الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقديس الداعين إلى نموذج الحضارة الغربي على طول الخط

ثائر دوري

2005 / 10 / 3
مواضيع وابحاث سياسية


منذ أن بدأ تدهور الحضارة العربية – الإسلامية و تحولت أوربا إلى المركز المنتج للتقدم التقني و صارت هي المقرر في شؤون السياسة الدولية عانى العالم العربي – الإسلامي من إشكالية ناجمة عن الاحتكاك بالغرب المتقدم تقنياً،و هي ما يسمى اليوم بجدل الداخل و الخارج،أو ما اصطلح على تسميته بالأصالة و المعاصرة.لقد برز ميل عام لدى أغلب المثقفين و ما زال مستمراً حتى اليوم لتمجيد كل من دعا إلى تقليد الغرب أو إلى استلهام طريقة الحياة الغربية في الملبس و الطعام و الشراب و العادات و التقاليد،و تم تقديم ذلك على أنه الطريق الوحيد للخروج من التخلف المحلي الموروث و النابع من ذات الحضارة العربية – الإسلامية،حسب زعمهم.و بالطبع فإن الشعب لم يقبل بهذه الترسيمة التي تسم الذات بالتخلف و الآخر بالتقدم.بل استمر يعبر و بأشكال مختلفة عن تمسكه بحضارته و إن كانت متأخرة تقنياً.
و انسحبت هذه النظرة لتمجيد الغرب و رجالاته على دراسة التاريخ فتم تقديم الشخصيات العربية أو التركية التي دعت لتبني النموذج الحضاري الغربي بشكل إيجابي تام ،فكتبوا عنها و تناولوها بطريقة لا تخلو من التقديس بعيداً عن النظرة الموضوعية،ومن أشهر من خضع لهذه القراءة التاريخية المتعسفة فتم رفعه إلى مرتبة القداسة هو الوالي العثماني مدحت باشا.
إن مدحت باشا من أشهر الشخصيات في تاريخ الدولة العثمانية إذ تنقل في مناصب كثيرة من والي بغداد إلى وزير للعدل إلى الصدر الأعظم إلى والي دمشق،و ربما لم تجتمع النخب العربية على تمجيد شخصية قدر مدحت باشا سواء بالكتابة التاريخية أم الفنية،و السبب في ذلك أنه حاول القيام بإصلاحات عميقة على الطريقة الغربية في الدولة العثمانية،ففي عهد السلطان عبد العزيز (1861-1876) قام مدحت باشا -وكان وزيراً للعدل- باقتراح دستور على الطريقة الغربية على السلطان،و أحب أن أشير بين معترضتين أن الأمر يصور و كأن الدولة العثمانية لم يكن لديها دستور بل كانت بوضع أشبه بالعماء إلى أن جاءت الدعوة إلى الدستور على الطريقة الغربية،في حين أن الدولة العثمانية كانت تحكمها مجموع ضخمة من القوانين بعضها مستمد من الشريعة و بعضها من العرف و التقاليد و العادات الاجتماعية و قد تكفلت هذه القوانين بتسيير أمور الدولة و سط قبول اجتماعي عام لها على مدى قرون.بعد أن دعا مدحت باشا إلى دستور غربي عزله السلطان العثماني عبد العزيز من الوزارة.و عندما تولى مدحت باشا الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909)عهد إليه السلطان تأليف لجنة لإعداد دستور للبلاد تحت ضغط ظروف معقدة ،فكان أن أعدته اللجنة ونشرته تحت اسم "قانون أساس" في 23 ديسمبر/ كانون الأول 1876،وضم الدستور الجديد الذي تأثر واضعوه بالدستور البلجيكي والروسي 12 قسماً و119 مادة،وأصبح دستوراً رسمياً للدولة قبل أن يوقف لسلطان عبد الحميد العمل به ( الجزيرة نت ).و خلال ولايته لبغداد و دمشق قام بكثير من الأعمال الهامة و التي تستحق المناقشة و التوقف عندها لكننا لا نناقش هذا الأمر الآن.بل ما نناقشه نظرة المتأخرين و طريقتهم في الحديث عن هذه الشخصية فقد حولته النخب العربية إلى أسطورة فأبرزت كل النصوص التي تمجد شخصيته و بالعكس طمست كل الآراء و النصوص التي كان لها رأي مغاير فيه.على الرغم أن الدراسة الموضوعية لأية شخصية تاريخية تستوجب سماع كل الآراء التي قيلت حوله ،فيجب أن تفرد كل الآراء على بساط البحث،سلبية كانت أم ايجابية،من أجل تعميق النقاش حول موضوع التقدم و التأخر.و بالتالي صار لدينا شخصيات أحادية الجانب يمكنك أن تعرف مسبقاً ما سيقال حولها.فإن كان الشخص ممن دعوا إلى تبني النموذج الغربي فكتابات المثقفين ستمجده و بالعكس. و بقي الرأي الآخر مدفوناً في بطون الكتب يحتاج إلى من يفتش عنه ليزيح عنه الغبار،و مثال ذلك رأي عالم الاجتماع و المؤرخ العراقي الكبير د.علي الوردي بشخصية مدحت باشا،فهو يقول*:
((.. حين يتحول أي رجل من رجال التاريخ إلى " أسطورة "ينسى الناس سيئاته و أخطاءه و يبالغون في ذكر حسناته و مناقبه. و هذا هو عين ما حدث فعلاً في شأن مدحت باشا،فقد صار في نظر الكثير من الكتاب و المؤرخين كأنه معصوم عن الخطأ و كأن أعماله كلها حسنة لم يصدر منها أي قبيح إطلاقا. إن مدحت باشا يشبه من هذه الناحية بعض عظماء التاريخ الذين تمجدهم أممهم فنحن نقرأ سيرتهم الآن لا نجد سوى المديح مع العلم أنهم كانوا في حقيقة أمرهم بشراً يصيبون و يخطئون. إن سيرة هذا الرجل من هؤلاء يمكن أن نسميها "مغربلة "،و هي سيرة لا يستسيغها المنهج العلمي الحديث كما لا يخفى.. ))
و بتابع علي الوردي:
((أستطيع أن أقول بوجه عام إن مدحت باشا على الرغم مما تميز به من كفاءات و فضائل كان يرتكب اخطاءاً كثيرة من جراء ثقافته الناقصة و شدة شغفه بالحضارة الأوربية. و الظاهر أنه كان ذا ولع مفرط بالتجديد و بتقليد الأوربيين،و كأنه كان يعتبر الأوربيين المثل الأعلى الذي يجب أن يهتدي به كل من يريد إصلاح بلاده من الشرقيين. يقول عنه المؤرخ لونكريك أنه:
لم تخل أعماله العديدة التي اضطلع بها خلال سني حكمه في العراق...من آثار العجلة و الأغلاط الاقتصادية الناشئة عن جهل بعض الأمور أو تناسيها،لأنه كان في بعض الأحيان كثير الثقة،حتى الإفراط،بكل ما يسمى تجديداً،كما أنه يفضل في أحيان أخرى الأمور الخلابة على الأمور المعقولة... على أن نظره للأمور،و فعاليته الوطنية،و استقامته المطلقة،كلها أنجزت أعمالاً من الأعمال التي تمكنت ثقافته الناقصة من تشويهها
((و يصفه المؤرخ بلنت و كان قد التقى به في دمشق أثناء ولايته عليها فقال عنه: ((لم يكن ممتازاً بأي شيء في مظهره سوى أنه كان فخوراً مختالاً،و لم أجد في أثناء محادثتي معه في موضوع تجديد تركيا و إصلاحها أي عمق في أفكاره،والواقع أنه كان من أكثر الأتراك احتقاراً لكل ما هو عربي.
و يتابع علي الوردي:
((يخيل لي أن مدحت باشا لا يختلف من بعض الوجوه عن أولئك ((الأفندية)) المغرورين الذين لم ينالوا من الثقافة الحديثة سوى معلومات ضحلة فصاروا يتحذلقون بها ظناً أنهم استوعبوا جميع أسرار الكون و المجتمع و أنهم قادرون على إصلاح كل شيء بجرة قلم.))
هذا رأي تم طمسه خلال قرن من الزمان و السبب في ذلك أن أغلب النخب القومية و اليسارية التي ملأت فضاء الحياة العامة كان مفتوناً بالغرب مثله مثل مدحت باشا ،و لا ترى هذه النخب طريقا للخلاص من التخلف إلا عبر استنساخ التجربة الغربية .لذلك استوردت كل أنواع الأفكار من الغرب،من القومية إلى الماركسية إلى الليبرالية و الليبرالية الجديدة اليوم ,و كان نصيب كل هذه المحاولات فشلاً تلو فشل.لأن النهوض و التقدم مسألة أعقد من أن يتم استيرادها على طريقة مفتاح باليد. فتجربة النهوض و التقدم لا يمكن استيرادها أو تقليدها،لأن كل تجربة تصلح للشعب الذي أبدعها. هل ندرك هذا علنا نبدع تجربة النهوض الخاصة بنا؟


* لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ( الجزء الثاني ) مطبعة الإرشاد بغداد 1971








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الأوكراني: الغرب يخشى هزيمة روسيا


.. قوات الاحتلال تقتحم قرية دير أبو مشعل غرب رام الله بالضفة




.. استشهاد 10 أشخاص على الأقل في غارة جوية إسرائيلية على مخيم ج


.. صحيفة فرنسية: إدخال المساعدات إلى غزة عبر الميناء العائم ذر




.. انقسامات في مجلس الحرب الإسرائيلي بسبب مستقبل غزة