الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
شوق الدرويش .. الهوس الدينى مقابل الهوس بالمحبوب
رضوى الأسود
2015 / 6 / 7الادب والفن
لا أعلم هل هى مصادفة أن اقرأ روايتين تقدمتا للبوكرالعربية الأخيرة (2014 – 2015) وهما (منفى الرب) و(شوق الدرويش)، فأجد أنهما تشتركان فى طرح أسئلة إيمانية، والتعرض للمسيحية، وحتى فى إختيار البطل الذهاب لحتفه فى النهاية بكامل إرادته الحرة؟!
أنا الآن بصدد رواية (شوق الدرويش) للروائى السودانى (حمور زيادة) والتى وصلت للقائمة القصيرة فى تلك المسابقة، كما أنها فازت بجائزة نجيب محفوظ للأدب لعام 2014.
يهدى الكاتب روايته "إلى التى .." ثم يستهلها بمقولة إبن عربى "كل شوق يسكن باللقاء لا يعول عليه". وتلك العبارة بالإضافة إلى العنوان يدلان على متن الرواية، فالدرويش هو البطل (بخيت منديل) العبد الأسود الذى بالكاد يتذكر منشأه فى الجبال الغربية، ثم سقوطه فى يد تاجر وبيعه لرجل أوروبى شاذ يستغله جنسياً لسنوات، ثم يهديه لرجل تركى يعانى لديه من المطاردات الشبقية لإبنته، وحينما تسقط الخرطوم ويُقتل سيده، يهرب إلى أم درمان، حيث كان وقتها فى الـ 19 من عمره، ظاناً أنه ودع عهد الرق للأبد، لكنه لم يلبث، تحت وطئة العَوَزوالحاجة، أن يشارك فى جردة (حملة) النجومى على مصر، فيسقط جريحاً هناك، ليتلقفه رجل مصرى طيب القلب تعس الحظ (يوسف أفندى سعيد) الذى يتركه بعد فترة قصيرة، ليعود فى النهاية إلى أم درمان، فتأسره (تيودورا) أو (حواء) كما لُقبتها سيدتها .. إنها الفتاة اليونانية الأصل، المصرية المولد، والتى حينما شَبّت، ذهبت فى رحلة تبشيرية إلى السودان.
يحب (بخيت منديل) (تيودورا) التى تُجبر على إعتناق الإسلام حينما تسقط المدينة فى يد دراويش (المهدى)، فيهيم بها هياماً لا حد له، هو الذى ذاق أجساد حبشيات وزنجيات بلا عدد، وهو الذى لم يفهم نوعية حب سيده المصرى حينما كان يقول له: "هكذا هو الحب .. أن تصبح درويشاً لمن تهوى"، "الحب أقوى المبادىء"، حتى وقع فى حب مماثل، ووقتها فقط فهم ماذا كان يقصد. إنها الفتاة التى يصفها الكاتب بقوله : "أنفها المُحبب وشفتاها كما اشتهاهما دوماً. ما غيرها الغياب. مربكة كما الحياة. موجعة مثلها ولا أمان لها كالنهر.يلفها ضوء القمر".
لكن بعد مرور أحداث جسيمة وتفاصيل سياسية وإجتماعية عدة، تموت الفتاة بيد ستة رجال، منهم من وشى بها، ومنهم من سلمها بيده إلى سيدها (الذى حاول مراراً أن يواقعها جنسياً وحينما أبت كان نصيبها عملية ختان وحشى كادت أن تقضى عليها)، ومنهم من عذبها جسدياً حتى قضت نحبها، حتى أن مشهد تعذيبها يثير فى النفس والذاكرة مشهد عذاب المسيح المشبوح فوق صليبه، وخاصة حينما إكتشفت وهى تموت من الألم والنزف أن "الوجع كل هذه الحياة، والإيمان لا ينجى"، كما خاطب المسيح ربه بقوله "إلهى إلهى لماذا تركتنى؟". ثم يصدقها القول الراوى بدوره قائلاً: "يا إكليل الشوك. يا طريق الآلام". أيضاً يثير ذلك المشهد الامى ذكرى تعذيب وموت الفيلسوفة اليونانية الشهيرة (هيباتيا). فيقوم البطل بالثار لمقتلها، فيقتل خمسة منهم، ولا يتمكن من السادس رغم محاولته.
