الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مصر وروسيا.. من جديد

السيد شبل

2015 / 6 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


لا غرو في أن النخبة الوطنية المصرية تدفع نحو مزيد من الإجراءات التي تؤشر إلى الانعتاق من أسر البيت الأبيض الأمريكي، وحتمًا ستستمر في ذلك، ويتجلى الأمر في الإلحاح المتكرر على ضرروة توظيف حالة القطبية المتنامية في العالم، وإقامة علاقات على أساس من الندية والمصلحة المشتركة مع الدب الروسي الذي يتنامى نفوذه وقوته ومن ثم حضوره في مختلف الملفات الدولية والإقليمية يومًا بعد يوم.

ولا جدال في أن مصر حتى من باب براجماتي صرف في أمس الحاجة لأن تيمم وجهها شطر معسكر، غير المعسكر الذي استنزفها وسلبها حريتها وحاضرها بل وجزءًا من ماضيها طوال الأربعة عقود الماضية، وهي الممتدة من منتصف عصر السادات وحتى إزاحة مبارك عن سدة الحكم في يناير 2011. ولا نعني بهذا استبدال متبوع جديد بمتبوع قديم، ولكن نعني استقلالية تنسج لنفسها علاقات متعددة مع جبهات مختلفة، تحكمها المصلحة والعائد الإيجابي المشترك.

ليس خافيًا على أحد أن روسيا كانت سباقة في دعمها لمصر بعد الثلاثين من يونيو 2013، مما فتح أبوابًا للتقارب وتعزيز العاقات بين البلدين، وكان هذا باديًا في تصريحات المسئولين الروس، وتأكد مع الزيارات التي أجراها الرئيس عبدالفتاح السيسي سواء أثناء توليه لمنصبه كوزير دفاع أو بعد وصوله لكرسي الرئاسة بعد أن تغلب على منافسه بنسبة 97 بالمائة، ثم فيما بعد مع اتفاقيات التسليح التي أبرمت بين البلدين وزيارات وزراء الدفاع المتبادلة، ويثبت اليوم مع انطلاق مناورات عسكرية ضخمة للمرة الأولى بين البلدين من 6 إلى 14 يونيو 2015 في البحر الأبيض المتوسط تحت عنوان "جسر الصداقة"، وتعتمد على سفن حربية تابعة للبحرية الروسية والمصرية، بجانب عمليات من الدعم الجوي لحماية الممرات البحرية من التهديدات التي تحيق بها، كما ستعمل السفن أيضًا على تنظيم كل أنواع الحماية والدفاع بالبحر والتدريب على إطلاق النار، وقد دفعت البحرية الروسية بالطراد الصاروخي "موسكو"ن الذي يلقبه العسكريون بـ"قاتل حاملات الطائرات"، حيث تعتمد مهمته الأساسية على مهاجمة حاملات الطائرات والقطع البحرية الكبرى، كما مدت البحرية الروسية القوات المصرية بسفينة الإنزال الصاروخية ذات الوسادة الهوائية "ساموم"، والتي تعتبر الأسرع على مستوى العالم وهي مزودة بوسائد هوائية تمكنها من الارتفاع فوق سطح الماء، كما أنها مزودة بأنظمة صاروخية مضادة للسفن والغواصات وصواريخ طوربيد، وقد أوضحت وزارة الدفاع الروسية أن هدف تلك المناورات هو تطوير التعاون العسكري بين البلدين لتحقيق مصالح الأمن والاستقرار في البحر المتوسط، وكان قد أُعلن السبت 6 يونيو عن دخول عدد من سفن أسطول البحر الأسود (وهو واحد من تشكيلات ثلاثة للبحرية الروسية إلى جانب الأسطول الشمالي وأسطول البلطيق) من التشكيلة الموجودة بالبحر المتوسط لميناء الإسكندرية، والتي تستخدم خلال قيامها بالمهمات مركز التأمين التقني والمادي في " طرطوس بسوريا "، وهي قاعدة إمداد لوجيستية ترجع إلى اتفاقية أبرمت عام 1971 بين السوفيت والسوريين.. ويُذكر أن عددًا من المقاتلات البحرية السوفيتية كانت تنفذ مهاما في البحر الأبيض خلال الحرب الباردة، وكان الأسطول البحري الأمريكي السادس يعد بمثابة خصما رئيسيا لها، وتم حل مجموعة السفن بعد مرور سنة من تفكك الاتحاد السوفيتي، وكان للأسطول السوفيتي عدة مواقع بعيدة عن شواطئه: كام ران (فيتنام)، جزيرة سقطرى (اليمن) وطرطوس (سورية). وقد تركت القوات البحرية كل هذه المواقع بعد عام 1991، وبقيت طرطوس فقط ، بشكل رمزي بحت، وهناك أخبار تتحدث اليوم عن عمليات تطوير تجري بهذا المرفأ، وبحسب بشار الأسد الرئيس السوري، فإن تعزيز الحضور الروسي بالمنطقة، أمر مطلوب وضروري لخلق نوع من التوازن الذي فقده العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي؛ وهو ما يسبب قلقًا كبيرًا لدى جنرالات الحرب الصهاينة.

المساندة الروسية لمصر -مابعد 30 يونيو- ترجع لأسباب يلخصها خبراء في نقطتين الأولى: تخوف الإدارة الروسية من جماعة الإخوان بسبب إيمانهم بوجود صلات وثيقة بين قادتها ومنظريها وبين الحركات الانفصالية المتطرفة في الشيشان وشمال القوقاز، وهو ما يعتبر تهديدًا يتجاوز كل الخطوط الحمراء المتعلقة بالأمن القومي لروسيا، وهذه النقطة تفسر من وجه ما الدعم الذي يقدمه الروس على مدار الأعوام الأربعة الماضية ولا يزالون للنظام السوري، أي أن الروس يحاربون المتطرفين الذين يهددون حدودهم الجنوبية، في أرض جديدة وهي سوريا؛ النقطة الثانية تتعلق بأن انسحاب مصر وتخليها عن دورها المحوري في المنطقة شجع دولًا صغيرة تدور في الفلك الأمريكي على أن تحاول ملء الفراغ الذي خلفته مصر خلفها، وهو ما يعيق الطموح الروسي الرامي إلى منافسة اليانكي الأبيض في منطقة الشرق الأوسط، وعلى الأغلب فإن روسيا تأمل في أن تعود مصر لدورها القائد في المنطقة، وعودة مصر لن تتحقق إلا بالتحرر من القيود الأمريكية التي حجمت وكبّلت دورها منذ السبعينات، وبهذا تكتمل المعادلة وترتسم خيوطها.

وهنا من المناسب أن نلقت النظر إلى أن الرغبة الروسية الملحوظة في توثيق العلاقات مع الجانب المصري لم تقابل بالترحيب المطلوب، وهذا ما يتضح من متابعة عدد من المقالات والتحليلات الصحفية الروسية التي تشكك، وإن على استحياء، في رغبة النظام المصري الحالي في الانقلاب على النظام الذي رسم ملامحه كسينجر والسادات منذ السبعينات، ويشيرون إلى أن النظام المصري يناور مع أمريكا باستخدام الورقة الروسية، وأنه لا تغييرات كثيرة يمكن التعويل عليها، ولا رغبة صادقة يثبتها الواقع في تطوير العلاقات، وأن الدب الروسي لا يتعدى كونه ورقة ضغط في يد النظام المصري يستخدمها في إطار صراعه مع جماعة الإخوان على القلب الغربي.

إذن فرغم حساسية المرحلة، وحاجة النظام المصري لتأمين الجبهة الداخلية قبل الإقدام على أي محاولة انقلاب استراتيجي في العلاقات الخارجية، فإنه مطالب بتقديم أوراق أكثر جدية لاعتماده كنظام يسعى لتأسيس دولة مستقلة قادرة على طمأنة أصدقائها وحلفائها، وبالتالي استثمار الحالة العالمية الجديدة متعددة الأقطاب.

