الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصائد أندروميدا - اعادة انتاج البدء تأسيسا ً على عناصر الوعي

ياسر اسكيف

2005 / 10 / 4
الادب والفن



أن تتكرر كلمات بعينها , في مساحة نصيّة محدّدة ,أمر ليس عاديا ًأبدا ً, كما أنه لا بد لهذا التكرار أن يعطي لتلك المساحة سمتها الخاصة . والخصوصية هنا وصف لا يعني حكم قيمة أبدا ً, كما لايمكن لتلك المفردات الا أن تقدّم مفاتيح مهمة ولازمة في تجربة الحوار والاحتكاك مع تلك المساحة .
في ( قصائد أندروميدا ) للشاعر حازم العظمة الصادرة عن دار ( الناس ) للكتب والشعر - دمشق -2004 يخرج النص الشعري عن المألوف من العناصر التي اعتدنا عليها في صياغة التجربة الشعرية , محليا وعربيا , ليذهب الى المناطق البعيدة والغريبة في حدود اشتغاله .


الرمل وما يتّصل به ( 70 مرّة ) الصخر ومشتقّاته من حجر وحصى ( 79 مرّة ) الليل (79 مرّة ) الريح والهواء ( 42 مرّة ) الغيم ( 12 مرّة ) . مفردات احتوتها مئة وخمس صفحات مكتوبة بتشكيل شعري . أظنها تدفعنا إلى صياغة أو رسم اللوحة التالية : مساحة لا متناهية من الجبال والصحارى , يغمرها الليل وتعصف في جنباتها الريح . هذه اللوحة التي ستبقى على الدوام مسرحاً للتجربة , بكلّ ما تقدّمه خشبة المسرح الموصوفة من معان ٍ ودلالات .

هي الرغبة , عين الذات التي أعطبت أو قنّنت حاسّتها البصرية , بتقنينها لعناصر الاشتغال البصري . حيث أن التشكيل المعتنى به , والمباغت أحياناً كثيرة , التشكيل
الذي لم يخل من أي نصّ , اقتصر في قيامه على عناصر بعينها , دون إسراف أو بهرجة . وفي المساحة المستنزفة والمدمّرة , بين الإرادة والرغبة , يتنامى الشعر ويتمايز كإرادة ملتبسة . كنافذة على صحرائين , تصل وتفصل بين خارج قدري ميت ٍ , وداخل يتمرأى به , ويتشكّل على صورته :

كنت تنظر عبر الجدار
- وراءك كانت الصحراء -
غير بعيد أمامك
كانت الجوقة
والبهاليل يرتجلون نهاراً خفيفاً
كنت تملأ للمغنين الكؤوس
وتجلس عند جدار خفيض
أمام منصّة الرمل
ثمّ لا تعرف في أيّة جهة أنت من النافذة
من بعيد .......
........ ما تزال هناك
وحدك
وراء زجاج نافذة ٍ تعكس الرمل . - ص12 – 13

البهاليل والمغنون والكؤوس , صحراء أخرى . ومنصّة الرمل المعدّة لارتجال النهارات الخفيفة ,نهاراتنا جميعاً , نحن خدمها المخلصين إلى أن يكتمل العرض , لن يقف فوقها غير الرمل , فكائنات الطاعة لا نصيب لها في الاختلاف , وهذا التيه المغرق في قسوته , والبارع في جحيميته ينجح في دفعنا من فوق ( حافّة الريح ) التي ( انكسرت ) إلى هاوية تجعلنا نتلمّس أحزاننا بالمشارط أو الإبر .

من بدائية المكان ووحشيته , ومن الطقوس الوثنيّة المعمّدة بالدم فوق المذابح الحجرية , وأكوام القمح جوار النبيذ المسفوح , ينهض الشعر ممتحناً قدرتنا على احتمال كلّ هذه القسوة .

حينما تفتح بابك
انّما تفتحه على الصحراء
حين تفتح الصحراء بابها
- هو نفسه -
تذهب في شفق وردي
تمدّده لسنين
... من ذهولك . – ص 19

ما من مكان مكتمل التحديد , والحدث الشعري يسكن , على الغالب , مجتزءات مكانيّة تتشابه مع التجربة في مكابدة النقص , والعصيان على الاكتمال . حيث الوجود الإنساني , المتأكّد عبر أفعاله , شبه معدوم , والآخر الذي تحاول الذات استحضاره , يبقى بعيداً عن الكون عنصراً حقيقي الوجود في التجربة , إنما افتراض يمكنه في أية لحظة أن يكون داخل شروط التجربة .
وما من نقطة محدّدة للبدء . فالخراب المكتمل الأنساق والتفاصيل , يجعل من كلّ شيء بداية , ومن كلّ شيء نهاية . لا ماض ولا حاضر أو مستقبل :

نمرّ من علب ٍ
من أبنية ٍ
من مقالع حجر ٍ
تركت هكذا في العراء
كجرح عميق في الصخور
, لا أحدَ يرانا
, مخلصين لهذا الخراب . ص 79

الآن المحتفى به , آن الخراب الذي يجسّد , بفضائه المنفتح على البدء , حقيقة أنّنا أحياء . وبأن الأموات أموات فحسب , لا قيامة لهم ولا هم يحزنون . فلمَ :

تحلف كأشعيا
كنبي بدوي
وتنذر بقيامة الموتى . – ص66


وحدها المرأة, عنصر التخاطب الوحيد الغير ذاتي, في هذه المتاهة البدائية , تقلق بحضورها طمأنينة المتخيّل الشعري , وتبعثر أدوات النقص السوريالي , بتعرّفها الذي لا يقبل التحوير أو التموضع خارج شرطها الحسي . وهنا تدخل المدينة كمفردة في لغة التجربة , يتوهج القمح , ويراق النبيذ . والمدينة نظام . تحديد صارم للفواصل والحدود . شيء غريب على التشكيلات الهذيانية والعوالم المتداخلة والمتجاورة بطريقة ضدّ منطقية فيما نصّته التجربة .

كأن : لا فضاء هنا
إلا لمدن تتناثر ثانية ..
دونك ِ . – ص 23

ولأن الهذيان لا يستقيم مع امرأة , مع آخر حقيقي ومشارك , مهما بلغت درجة الشطح والتخيل في إحضارها , فإن البدء الأسطوري هو الأفق الأكثر مواءمة لإدراج الواقعي في المتخيّل والعكس . حيث الانتقال من اليومي الحسي الزاحف إلى الأسطوري المجنّح والعكس . دون أن يتحوّل أحدهما إلى بديل للآخر . مع الإحساس أحياناً , بأن هذا العالم الذي بالكاد يتشكّل , إنّما يراهن في تشكّله على تدمير عالم الوعي بأكمله :

من الركبتين
من هذيان ليلي
من توهج القمح على البساط
بكؤوس نبيذ مهملة
بكؤوس النبيذ مراقة في الليل . – ص 21
هي أرض الخلق وبؤرته الموصوفة والفاعلة , الركبتان , الهذيان , القمح , النبيذ . وروح الأسطورة ترفّ على الرمل :

غير أنك في الرمل ِ
بين الظهيرة ِ والرمل ِ
تهذي بها
, .. بالصنوبر ِ
, .. بالنبيذ ِ - ص 42

انه طقس الهذيان بامتياز , ليس الهذيان الشعري الافتراضي فحسب , بل حتى الواقعي المرضي المشخّص . القسوة تفتك بكلّ ما هو حي , وما من مهرب !
( أندروميدا ) الطالعة من خصوبة الأسطورة ودأبها على تفسير ما لا تفسير له , الأسطورة التي تحضر في الوعي كخلفية , تجعل استمرار الحياة على مسرح ( الرمل ) أمراً ممكناً , بل يتحوّل مسرح ( الرمل ) / مسرح الحياة / فضاء المدن المتناثرة إلى وعي للأسطورة , وليس وعياً أسطورياً , وعي يقوم بعزل العناصر والمكوّنات ويلقي بها على الحد الفاصل بين الحلم والواقع , بين الأسطوري والمعاش . ونرى التجربة الشعرية متأرجحة بين مفردات الطقس البدائي الأسطوري , والإحساس الواقعي اليومي العبثي . وهنا تتجسد محاولة القطيعة الأبدية مع المستمر من إرث الوعي , قطيعة لا تتنكر للبدء بل تدعو إليه . وهذه العودة تترافق مع عودة للغة من رحلتها المضنية مع اليقين , بحيث تبدو اللغة في تجربتها وكأنها تجربة الذات , أنها عيش بقدر ما هي أداة :

ليس من سديم
بتلال شعير ٍ
من ضفاف ٍ بأحجار ٍ نهريّة ٍ
, .. حين تأمل أن تفتح عينيك
على مشهد الشرفة ِ
...........
من رصيف الصخور
تتبع نهر نجوم ٍ
من مهابط يصعد فيها المساء
بوعر ٍ
بحوافّ أثيرية . - ص 35

إنها مفردات حلم ٍ , مفردات أسطورة ٍ , تفيد التجربة في الإفلات من قيد العيني المشخّص والموصوف وفق شرطه الذي أعدّه للتداول والقبول :

, أندروميدا تسكن زرقتها :
من تقاطع هذا الفضاء ِ
بمنحدر ٍ عند بئر ٍ قديمة . – ص38

والبئر ليست تحديداً لمكان ٍ بقدر ما هي إشارة إلى رمزية نقطة التقاطع . إشارة إلى ما يمكن للعميق المظلم أن ينتجه إذا ما قيّض له أن يمسّ الفضاء .
والحضور الذي لأندروميدا هو حضور للبدء بإيحاءات الخلق , وتأكّد للإنسان بأفعاله التي تترجم انفصاله عن مكوّنات الوجود الأخرى , ذلك الانفصال الجحيمي الذي لن يبرأ من وجعه إلى الأبد

, أنّك ِ تقتربين بعطرك ِ
حيث أثر لصخرة بيضاء َ
جرّت على الرمل . - ص 38

هي جثّة وليست صخرة , فعل دموي بدأ ولن ينتهي . فعل لا بدّ منه , سيبقي البشرية طيلة عمرها مشغولة بترميم الخراب الذي أحدثه وسوف يحدثه . وستبقى أيها الشاعر , كأنّما تكمل ما بدأ من قول , هناك حيث أنت :

تعيد من المشهد المتداعي
الغرفة الحجرية
أعمدة القمر المائل .
, صخوراً تهاوت
, واقفة هكذا
في فضاء يمدّد منه الهواء
تمدّد منه السراة
, بأحجارها
, بشجيراتها
..... معلّقة هكذا
في فضاء المذنّب . ص 59

ومن ناحيتي , سأبقى عالقاً , إلى أمد غير قصير, في برزخ اللا اكتمال الذي سحبتني إليه ( قصائد أندروميدا ) هامساً : ما من كتاب شعري منته . ما من كتاب يتقدّم خطيّاً . حتى تلك الكتب التي نصفها بالهزال , تتشعب بنا , شئنا أم لا , إلى منابت هزالها ومحطّاته . فكيف بكتاب يخرج عن السرب , مقترحاً على الشعر تجربته الخاصّة , والخاصّة جداً , دون أن يعني لفظ الخصوصية حكم قيمة نقدية بأي حال .























التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل