الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- الحياة اذ تتعرف على نفسها في كتاب - شكرا ً للموت

ياسر اسكيف

2005 / 10 / 3
الادب والفن


( سواء كنت مع تجربة محمد عضيمة أو ضدّها فهو مشاكس يأتي من الضفّة الأخرى للكتابة , وينبغي الإنصات إلى هذيانه . – الشاعر والروائي خليل صويلح – صحيفة تشرين ت 16-3- 2005 )
بوعي حادّ ويقظة عالية النبرة , يأتي محمد عضيمة من الضفّة الأخرى للكتابة . وإن كان من هذيان , كما يرى الصديق خليل , فهو هذيان يتجلى في منطق القول وآلياته , لا في اللفظ أو التشكيل الشعري , كمشروع وعي مناقض يشكّل , بالاشتغال عليه , إعادة إنتاج أصيلة وإبداعية لروح الحداثة الشعرية .
يفتتح عضيمة الكتاب بخاتم قطيعة وبدء من لا شيء ( ملاحظات شخصيّة جدّاً حول الصّفر / لأن الصّفر دوماً على حق . ص5 ) وإليه ينتهي ( شكراً للموت / الذي يمحو كلّ شيء / ليبدأ كلّ شيء / من جديد / شكراً للموت / حليفي / وحليف المدفأة . ص90 ) وفي رحلته بين النهايتين / البدايتين يحتفي بارتياد المجهول , والسخرية من اليقين المتخثّر , داعياً إلى المغامرة وإحياء القلق : ( لا بأس أن تلحق بإخوتك / أيها الصبي الخجول / وتعطيهم التمرين الأوّل في ركوب الرياح . ص60 )
لا أعتقد أن قراءة كهذه يمكنها أن تجاري التجربة , وتعيد إنتاجها . خصوصاً أن( شكراً للموت )
جزء من مشروع شعري – نقدي لمحمد عضيمة , وليس كتاباً لشاعر مبتديء تنقصه الخبرة والحرفنة . وبالتالي أجد أن قراءة هذا الكتاب كنصّ واحد هي القراءة الأكثر إنصافاً , من حيث أنّه محاكاة فاضحة لا رحمة فيها للحياة . ولأن التقطيع والتجزيء قد يستجرّ معه آليات للقراءة تعزل الكثير من المقاطع وتضعها خارج ضرورتها النسقية – الموقعيّة , وبالتالي قد تحيلها إلى مجرّد معان للهزء من القارىء وعدم احترامها له . في الوقت الذي تتمتع به هذه المقاطع بشعريّة خاصّة استمدّتها من موقعها , وليس من شرطها البلاغي ومشتقّاته .

إن الشفوية المريرة , والنثرية التي لا تستجدي شعريّتها من مقاييس وموازين المنجز الشعري السائد , تتنامى مدعومة أحياناً بمقاطع مكتفية شعريا بذاتها لتؤدي أدواراً موزعة بعناية ودقّة في تشكيل سيمفونيّة جحيمية , ألّفها ووزّعها موسيقي حرّيف .
بهذا يغدو ( شكراً للموت ) إطاراً يجمع المختلف ويؤلّفه , كأنّما الحياة تتعرّف على ذاتها في كتاب . وبهذا أيضاً يختلف عن الكتب التي تنقل الحياة كأجزاء أو محطّات عبر مجارير الوعي ومعامل تنقيته . وتلك السيمفونية , التي قد تؤرّق ذائقة الكثير من المستمعين , تقدّم درساً مختلفاً , بل صادماً , في إيقاع النثر , يمكن اعتماده في الجدل الذي لم يحسم حول هذا الأمر .

فالمقاطع الإثنا عشرة الأولى ينتهي ثمانية منها باللازمة المقلوبة أو بالخاتمة ( لأن , الصّفر , الشمس , غداً , ........ , على حق ) وهذه اللازمة تتناوب مع لازمة مختلفة بعد مرّة واحدة , ثمّ بعد مرّتين , ثمّ بعد ست مرّات . لتعود وتتناوب بشكل دوري مع لازمة جديدة ( غداً أيضاً / غداً / غداً أيضاً / غداً . ) خمس مرّات , ثمّ تتكرّر اللازمة الثانية مرّة واحدة , لتعاود بعدها التناوب عشرين مرّة مع اللازمة الأولى . ثمّ تأتي لازمتين من النوع الأوّل مفصولتين بمقطع غير ملزّم , وبعدهما تختفي اللازمة على مدى ست عشر مقطعاً متعدّدة المواضيع ومتباينة في المستوى الفني , كأنّما هي نوع من تزجية الوقت , أو الثرثرة في مقهى , أو الكلام المهدور مع رفيق سفر مفروض إلخ .... بعبارة أخرى , هي كسر , بتواطؤ مفضوح , للإيقاع , بما يحرضه ويستثيره .
ثمّ تبدأ بالظهور لازمات جديدة مثل ( أقيس حرارته مرّة أو مرتين / وأمضي ) أو ( وأنت فوق حصان / من قصب ) أو ( ستوب يا أخي ستوب ) الخ ...
إن التكرّار الذي يصرّ عليه محمد عضيمه يولّد إحساساً بالضيق , وكأنّما أيامنا وأفعالنا وتاريخنا يتجسّد كفضيحة فوق الصفحات , ليس بالرتابة والخواء فحسب , بل بالعبوس أيضاً , وبالافتقار إلى أدنى حدّ للمرح . وعند مستوى معيّن من الإحساس بالضيق يأتي فاصل من الدعابة يصنعه الهبوط بالكلام إلى أكثر أشكاله عاديّة ( هل تسمع / نعم / ماذا ؟ / وقع أقدامي الجميل . ص 19 ) بعده مباشرة , وكقطع حاد , تعود شحنة الضيق لتأخذ بالتصاعد , وكأنما القارىء بين لازمتين منفّرتين تتقاذفانه ككرة . وفي المسافة بينهما , التي هي الزمن المستغرق لطيّ الصفحة , يشعر بالحريّة والإنعتاق . وهنا لا يمكنني تفسير الإسراف الطباعي إلا كنوع من المخاتلة والمواربة ( مقطع واحد في كلّ صفحة , مهما كان المقطع قصيراً ) بحيث لا يستطيع القارىء رؤية اللازمتين معاً وبالتالي يبقى باب الخلاص أمامه مفتوحاً .
ثمّ تبدأ لازمات أخرى بالتناوب في السخرية من الحياة ومن كائناتها المؤجّلة برسم المستقبل المشرق وتصبح سيطرة اللازمة الواحدة على الصفحات أقلّ , ناقلة الإيقاع من البطء إلى السرعة .
وتنفرد أخيراً عبارة ( وأنت فوق حصان من قصب ) لتختصر سيرة الفرسان المهزومين المقهورين الذين صنعوا المعجزات بسيوف الإنشاء ورماح البلاغة .

مرّة أخرى أقول , بأن ما يكتبه محمد عضيمه لا يبدو شعراً , على الأقل كما قاربه في كتبه العديدة ( التنظير ) ولكنني أجد في ( شكراً للموت ) خصوصيّة تفتح العين على نمط مختلف من الكتابة يحتاج إلى نمط مختلف من القراءة .
شكرا ً للموت - محمد عضيمة - دار التكوين - دمشق - 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل