم وفي نظر الباحث عن مؤسسات الوعي ومحركات الشعور لدى هؤلاء الفاعلين.
ينتمي مسلمو فرنسا إلى التيارات التالية :
-تيار الإسلام السياسي :وهو خليط من التوجهات الساعية إلى إبراز الوجود الإسلامي بفرنسا ،والرفع من سقف مطالبه الثقافية والاجتماعية (بناء المساجد ، تعديل الإشارات التاريخية في الكتب المدرسية ،تخصيص أوقات خاصة في المسابح البلدية للمسلمات، إلغاء حفلات نويل في بعض المدارس ،مطالبة البعض بإعفاء بعض التلاميذ من حصص الرياضة والبيولوجيا ،خدمات طبية خاصة للنساء،أماكن للصلاة في أماكن العمل .........الخ......).
وهي تيارات سلفية متسيسة ،ومتشبثة بالشريعة مبدئيا،ومتشبعة بالجهادية الدعوية كليا أو بالجهادية القتالية أحيانا .
-تيار الإسلام الصوفي :وهو تيار روحاني ،طرقي أحيانا ،و ينحو رواده منحى التفاعل مع الروحيات والثقافات الأخرى ،دون التخلي عن علاقاته بالتاريخ الإسلامي وبالأخص بالفقه والشريعة .
-تيار الإسلام الشعبي :وهو تشكيلة من التصورات والمعتقدات والتمثلات و الطقوس ،المنفتحة ،قليلا أو كثيرا ، على التصوف والطرقية والعرفانيات والسحريات ،والقابلة للتعايش مع الآخرين ومع معطيات العصر دون مصادمة الفقه في المسائل الحساسة وبالأخص في المسائل المتعلقة بحرية الاعتقاد و بالأحوال الشخصية .
-تيار الإسلام الليبرالي :وهو تشكيل من الأفكار والمقاربات ،الساعية إلى تحديث وعلمنة الإسلام ؛وهو منفتح على التيارات الحداثية وما بعد الحداثية .
ولئن كان الإسلام الشعبي ،الإطار الثقافي الأبرز ،الموجه للمغاربيين في الهجرات الأولى ،فإنه فقد كثيرا من منتسبيه ،في العقود الأخيرة ،لصالح التشكيلات السلفية حصرا.أما التيارات الليبرالية ،فهي محصورة في النخب الثقافية ولم تعرف ،إطلاقا طريقها إلى المنتسبين العاديين للفكريات الرائجة ،ولم تتمكن إلى الآن من ربح المعارك الإيديولوجية ضد التيارات الأرثوذوكسية ، الأعلى صوتا و الأكثر تنظيما و تمويلا وإسنادا .لم يتمكن المفكرون الليبراليون ( محمد أركون ومالك شبل وعبد الوهاب المؤدب وفتحي بنسلامة وعبد النور بيدار ) ،من خلق أطر لترويج خطابهم ،واختراق السياجي الدوغمائي .
تغيب هذه الخريطة لدى مثقفي اليسار الفرنسي ،مما يحكم على مواقفهم وتصوراتهم حول بواعث المسلمين الفرنسيين ،بالبساطة والانحياز غير المبرر ،فكريا وسياسيا.
إن التركيز على التهميش والعنصرية والإقصاء من التكوين ومن المناصب المهمة ،يحجب البواعث الحقيقية على الفعل ورد الفعل لدى الفاعل المسلم بفرنسا،خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة.وتحدد هذه البواعث ،رؤية الذات والآخر ،وطرق التفاعل مع وسط معلمن وحديث ومحايد سياسيا ،في التعامل مع القضايا الدينية،ومشدود الى المثالات والقيم الجمهورية ،أي إلى محددات التاريخ الفرنسي .وبما أن المسلم مشدود ، عقليا وعاطفيا ، إلى بلد المنشأ والى أساطيره السياسية ، فإنه يقبل وضعه السياسي في فرنسا ،كأمر عملي ، لا يقتضي أي تفاعل وجداني(الاحتجاج أثناء اللقاءات الكروية مع المنتخبات المغاربية ) .فثمة تناف بين الإيمان بمبادئ الثقافة العربية-الإسلامية ، ومبادئ الثقافة الفرنسية ،وهي علمانية وذات جذور وإيحاءات كاثوليكية ثابتة.
يعيش المسلم الفرنسي العادي ، تمزقا وجدانيا ، بين قبول عملي بمجتمع معلمن وحداثي ذي تاريخ سياسي خاص ، وتعاطف مبدئي ووجداني مع بلد المنشأ أي مع ثقافة لم تخرج بعد من التقديس والسياسية المتعالية والتعالي اللاهوتي عن الآخرين في عالم تعميم النسبانية .
أما المسلم الفرنسي ذو الميولات السلفية ،فيتعايش ،مرغما ،مع واقع هو النقيض التام لمثاله الإسلامي ؛ولذلك فهو يطالب بالمساواة واحترام العلمانية والقيم الجمهورية ،وإزالة التمييز والحظوة الممنوحة للكاثوليكية ،ويحن إلى الخلافة ويتشبث بالشريعة ،في أدق التفاصيل ،رغم عيشه في مجتمع معلمن استبدل القانون الوضعي بالقانون الكنسي .ولا يألو جهدا في إبراز مطالبه الثقافية(الحجاب والنقاب والمطاعم الحلال وبناء المساجد ورفض كثير من المواد العلمية المدرسة للأطفال والشباب ،والاختلاط بين الجنسين والعلاقات الجنسية خارج الزواج والخمر والزواج بأجنبي وتغيير المعتقد ......................) ، وفي رفض قيم وتاريخ المجتمع الفرنسي.( وأدب وفكر فولتير وروسو وديديرو والثورة الفرنسية ...............الخ).
إن الاختلاف بين التيارات السلفية المتسيسة ،اختلافات في التفاصيل وفي تحديد استراتيجيات العمل وتحديد الأولويات ونوعية قراءة المشهد الفرنسي والإقليمي والدولي ، لا اختلافات في الرؤية وفي المقاصد الجوهرية .