لكن مسألة العلاقات المصرية الروسية لا يمكن أن تُتناول دون أن نتعرض لما يرصده عدد من المتابعين من تقارب على المستوى النفسي بين شخصيتي الرئيسين المصري والروسي. وكثيرًا ما ذلل تقارب الأمزجة وتشابه الرؤى وآليات التفكير بين الزعماء والقادة، العقبات السياسية، ومهد الأرضية للتقارب بأقل مجهود، وهذا أمر مرصود وملحوظ في العلاقات بين الدولتين.

كل ما سبق وغيره نوظفه في سياق ما نردده دومًا بأنه لا مستقبل ناهض لمصر إلا بالسير بالممحاة على السياسات الخارجية التي حكمتها في الأربعين عامًا الماضية، وهذا يتطلب أول ما يتطلب التحرر من القيد الأمريكي، والتكتل جبهويًا مع المعسكر الذي تواطأ الباحثون على تسميته بالمعسكر الشرقي الذي يضم إلى جانب روسيا كلًا من الصين وإيران، وتعزيز سبل الاستفادة من التوتر القائم والمتنامي بين القطبين الجديدين القديمين للعالم روسيا وأمريكا. فليس هناك كبير مساحة للجدل في أن مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأن تستعيد دولته، ذات الـ 143 مليون نسمة وصاحبة المساحة الجغرافية الأكبر بين دول العالم، مكانتها، تزعج خصومه سواء غرب الأطلسي أو غرب حدوده مباشرة حيث اوروبا، خاصة عندما يبادر بوتين مثلًا لإقامة الاتحاد الأوراسي، الذي يضم "كازاخستان" و"بيلاروسيا" وفي الطريق "أرمينيا"، هذا إلى جانب ما تقوم به روسيا من دور في نسج علاقات التحالف مع دول "الصين، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، والهند" من خلال "البريكس"، وهو تحالف على ما فيه من تمايز في الأيدولوجيات والطموحات، إلا أنه، ولو من وجهة نظر ضيقة، يمثل جزءًا من الكابوس الذي يطارد صانعي السياسة في البيت الأبيض هذه الأيام.

نعم، روسيا اليوم، ليست سوفيت الأمس، التي تهدد وتصارع صراحة على مناطق النفوذ، أو التي لا تخشى للتصعيد أن يصل مداه، لكن هذا بالأساس راجع لتغير الزمن وتغير المناخ العام الذي يحكم سياسات الدول. العالم صار أكثر انفتاحًا من ذي قبل، والتماس بين الدول، ما صار يسمح بلمحة التعصب التي كانت تخيم على قرارات الزعماء كما الماضي؛ إذن فالروس هم الروس من حيث الجوهر، وإن اختلفت الصورة أو طريقة الأداء، ونحن في غنى أن نعدد حجم ما أنجزه التحالف المصري السوفيتي في الخمسينات والستينات، وإن اضطررنا فحسبنا أن نشير إلى السد العالي، وتسليح الجيش المصري، والصناعات الثقيلة في حلوان وغيرها؛ كما نشير إلى واقعة عز من يشير إليها، وهي الضريبة الثقيلة التي دفعها الروس على الصعيد الداخلي جراء المساعدات التي قدموها للعرب في حروبهم مع الكيان الصهيوني، حيث صارت المدن الروسية مستهدفة بشكل صريح ومباشر من جانب متطرفين صهاينة (وكلهم متطرفون)، فنفذوا بها عددًا من الأعمال التخريبية، كمحاولة لثني الروس عن دعم العرب.