تدور الرواية فى أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً منذ 1881 وحتى 1892 م. وهى الفترة التى أقامت فيها (تيودورا) فى السودان وسجلت فى دفتر يومياتها كلاماً أشبه بالتقارير وحقائق تاريخية وسياسية وإجتماعية مثيرة، فكانت بحق جبرتى تلك المرحلة المضطربة من تاريخ السودان الذى كان يتبع حكم مصر آنذاك، المحكومة بدورها من الأتراك والإنجليز.ما بين عامى 1881 و 1882 تصف الخرطوم فتقول: "العبيد نصف السكان أو أكثر" .. "أول من جلب العبيد للتجارة بهم هى حكومة محمد على باشا قبل نحو 50 سنة حين تم ضم بلاد السودان لمصر. العرب يحبون إقتناء الجوارى. لا تصبح الجارية حرة ما لم تنجب. العرب يحبون الزنجيات. لكن اغلب الأتراك والمصريين والأوروبيين يحبون الحبشيات " .. "نادراً ما يسىء الترك والمصريون معاملة عبيدهم. لكن للأسف توجد القسوة بكثرة عند الأوروبيين. إضطرت الحكومة لإصدار قانون يمنع الأجنبى من ضرب عبيد" .. "التجار المصريون هنا وكلاء للبيوت التجارية بالقاهرة يعيشون وسط نعيم مقيم " .. "العمال الفقراء من المصريين يعيشون مع السودانيين فى أحياءهم الوطنية وبعضهم متزوج منهم" .. "أغلب الذين لا يعملون مع الحكومة من الأوروبيين هم مجموعات من المهاجرين الذين يبحثون عن فرص للثراء. شهوانيون لا يحترمون شيئاً. ثبتت فى نفوسهم صفات الفساد والغش والعنف" .. " الإحتفال بالمولد النبوى استمر ثمانية أيام كاملة. سرادق ضخم مزينة بالأعلام والمصابيح. ألعاب نارية". ثم فى عام 1884 تكتب: "التجار المصريون أخفوا الغلال. تضاعفت الأسعار. المدينى تترنح من الجوع. الحصار يشتد والوطنين لا يجدون ما يأكلونه" .. "استصدر جوردون باشا فتوى من علماء المسلمين بالمدينة تبيح للمسلمين عدم صوم شهر رمضان بسبب الحرب" .. " جوردون أمر بطرد عوائل مؤيدى الدراويش ليعبروا النهر ويلحقوا بمعسكر الأعداء على الجانب الغربى".
يحسب للروائى الإتيان بهذه الحقائق التاريخية المهمة فى هيئة يوميات تكتبها إحدى شخصياته، فكانت أفضل بكثير من أن تأتى على لسان الراوى بشكل تقريرى فاقداً متعة تَتَبُعه.
أيضاً هذه الفترة شهدت ظهور ما يسمى بالمهدى الذى بحسب الديانة الإسلامية، سيظهر فى آخر الزمان، يحرر الأرض من الظلم، ويفتح مكه ومصر وبلاد الشام وديار الترك. سيموت الكفار وينتشر الإسلام .. ذلك كان لب الإيمان الذى كان يتملك قلوب وعقول عموم الشعب السودانى وقتها الذى كان يعانى بدوره من ظلم الأتراك والأوروبيين، مما سهل بالطبع مهمة (المهدى). وكان من ابرز وأهم شخصيات الرواية التى آمنت به (الحسن الجريفاوى) الذى ترك زوجته التى كان يهيم بحبها، حتى أنه تزوجها طفلة، ليكون درويشاً من دراويش (المهدى)، فيذهب فى جردة الحبشة، ليعود منها ويذهب مرتين مقاتلاً إلى (سواكن)، ويعود ثانية ليذهب مع جردة الأمير محمود ود أحمد، ليكتشف أنه قد أصبح قاتلاً سفاكاً للدماء، حتى أنه لم يترفق بطفلة صغيرة غرس رمحه فى ظهرها ورماها وراءه! يستفيق فجأة بعد كل ما أقدم عليه من إغارات وقتل، فيظل يتساءل مستنكراً: "الدم باسم الله. الدم لأجل الله؟!". "فرط الإيمان يكاد يودى بى إلى الكفر". "ما بال رسالة الله تنشر الموت" !! ويتضح لنا أن ذلك الهوس الدينى قائم على أسس مغلوطة وجهل فاضح، وذلك حينما يقول: "الإسلام عكس التركية" وكأن التركية دين؟!، ومرة أخرى يقول: "يا مهدى الله لماذا صرت تركياً؟" وكان الأتراك وحدهم هم الكفرة، أما هم، الدراويش، السفاحين، صانعوا المجاعات، قاتلوا الرجال والأطفال، الذين سبوا النساء وأغتصبوهن، هم المؤمنون بحق. جدير بالذكر أن فظاعات مشاهد الدراويش فى إخضاع وإجتياح المدن تذكرنا بممارسات داعش الدموية الحالية من قتل وحرق وسبى النساء وسلب الممتلكات.
الرواية فى مجملها سوداوية، مليئة بمشاهد الحروب والدم والمجاعات والسجناء فى السجون، فقط مشاهد لقاءات (حواء) و(بخيت) كانت تضم كل ألوان الطيف، فكأنك أمام فيلم طويل أبيض وأسود تتخلله ربما من دون قصد بضع من مشاهد ملونة.
لا أعلم هل هناك تأكيد لفكرة أن الحب الجارف من طرف واحد، ذلك الحب الصابر على نزق المحبوبة وشُح مشاعرها، تكون نهايته نوع من الخيانة من الطرف الآخر؟ فالسيد المصرى تهرب زوجته مع جارهما، و(حواء) فكرت فعلياً فى الهروب وأقدمت عليه، هاجرة (بخيت)، على الرغم من أنها تتراجع فى اللحظات الأخيرة، لكن للأسف كانت نهايتها قد أعِدّت سلفاً. أيضاً هذا السؤال يعرج بنا إلى مفهوم "الرضا" الذى يأتى ذكره أكثر من مرة فى الرواية، وذلك حينما يشكو السيد المصرى لت (بخيت) من زوجته التى لا ترضى ابداً مهما قدم لها، ايضاً لم يرض حب ولوعة (بخيت) الجزء المتعالى فى شخصية (حواء) على الرغم من حسن منبتها ورقتها وعذوبتها .. بل وإيمانها.
تأتى شخصية الحاج (تاج الدين) المغربى، الذى يقد منفسه على أنه المسيح عيسى، مُكملاً الدائرة الجهنمية للهوس الدينى، فوجوده منطقياً وبخاصة توقيت ظهوره الذى يلى ظهور المهدى، حيث أنه "سيكسر الصليب ويقتل الخنزير".
شخصية التاجر الثرى (إبراهيم ود الشواك)، السيد الذى كان يمتلك (حواء) ودفع فيها كثير المال، مثال للشخصية الإنتهازية الجشعة مادياً وجنسياً، اللاعب على كل الحبال، المتلفح بتقوى الدين رداءاً يرتزق منه ويستغل به الأخرين، وهو من الشخصيات المرسومة ببراعة شديدة.
أرى أيضاً أن أكثر شخصية محورية قدمت بدقة وعناية شديدتين حد الإقناع التام، تتوافق لغتها السوقية مع وضاعة منشأها، كانت (مريسيلة)، الأمه السوداء ذات العشرين عاماً، القوادة، بائعة المريسة (نوع من الخمر)، وتاجرة الوصفات السحرية. ثم تأتى شخصية (بخيت منديل) لتتوافق مع نفسه فقط حينما تقتص وتقتل بدم بارد وربما تلذذ من قتلوا حبيبته، وذلك بعد أن "قرر أن يطعم نفسه المقت ويرويها الكراهية"، هذه الشخصية المركبة التى ما ذاقت سوى العذاب غذاءاً للروح والجسد، حتى أن هناك مشهداً من الرواية حينما كان يلعب مع سيده المصرى لعبة تعتمد الحروف الأبجدية لبدء كلمات وجمل، فكان كل ما ينطقه (بخيت) من كلمات كانت: "لوطى - يقتل - يوجع - أسير)، ورغم أنها كانت تأتى عفوية على لسانه وبدون تفكير، إلا أنها كانت لسان حاله، وفى حقيقة الحال أجد انه من المدهش، أنه هو الذى إعتاد ممارسة الشذوذ الجنسى مع سيده الأوروبى لسنوات عدة، أن يغدو طبيعياً وسوياً جنسياً، خاصة أن ممارساته تلك كانت فى سن تتشكل فيها الشخصية والتوجهات والميول!
الرواية تعتمد تقنية الفلاش باك، مع تقاطع الأزمنة، مما يسبب أحياناً، مع كثرة الشخصيات إرتباكاً لدى القارىء.
من عناصر ثراء الرواية، تطعيمها بالشعر وآيات من الأناجيل والقرآن.
هناك مقارنة بين (الحسن الجريفاوى) و(بخيت منديل)، فى رأيى أنها لب قضية الرواية، فالإثنان قاتلان، لكن الأول كان يقتل فى "سبيل الله"! والثانى فى سبيل الحب. يقول له الثانى ذات مرة "أليس الحب إيمان؟" حينما ينكر عليه الأول أنه قتل من أجل امرأة وليس من أجل الله. أيضاً الأول يطارده شبح الطفلة التى قتلها ولعنة من أثكلهم وأيتمهم ورملهم، والثانى تطارده روح ورائحة حبيبته أينما يكون، وبخاصة فى مشاهد ثأره ممن قتلوها.
أحب (بخيت منديل) (تيودورا) حباً جنونياً، فاصبح درويشها، كما اضحى (الحسن الجريفاوى) درويشاً لـ (المهدى)، لم يستطع أحد منهما ترك حَلَقَة ذِكره، فقتلا من كفر بحبهما، لكن كان (بخيت) أكثر إيماناً وحباً من (الحسن)، حتى أنه أصر فى النهاية على اللحاق بالحبيبة بأن يذهب برغبته الحرة كى يُنفذ فيه حكم الشنق، رغبة فى ملاقاتها، فى حين أن (الحسن) كان قد بدأ رحلة الكفر بالمحبوب الذى إكتشف زيف إيمانه به.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. مش هتصدق كمية الأفلام اللي عملتها لبلبة.. مش كلام على النت ص
.. مكنتش عايزة أمثل الفيلم ده.. اعرف من لبلبة
.. صُناع الفيلم الفلسطيني «شكرًا لأنك تحلم معانا» يكشفون كواليس
.. ليلى عباس مخرجة الفيلم الفلسطيني في مهرجان الجونة: صورنا قبل
.. بـ«حلق» يرمز للمقاومة.. متضامنون مع القضية الفلسطينية في مهر