الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعا يا ورد

طوني سماحة

2015 / 5 / 31
حقوق الاطفال والشبيبة


تلامذتي في العاشرة من العمر. يتكلم معظمهم الانكليزية كلغة أمّ فيما جميعهم يدرس الفرنسية كلغة ثانية. تختلف خلفياتهم الإثنية والثقافية والدينية، فمن العنصر الانكلوسكسوني الى الفرنسي والروسي والصيني والشرق اوسطي.

تقدمت مني اليوم "ورد" ذات الاصول الايرانية و الشعر والبشرة السمراء. أعلمتني أنها سوف تنتقل في نهاية الاسبوع الى بلدة أخرى و أن نهار الجمعة المقبل سوف يكون آخر نهار لها معنا. أطلعت رفاقها على الأمر. تقدمت مني بعض الفتيات في نهاية الحصة وطلبن مني السماح لهن بتنظيم حفلة وداع لورد صباح الجمعة، وهكذا كان.

ظُهرَ يوم الخميس، آثرت الفتيات البقاء في الصف خلال فرصة الغداء للتحضير للحفل. استحصلن على ورقة كبيرة حمراء حولنها الى بطاقة كتب كل منهن عليها نصا يتمنين فيه لورد النجاح ويعبرن فيها عن مشاعر الحزن لرحيلها. مرت البطاقة لاحقا على كل افراد الصف سرا وكتب كل واحد منهم أمنية لرفيقتهم الراحلة. نظّمن الحفل. تكلفت جنيفر بصناعة قالب حلوى تساعدها فيه أمها على تحضيره. أحضرت سارة بالونات العيد واهتمت باميلا باحضار الزينة.

صباح يوم الجمعة أرسلتُ ورد الى صف آخر بحجة انهاء بعض الفروض كيما اعطي رفاقها الفرصة لتحضير الحفل. علّق التلامذة الزينة على الحيطان وحلقت البالونات في أرجاء الغرفة واختبأ الجميع في الزوايا وتحت الطاولات. سرت عدوى الحفل إلي فقمت أنا أيضا بالاختباء. أطفأنا الأنوار فيما كان سامر الذي كسر ساقه الاسبوع السابق يتنقل سريعا على عكازه كيما يختبأ هو أيضا قبل وصول ورد. ذهبت سهى لإحضار ورد فيما السكون والظلام يخيم على الغرفة. عندما فتحت ورد باب الصف فوجئت بالنور يشع من الغرفة المظلمة و بصراخ رفاقها دفعة واحدة "Surprise ".

جلست خلف مكتبي أراقب التلامذة الذين ابتدأوا بأكل الحلوى فيما بريق الفرح والمفاجأة كان ما يزال يشع في عيني ورد. ودون أن أدري أخذتني أفكاري الى أطفال سوريا والعراق ومنها الى سائر البلاد العربية والاسلامية. كانت المفارقة صارخة. فمن طفل يحتفل في مدرسته الى طفل بات لا يعلم ما معنى المدرسة. من طفل يؤم المدرسة ليتعلم قواعد اللغة والرياضيات والعلوم الى طفل قد تكون الانظمة الشمولية السياسية والدينية حولته الى مسخ. من طفل غادر بيته صباحا الى المدرسة كيما يعود اليه مساء وقد بنى مدماكا جديدا في صرح مسيرته العلمية والثقافية الى طفل صار بيته كومة خراب وصارت مدرسته ثكنة تدريب عسكري. من طفل يتهيأ لعلوم التشريح الى طفل لا يرى حوله سوى قطع الرؤوس. من طفل يختبر سحر الموسيقى والرسم الى طفل يشتم رائحة البارود. من طفل يقرأ الشعر و يكتب القصة القصيرة الى طفل لم تعد القراءة والكتابة جزأ من مسيرته العلمية، وهو إن قرأ لا يقرأ سوى أخبار الموت. من طفل تخرّج مدرّسه من جامعة راقية الى طفل أصبح معلموه أب الموت وأب الجماجم. من طفل يتعلم قبول الآخر الى طفل يتعلم قتل الآخر وتكفيره.

رحمة يا كبار بلادي بأبنائكم. أبناؤكم أبناء الحياة وليس أبناء الموت. رحمة أيها الآباء بهم. هم يتعلمون منكم أولا وآخرا. فإن كنتم أنتم تكفّرون الآخر لا تنتظروا منهم أن ينشأو على قيم التسامح. إن كنتم أنتم تتخاطبون فيما بينكم بلغة السلاح لا تنتظروا منهم أن يخاطبوكم بلغة شكسبير أو جبران. إن كنتم أنتم تستعملون مصطلحات الموت في أحاديثكم لا تنتظروا منهم أن يستعملوا معكم مصطلحات الطب والفيزياء. إن كنتم أنتم من مؤيدي الحرب لا تنتظروا منهم الحصول يوما على جائزة نوبل للسلام. إن كانت الشتائم الركن الاساسي في خطابكم لا تنتظروا منهم أن يتعاملوا مع الآخر بثقافة "من فضلك" أو "لو سمحت" أو "أرجوك".

رحمة يا سياسيّ بلادي بأبنائكم. فالبلاد التي تبني قيمها على ترسانة الاسلحة لا بد وان تنفجر مع الشرارة الاولى للأزمة. البلاد التي تبني مناهج التعليم فيها على التمييز والتكفير لا بد وأن تخرّج دفعات من الحاقدين. البلاد التي تبنى على الفساد لا بد وأن تتآكل من الداخل بدود الفساد قبل أن تنهار من الخارج بقنابل العدو.

رحمة يا تجار السلاح بأبناء بلادي. فالسلاح الذي تبيعونه اليوم لن يميز غدا بين أبنائكم وأبنائهم. والرصاصة التي تطلق بكل الاتجاهات لن تعرف من هو العدو والصديق. والقنبلة التي تنفجر لن تميز شظاياها بين من اشتراها ومن باعها.

رحمة يا مدرسي بلادي بتلامذتكم. أطفالنا هم مستقبلنا فلو أنتم أسأتم تربيتهم اليوم تكونون قد زرعتم بذار المرض في جسم المستقبل. إزرعوا زرعا جيدا تحصدون حصادا كثيرا. إزرعوا بذارا فاسدا تحصدون جوعا وجفافا وموتا.

وداعا يا ورد. صلاتي لك ولكل الاطفال مثلك في الشرق والغرب أن تكون الايادي التي تعتني بكم نظيفة وأن تكون البيوت التي تعيشون فيها آمنة وأن تكون المدارس التي تؤمونها محجة للثقافة. صلاتي أن يزرع فيكم المسؤولون عنكم ثقافة الحياة لكي يكون مستقبلكم وردا جميلا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية