الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من أفانين شيكسبير

صلاح نيازي

2015 / 6 / 2
الادب والفن




من أفانين شيكسبير وتأثيرها في الترجمة
- مكبث مثالاً-



لم تتعمّق الأبعاد التراجيدية، في مسرحية مكبث، إلاّ بعد أنْ جعل شيكسبير، بطله مكبث
يفتّش عن اليقين في اللايقين، وفي الوقت نفسه، جعل الليدي مكبث تفتّش عن الخير في الشرّ. بسبب ذلك باتت مسرحية مكبث في نظر جلّ النقّاد أكبر دلتا دموية في تأريخ الأدب. مع ذلك استحوذت هذه المسرحية المنقوعة بالدم، على معظم الدراسات الشيكسبيرية، لكنْ لِمَ؟
يقول تيرنس هوكس:"تركت مسرحية مكبث بَصْمتَها على نقّاد القرن العشرين، كمسرحية ذات مغزى معاصر يدعو إلى الدهشة، فعلى الرغم من استغراقها في عالمٍ قديم، وفي الساحرات وتعاويذهنّ ورقاهنّ، إلاّ أن الذين كتبوا عن المسرحية، في عصرنا هذا، يشيرون إلى شعور متنامٍ من أنّ بطل المسرحية يتحدّث بصوت عالٍ من داخل وضع سياسي وأخلاقي معاصر عن قضايا معاصرة".
هذا صحيح. بيْدَ أنّ معاصرة مسرحية مكبث ليست هي الشئَ كلّه. فلولا أفانين التأليف التي توسلها شيكسبير، لما كانت بذاك التأثير، بحيث تتقزز من الدم، وتراقبه بلهاث وشغف.
ما الأفانين تلك؟
قد يكون من المفيد، أن أعود قبل ذلك، إلى ماذكرته في مناسبة سابقة، عن بعض المصطلحات الشيكسبيرية الخاصة به، وكيف اجتهد بعض المترجمين العرب اجتهادات غريبة في ترجمتها، بحيث آقتربت من حافة الشطط. اقتربت أكثر. وشطّتْ. من هذه المصطلحات مثلاً:
أوّلاً: Nature أيْ طبيعة، إلاّ أنها في معجم شيكسبير لا تعني إلاّ الإنسان الحيّ أو كل شئ حيّ.
ضربتُ مثلاً عن خطأ وقع فيه أحد أساطين الترجمة، في ترجمة الحوار التالي حينما استخبر مكبث من القاتل هل قتل بانكو، أجاب القاتل حسب تلك الترجمة:
"نعم مولاي الكريم، سليم في خندق
وفي رأسه حُفِرَتْ عشرون طعنة
أصغرها موت للطبيعة"
ماعناه القاتل هنا أن أصغر طعنة كافية لقتل أيّ شئ حي. من سوء حظ المترجم أنّ مصطلح : Nature يتكرر مرات ومرا ت، وفي كلّ مرة يزداد غموضاً بسبب عدم فهم المصطلح.
ثانياً: Time أيْ زمن، ولكنها عند شيكسبير تعني العالم أو الناس. يتكرر هذا المصطلح أيضاً عدة مرات، وفي كلّ مرّة يُترجم إلى زمن، فيعسر فهم المعنى. من ذلك ما قالته الليدي مكبث لمكبث:
"وجهك يا حبيبي كتاب، للناس
أن يقرأوا فيه أموراً غريبة، لكيما تخادع الزمان
إجعلْ محياك في شبه الزمان"
لكنْ ما هو الزمان حتى يخادعه مكبث؟ وكيف يجعل محياه في شبه الزمان؟"
يقول هنتر أحد شارحي مكبث:"حتى تخدع الناس فاظهر بالمظهر الذي يتوقع أن يراك الناس فيه". أماّ محقق طبعة آردن التي اعتمدها المترجم فيقول:"إخدع العالم، ضلّلْْ كل المراقبين"، ويضيف الشارح أيضاً أنّ Time يعني العصر الحاضر، أُناساً وأشياء عموماً".
ثالثاً: Pity أيْ رحمة. الرحمة هنا كأي اسم معنوي في الأدب الإنكليزي يعامل معاملة شخص، له ما للإنسان من أعضاء. من ذلك ما تصوّره مكبث، إنْ هو أقدم على قتل الملك فإنّ الرحمة ستمتطي الزوبعة مثل طفل عارٍ وُلِدَ حديثاً، وانّ رياح الاحتجاج ستهبّ على كلّ عين، وتغرق العين بالدموع".إلا أن المترجم تصور الطفل هو الذي يمتطي الزوبعة فقال:
والشفقة كطفلٍ وليدٍ عارٍ
يمتطي الزوبعة"
اكثر من ذلك لماذا تُرجمت : Pity بالشفقة بدلاً من الرحمة خصوصاً وأنها مصطلح ديني في التوراة والإنجيل ، وقد وردت في القرآن الكريم في ثلاث سور، بالصيغة التالية :"في يديْ رحمته". لا يفوت القارئ كيف تجسدت الرحمة كشخص، فأصبحت لها يدان.

مسرحية مكبث قصيدة ليلية، مكتوبة بحبر مخلوط بدم. اجتمعتْ في هذه المسرحية ظلمة الكون، بظلمة المسرح بعد انتهاء العرض المسرحي، بظلمة العقل. ثلاث ظلمات تتنافس في قتل النوم. حُرِّم النوم في هذا الليل الذي لا ينطبق فيه جفنان. أغرب ليل لا ينطبق فيه جفنان،وسوسةً وهلعاً. حتى النور- على قلّته- في هذه المسرحية عقيم لا يضئ شيئاً. النور في شمعة الليدي مكبث، أعمى لا يدلّها على طريق.
بهذه الظلمة المسنونة، هيّأ شيكسبير خشبة المسرح لأغرب نزال في تأريخ المسرح، أغرب مبارزة بين الإنسان والدّ أعدائه: الوهم.
دخل الوهم إلى الحلبة مع دخول الساحرات الثلاث اللواتي كنّ يمهدن، بمجرّد ظهورهنّ، على المسرح، للتطويح بوعي النظارة وبالتالي تهيئتهم للإيمان بالخوارق. حيلة فنية لإبعاد العقل عن الواقع وربطه بالغيبيات. النظارة يترقبون مستفزين. بهذا التوقيت الدقيق يدخل مكبث وكأنه أحد تلك الخوارق. لم يكنْ دخوله عادياً. كان للتوّ بين الحياة والموت في المعركة. لا تدري وأنت بين صليل السيوف، من أين تأتيك الطعنة .النصر غير مضمون والاندحار أقرب من حبل الوريد. لا تدري أيهما أقوى: نشوة دحر الخصم، أم نشوة النجاة. اجتمعت النشوتان في رأس الضابط مكبث، فطاش وثمل. إنّ رؤوساً كرأس مكبث، على شفا الموت وتنتصر لتمتلئ عادة بالغرور، ولا حدّ لطموحها. كذا وجدت الساحرات الثلاث رأس مكبث الآن في أنضج مراحل تصديق الوهم. فما أنْ تنبأت له الساحرات بأنّه سيصبح ملكاً، حتى صدّق على الفور النبوءة، فإنْ تظاهر بعدم التصديق، فذلك، لأن النبوءة كانت مفاجئة، وخطرة، وممكنة. كيف له أن يصدّق ضربة الحظّ هذه؟
الوهم الذي ركّبه شيكسبيرلمكبث في هذه المسرحية، آتخذ ثلاث صيغ مرّة واحدة. من هنا ثراء شيكسبير في التأليف. بالمقارنة فإن الوهم لدى كتاب آخرين يتخذ صيغة واحدة.
الوهم الذي طبخه شيكسبير إذن؛ ذو رؤوس ثلاثة، تهجم على مكبث، مرة واحدة. ابتدأت معركة الوهم مع مكبث بالرأس أوّلاً، فكانت الثغرة الأولى، في العقل، وبعد ذلك فُتحت الثغرة الثانية في القلب ، مركز العاطفة، وحتى يندحر مكبث نهائياً فلا بدّ من فتح ثغرة ثالثة في الجسد لتفكيك هيكله نهائياً.وبذلك يكتمل العدد ثلاثة وهو رقْمٌ مسحور في هذه المسرحية.
كذا ابتدأت المعركة الأولى بين الوهم والعقل، ساعة قالت الساحرات لمكبث :"سلاماً مكبث! ستكون ملكاً فيما بعد".
أُرتج على بانكو رفيق مكبث، بعد اختفاء الساحرات كالفقاعات في الهواء، وكأنّه لم يُصدّق ما رأى، وقال متعجباً مما رأى:" هل أكلنا جذوراً تسبب الجنون؟".
الجنون هذا كان العلامة الأولى لانفتاح الثغرة القاتلة في العقل الذي راح يتخيّل فيها مكبث قتل الملك. قال مكبث:"ما يقع سيقع، الفرصة المؤاتية آتية مهما كانت الأيام عسيرة". هكذا زيّن الوهم لمكبث أن القدر إلى جانبه مهما كانت ولادته عسيرة، لذا سرعان ما عقد العزم، لاسيّما بعد أن أوصى الملك بالعرش من بعده إلى آبنه الأكبر مالكوم. بات مالكوم هذا حجر عثرة في طريق مكبث للتاج:" أيتها النجوم أحجبي أنوارك!، لا تجعلي النور يرى رغباتي السود والدفينة، دعي العين لا ترى ما تفعل اليد، ليقعْ ما تخشاه العين ولا تراه، إلا بعد تنفيذه" (الفصل الأوّل- المشهد الرابع).
نرى دليلاً آخر لتمكّن نبوءة الساحرات من مكبث، من الرسالة التي بعث بها إلى زوجته الليدي مكبث. يذكر لها أن الساحرات أشرنَ إلى الزمن القادم فقلْنَ :"سلاماً ستكون ملكاّ".
كذا بدأت مرحلة جديدة في حياة مكبث في التفتيش عن اليقين في اللايقين.
بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الرسالة فتحت بدورها ثغرة قاتلة أخرى في القلب مركز العاطفة. يبدو أن الليدي مكبث، على رأي أحد النقاد الإنكليز هي الجانب الآخر من مكبث. كفلقتيْ بذرة. يكمّل أحدهما الآخر.
طفح قلب الليدي مكبث بالثمل من الأنباء، وطاشت بأكثر الأفكار وحشية. ما من تعقّل . تسمّمتْ بمطامحها فراحت تتوسّل الأرواح الشرّيرة، أن تنتزع عنها أنوثتها، وأن تملأها من الرأس إلى القدم بأفظع توحّش:
"خثّري دمي، أوقفي مجراه إلى الرحمة
سدّي كلّ مسرب يصل إلى الضمير
... استبدلي حليبي بالمِرّة، أنتنّ يا معيلات الجريمة
... تعال أيّها الليل البهيم
ولفعْ نفسك بأعتم دخان في الجحيم
حتى لا ترى سكّينتي الحادّة
الجرحَ الذي تصنع
أو تبرق روح خيّرة من السماء
من خلال حجاب الظلام
لتصرخ :"قفي، قفي!".

هل الليدي مكبث، استهترت بكلّ رادع سماوي (ديني) حينما قالت:" روح خيّرة من السماء"؟ ألا تدلّ الصفة :"خيّرة"على أنّ الليدي مكبث تميّز الخير من الشر ولكنها انساقت للشرّ بتحدّ؟
لم تبقَ الآن إلاّ الثغرة الثالثة، ويتهاوى مكبث :"فلا يعاد له سبكُ".
يبدأ المشهد الخامس من الفصل الثالث بمشهد " هيكاته " كبيرة الساحرات، وهي غاضبة مما فعلته الساحرات الثلاث لمكبث دون أنْ يستشرنها، فأرسلتهنّ إلى نهر الجحيم على أن يقابلْنها في الصباح. إما هي فقد طارت لتحضير أقوى طبخة سحر، ستجرّ مكبث "إلى الفوضى، سوف يسخر من القدر، ويستخفّ بالموت، ويبقى في أمل،ٍ رغم إنذار الحكمة والشرف والخوف"، ثمّ قالت "هيكاته" جملتها الحكيمة الرهيبة:" إنّ الثقة العالية بالنفس، ألدّ أعداء البشر"، وهي تُذكّر بالحكمة العربية :"من مكمنه يؤتى الحذر".
في بداية الفصل الرابع تبدأ الساحرات بتحضير طبخة السحر، وعند آنتهائهنّ يدخل مكبث هشّا،ً منهارا،ً متفككاً. راح يتوسّل إليهنّ، أن يعلمنه بما يخبئ له المستقبل. أخرجن له ثلاثة أطياف. الطيف الأوّل حذره من مكدف أحد النبلاء الأسكتلنديين،( وهو الذي سيقتل مكبث في النهاية). الطيف الثاني طمأنه على حياته، قائلاً له: "كنْ سفاكاً وجريئاً ووطيد العزم، إضحكْ واحتقرْ قوّة أيّ رجل، فما من أحد ولدته أمّ سيؤذي مكبث". أمّا الطيف الثالث فقال له :"مكبث لن يندحر أبداً إلى أن تأتي غابة "برنام" العظيمة، إلى قلعة" دنسينان" العالية لتحاربه".
بهذه النبوءات ظنّ مكبث أنّ لحم جسده أصبح قلعة محصّنة لا يقوى أحد على اقتحامها. فمَنْ ذا الذي لم تلدْه أمّ ؟ ومَن ذا الذي يستطيع إجبار الغابة على اقتلاع جذورها العميقة، والمشاركة في الحرب ضدّه؟
الغريب، وما من غرابة، إن مكبث هلك بسبب إيمانه المطلق بهاتين التعويذتين المُطَمْئنتيْن، في الظاهر. كذا تحققت نبوءة" هيكاته" أعلاه: "إنّ الثقة العالية بالنفس، ألدّ أعداء البشر".
تحرّكت الغابة بخدعة عسكرية، حيث كان المقاتلون يحملون على رؤوسهم أغصان الاشجار‘ فتبدو كغابة تتحرّك، ومن ثمّ قابله بالنزال مكدف الذي لم تلدْه أمّ، "وإنّما شُقّ خديجاً من بطن أمّه".
هكذا استحم الدكتاتور مكبث بدمائه الشاخبة المذعورة التي أصبحت بمثابة بزّته العسكرية الأخيرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من


.. الفنانة غادة عبد الرازق العيدية وكحك العيد وحشونى وبحن لذكري




.. خلال مشهد من -نيللى وشريهان-.. ظهور خاص للفنانة هند صبرى واب


.. حزن على مواقع التواصل بعد رحيل الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحس




.. بحضور شيوخ الأزهر والفنانين.. احتفال الكنيسة الإنجيليّة بعيد