فعادة ما يتم ،التدرج في المطالب ،وتوزيع الأدوار موضوعيا ،بين ما يوفر التغطية الإعلامية والمعرفية والسياسية ومن يمارس العنف والتضييق ولا سيما على المثقفين النقديين .( حادثة رودريكر).والملاحظ أن المفكرين –الدعاة ،يكتفون بالتشبث بعلمانية تقنية ،أو بتصور مجرد لحقوق الإنسان ،في سياقات تستدعي إعادة نظر عميقة في ثوابت الفكر الإسلامي.فالمفكر ذو الخلفية الإخوانية ،إذ يسلم بالعلمانية التقنية أو الإدارية ، يرفض أسسها الابستمولوجية و الأخلاقية،ويشكك كثيرا ،في شرعية نقد الأديان رغم أن الحداثة مؤسسة ،جوهريا ،على النقد.وبدلا من نقد الشريعة ، يكتفي ،بتوافقات عملية ،هادفة إلى امتصاص الغضب ،كما في موقف طارق رمضان من الرجم ومن المثلية الجنسية.
يجرد المثقف اليساري هذا الحضور من جذوره الثقافية والتاريخية ، ويربطه،حصريا ، بالحاضر السياسي أو الجيو-سياسي أو الاقتصادي .والحال أنه لا يستجيب للمقتضيات الراهنة ، إلا عرضا؛لأن بواعث الفعل ،راجعة إلى مجالات وتواريخ ومثالات لا تمت إلا بصلات واهية بالعصر والمجال الأوروبي. صار عاديا ، توجيه اللوم والنقد إلى الذات بعد كل حادثة مهما كانت شراستها(قتل رسامي شرلي ايبدو مثلا) ،وكأن فرنسا تعيش أزمة ثقة في الذات.فخلف كل حادثة تشكيلة من البواعث حسب المثقف اليساري أو المتياسر : العنصرية والتفقير ورواسب الحروب الكولونيالية وسياسات الهجرة المعتمدة وتهميش الضواحي وإقصاء المعرفة الدينية من التدريس ومناهج التربية وأخيرا الأزمة الدينية العاصفة الموصوفة في كتاب ايمانويل تود عن مظاهرات 11يناير 2015 الخ .
ومن اللافت ،للنظر أن دعاة اللاشعور السياسي ،والمتخيل السياسي ،يتجاهلون دور المحددات الأنثروبولوجية للفعل الاجتماعي والسياسي ،ويركزون على محددات ظرفية ،إدارية أو اقتصادية أو جيو-سياسية.
كيف يمكن لفرنسا عاشت تحت ظلال الديكارتية والفولتيرية والكونتية والثورة الفرنسية ،وشهدت تحولات عميقة في النظر إلى المعرفة الدينية وفي التعاطي مع الجسد والجنس ،أن تتجاوب مع فكر وسلوكيات ممعنة في المحافظة ،مثل رفض نقد الأديان والإختلاط و الجنسانية المتحررة و حرية الضمير والاختيار ؟
يحاول بعض اليساريين ،قبول هذه الممانعات باسم حق الاختلاف وحقوق الإنسان والتعددية الثقافية ؛فكما يشهد العالم المكوكب سيولة في الأموال والمعلومات ،فمن الضروري ، أن يشهد تعددا في الأفكار والمعتقدات والسلوكيات.
بإمكان المجتمع المعاصر ،أن يجمع شتاتا من المعتقدات ومن الفلسفات ،دون صعوبات كبرى في اعتبار ورثة ثورة ماي .ويستشهد دعاة هذه النسبانية بالنموذج الأمريكي أو الأنكلوساكسوني .أما دعاة الاستيعاب إو الإندماج الثقافي(اراء إريك زيمور في كآبة فرنسية ) ،فيؤكدون على ضرورة صهر المهاجر الوافد في بوتقة ثقافة الاستقبال .فالتعددية والنسبانية هما عرض من أعراض ما سماه آلان فانكلكروت ب"هزيمة الفكر " .
وكما قبل اليهود الانصهار في البوتقة الفرنسية والتخلي عن الناموس ،فإن المسلمين مطالبين بالتخلي عن مطالبهم الطائفية وعن الشريعة والاندماج الثقافي في المجال التداولي الفرنسي .
وقد افتقد مثقفو اليسار الفرنسي،تقاليدهم النقدية ، ولاسيما بعد سيطرة الفكر الاختلافي والنسباني ؛ واظهروا مرونة غير مطلوبة في النقاش الفكري مع حاملي فكريات مناهضة في العمق للغرب والحداثة (حوار الآن غريش وادغار موران مع طارق رمضان ).ينتهي البحث عن التضامن والتعايش والخوف من الإسلاموفوبيا ،إلى التغاضي عن القضايا الحساسة : شرعية المعرفة الدينية في السياق الحديث.وهكذا يقود السعي إلى طي الصفحة الكولونيالية والبحث عن شركاء في مصارعة العولمة والليبرالية ،إلى الاستنكاف عن مناقشة عميقة لقضايا إبستمولوجية أو أخلاقية وثيقة الارتباط بالمطالب الثقافية والسياسية الإسلامية في الغرب. كما يتم الاعتماد على مقاربة حقوقية مجردة ،في سياق ثقافي يقتضي مناقشة جوهرية ،لأسس الفكر المطالب بموقع متميز في مجتمع معلمن.
يحرص مثقفو اليسار على التعايش أكثر مما يحرصون على الحقيقة .فالواقع أن اليسار المعروف تاريخيا ، بنقده للأفكار الماورائية والمؤسسات الدينية ،يتخلى عن تقاليده النقدية كلما تعلق الأمر بالقضايا الإسلامية،وكأن التميز عن اليمين المتطرف ، يقتضي المداراة أو التشبث بحقوق مجردة .
ويميل الكثيرون إلى النظر إلى إشكاليات الوجود الإسلامي بفرنسا ، اعتمادا على معطيات فرنسية ؛علما أن مناهل ورؤى المسلمين ،نابعة من بلدان المنشأ ومتأثرة جوهريا بإشكاليات الإسلام في العالم المعاصر.لا ترجع استجابة البعض للإرهاب الجهادي ،إلى الإقصاء الممنهج ،كما يظن بعض اليساريين ،بل إلى رؤية فكرية لاهوتية –سياسية ،يترجمها البعض لأسباب سياسية ظرفية إلى سلوكيات أو أفعال منظمة ، ويحتفظ بها الكثيرون في زوايا الوعي أو اللاوعي ،إلى حين انتفاء كل الحواجز المانعة دون الانتصار الرمزي أو الفعلي لها.فلو تعمق مثقفو اليسار ، في فهم محددات العقل السياسي الإسلامي ، لربطوا كثيرا من الظواهر المعاينة ، بأطرها وبواعثها الفعلية ، و لأسندوا للسياق الفرنسي ،حيزا محدودا في مقاربتهم لاختلاجات الفاعل المسلم.

هادي اركون








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السلفيين في اوربا لماذا ولايعيشون في افغانستان؟
مكارم ابراهيم ( 2015 / 5 / 28 - 06:38 )

تحية طيبة استاذ هادي موضوع هام جدا في كل اوروبا التي شهدت الارهاب الاسلامي
ومعك اتفق فيما قلت -كيف يمكن لفرنسا عاشت تحت ظلال الثورة الفرنسية التعاطي مع الجسد والجنس ،أن تتجاوب مع فكر رفض نقد الأديان و حرية الضمير والاختيار ؟
يحاول بعض اليساريين ،قبول هذه الممانعات باسم حق الاختلاف .
بإمكان المجتمع المعاصر ،أن يجمع شتاتا من المعتقدات ومن الفلسفات ،دون صعوبات واخرين يؤكدون على ضرورة صهر المهاجر الوافد في بوتقة ثقافة الاستقبال .فالتعددية والنسبانية هما عرض من أعراض ما سماه آلان فانكلكروت ب-هزيمة الفكر - .
وكما قبل اليهود الانصهار في البوتقة الفرنسية والتخلي عن الناموس ،فإن المسلمين مطالبين بالتخلي عن مطالبهم الطائفية وعن الشريعة والاندماج الثقافي في المجال التداولي الفرنسي
لكني انا شخصيا لاافهم لماذا يعيش السلفيين في اوروبا اصلا وامامهم افغانستان وايران والسعودية يطبقون الشريعة والخلافة الاسلامية؟؟؟؟؟

اخر الافلام

.. الشرطة الفرنسية تفرق محتجين اعتصموا في جامعة السوربون بباريس


.. صفقة التطبيع بين إسرائيل والسعودية على الطاولة من جديد




.. غزة: أي فرص لنجاح الهدنة؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. دعوة لحماس من أجل قبول العرض الإسرائيلي -السخي جدا- وإطلاق س




.. المسؤولون الإسرائيليون في مرمى الجنائية الدولية