نعرف أن كثيرين يهونون من مسألة الصراع بين أمريكا وروسيا، ويتذرعون بغياب التخاصم الأيدولوجي الذي مثل وقود الصراع في الماضي، ولكننا في المقابل نؤكد وجوده بل على العكس نتوقع تزايده (أي الصراع) حتى أكثر مما مضى، فقط الصورة هي التي تختلف. وما يدفعنا للقول بأن صراع اليوم أشد من صراع الأمس، هو أن روسيا اليوم في صراعها مع أمريكا تناضل من أجل بقائها لا فقط من أجل نشر أيدودولوجية فكرية بعينها، وإن كان نضالها اليوم لا يخلو من تصدير نموذج للإدارة والحكم أيضًا. الروس أدركوا أنهم مهما تماهوا مع الغرب وليبراليته، ستظل القوى الغربية تنظر إليهم نظرة الوحش إلى فريسته، ولا نجاة لهم إلا بالتصدى والمواجهة والردع، وهذا لن يتأتى بدوره إلا بالتآزر وفتح علاقات مع دول أخرى تنطلق إلى ذات الأهداف، وهذا يفسر العلاقات الحميمية مع إيران على سبيل المثال.

انضمام شبه جزيرة القرم بارتضاء أهلها إلى روسيا، لن يقبله الغرب الذي يقبل الديمقراطية فقط إن حققت مصالحه، مما دفعه لفرض عقوبات اقتصادية أثرت سلبًا على الوضع الاقتصادي الروسي.. وإن نجح بوتين بمهارته وتعبئته القومية للشعب الروسي في التقليل من آثارها... والعقيدة العسكرية الروسية الجديدة التي ترى في تحركات حلف الناتو بقيادة أمريكا في الجوار الروسي من أهم الأخطار الخارجية، وتلوح باستخدام الأسلحة النووية في حال تعرض الأمن القومي للبلاد لخطر حقيقي، مسألة تهدد عرش الغرب الطاووسي وبالتالي سيحاول اختبار الروس ثم تقليم أظافرهم، ونطمح أن لا ينجح!.. هل هذا وغيره أقل من "حرب باردة" تعود للأجواء من جديد؟.

الباحثون الغربيون رصدوا في أكثر من مناسبة القوة الروسية، وإن نعتوها بأوصاف تناسب مموليهم، ولكنهم اعترفوا بحضور روسيا العسكري، ونمو الشعور بالثقة في نفوس المؤسسة العسكرية الروسية، واستدلوا على ذلك بحرب 2008 التي خاضتها روسيا ضد جورجيا، والتي بينت أمرين هامين..
أ- أنه قد تم إعادة تنظيم للقوات البرية الروسية أهلها للقيام بمهمات عالية المستوى بنظام في وقت مثالي،وهو الأمر الذي مسح بنسبة معتبرة عار الفشل في الشيشان أوائل العقد قبل الماضي.
ب- أن الغرب (بعدما امتنع حلف الناتو عن التورط في الحرب الجورجية) مليء بالتناقضات الداخلية، وأضعف من أن يحشد قواته في كل وقت لخوض الحرب لنصرة حليف أو مواجهة طموح دولة، تسعى لتحقيق سيادتها وحماية أمنها القومي.

..

ختامًا، نؤكد أننا، كغيرنا، قد نراعي التوازنات الدقيقة التي يدير بها النظام المصري سياسته، لكننا بحاجة لأن نرى سياسات أكثر تمايزًا عن السياسات التي قزمت مصر وعزلتها وجعلتها تابعًا يدور في فلك السياسة الأمريكية، وهو ما انعكس على الصعيد الداخلي بالسلب في أكثر من مجال. وإن كان النظام يواجه في الداخل حربًا شرسة تستهدف مؤسسات الدولة وكيانها ذاته، فإننا نتصور أن الحظ لم يتخل عنه على الصعيد الخارجي، شرط أن يُحسن التعامل مع المستجدات الدولية، وأن يجيد استثمار التناقضات بين المعسكرات وتوظيفها لصالحه، ولصالح قضاياه الداخلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علي... ابن لمغربي حارب مع الجيش الفرنسي وبقي في فيتنام


.. مجلة لكسبريس : -الجيش الفرنسي و سيناريوهات الحرب المحتملة-




.. قتيل في غارات إسرائيلية استهدفت بلدة في قضاء صيدا جنوبي لبنا


.. سرايا القدس قصفنا بقذائف الهاون جنود وآليات الاحتلال المتوغل




.. حركة حماس ترد على تصريحات عباس بشأن -توفير الذرائع لإسرائيل-