الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موت بدون وصيّة

كمال العيادي

2005 / 10 / 5
الادب والفن


انتهيت بعد جهد من إغلاق الحقيبة الجلدية القديمة التي أهداها لي صاحب المنزل حيث أؤجر غرفة مفروشة تكلفني أكثر من نصف مرتبي كل أول شهر. كان علي في ذلك اليوم أن أوزع الكتب المدرسية التي طال انتظارها على التلاميذ. وجهي حليق ومحفظتي ممتلئة . كتب كثيرة , كراسات , أوراق , صحف يومية لم أتمم قراءتها , تذاكر سفر ورسائل قديمة أمني النفس كل مرة بالرد عليها خلال فترة السفر بالقطار من مدينة مونيخ حيث أسكن , إلى تلك القرى النائية عند حدود جنوب ألمانيا حيث أقوم بتدريس حصص للغة العربية بمعدل حصة واحدة أسبوعيا لكل مدرسة وبالتالي بكل قرية . كنت أتهيأ للخروج عندما دق جرس الهاتف. وضعت الحقيبة الثقيلة وعدت إلى البهو حيث يوجد جهاز الهاتف.
- ألو …!
- هالو سيدي ( سيدي بكسر السين, هيّ صيغة المخاطبة. التي يستعملها التلاميذ عند مخاطبة المعلم )
- من يتكلم معي ؟
- سهام { الرد باللغة الألمانية ) أنا… سهام من طروتسبارغ. - أهلا سهام. ماذا هناك ؟
- أنا وإخوتي لا نستطيع الحضور اليوم إلى المدرسة .
- ولماذا ؟
- لأن أبي شنق نفسه البارحة ومات …‍ّ‍
- مات ؟…كيف حدث ذلك ؟ ماذا تقولين ؟
- أنا لا أعرف. أمي تقول بأنهم وجدوه معلقا بحبل الغسيل إلى سقف العشة التي نضع فيها الأدوات القديمة بالحديقة

طروتسبارغ …الجمعة مساء :

كان يوم الجمعة هو اليوم المخصص لتدريس حصة اللغة العربية بقرية طروتسبارغ .
ولأنني تسلمت مهمتي يوم الخميس , فقد تقرر أن أسافر مباشرة في اليوم التالي إلى هذه القرية . استطعت طبعا أن أحصل على سلفية من صاحب المنزل الطيب , بفائدة مناسبة ولذلك لم يكن اقتناء تذكرة ذهاب وإياب بالقطار ليسبب لي أرقا . بل كنت أعتقد بأن المبلغ يكفيني لمدة أسبوع على أقل تقدير, لكن أوهامي تسلقت كعادتها أدراج الرياح ,عندما
علمت بالمبلغ الذي علي دفعه ثمنا لتذكرة واحدة. تقريبا كل ما عندي . لكن الفتاة البافارية الطيبة , بائعة التذاكر واستني قائلة بأنه يمكنني أن أقطع تذكرة للذهاب فقط وعند الرجوع في نفس اليوم فإنه يمكنني ركوب أحد قطارات المساء بسعر أقل بكثير . حمستني عبارة - كثير- حتى أنني لم أبخس شهوة نفسي اشتريت زجاجة عصير وصحيفة عربية.
ثلوج …ثلوج … ثلوج .
الأرض بيضاء والسماء داكنة والقطار يتوغل في مساحات لا تنتهي .علبة السجائر لازالت ممتلئة . الناس طيبون ومراقب التذاكر لطيف. بعد خمس ساعات وصلت إلى محطة -طراوشتاين-وهي أقرب مدينة يمر منها القطار في طريقي الطويل . وعلي بعد ذلك أن أواصل بالباص . لم يبق على كل حال سوى مائة ميل .

وصلت إلى المدرسة متأخرا ثلاثة ساعات . ورغم ذلك فقد قوبلت بحفاوة غريبة عن مثلي. كان هناك رجل قصير , كثيف اللحية ويتكلم بلهجة أهل الجنوب التونسي . أما الآخر فكان عملاقا ضخما . عيناه محمرتان إلى درجة ملفتة للانتباه. ويكثر من استعمال يديه حين يخاطبك , يلوح بهما في كل اتجاه, في محاولة منه لتأكيد ما يقول في حين كان الثاني يصوب نحوه نظرات مليئة بالاحتقار …تماما الاحتقار. ذلك هو الإحساس الذي اعتراني وأنا أحاول أن أحيط الموقف.
أعلمتهما بأنني سأبقى مع التلاميذ نصف ساعة فقط للتعارف, وبعد ذلك سألحق الباص.أجاب القصير, وكان اسمه الهادي {س…ْ} بتفهمه. وأما الثاني وكان اسمه محمد{ب..} فقد حلف بالطلاق والمحرم وما تأخر وما تقدم بأنني ضيفه هذا المساء وبأنه سيوصلني بالسيارة إلى مدينة -طراوشتاين- بعد تناول العشاء بمطعم قريب .
لا أعرف لماذا ارتحت لهذا العملاق , كانت مظاهر الطيبة تبدو بقوة من خلال عينيه المحمرتين . ولما كنت قد بدأت أحس فعلا بالجوع فقد وافقت, رغم ما لاحظته من قلق على وجه القصير فقد كان واضحا أنه لا يثق إطلاقا فيما يقول صديقه .
انتهيت من حصة التعارف , وكان عدد التلاميذ عشرة. ينتمون إلى ثلاث عائلات. خمسة من بينهم أبناء محمد {ب…}.
أربعة بنات وولد وهو أصغرهم وعمره خمس سنوات أما الكبرى فهي في السادسة عشر من العمر. وخرجت الحصة الأولى وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأنني لن أقدر مهما فعلت على تعليمهم شيئا مهما . إذ أنهم لا يتقنون كتابة حرفا واحدا من الحروف الهجائية وهذا يعتبر هين إذا قورن بالمشكل الثاني الذي سأعجز حتما عن تذليله.
وهو أنهم جميعا وبدون استثناء لا يتحدثون كلمة واحدة بالعربية ولا باللهجة التونسية الدارجة . ومقابل ذلك فقد كنت لا أعرف من اللغة التي يتحدثون بها أكثر من كلمات معدودة .عندما خرجت وسط ضجة التلاميذ لم أجد في انتظاري سوى الهادي{س…} القصير . سألني كيف الحال , فأخبرته بأن كل شيء على ما يرام , وأنا أضمر غير ذلك . سألته عن محمد{ب…} فأجابني بأنه لا يعرف, لكنه أضاف في لهجة تفوح منها رائحة النفور
والغيظ بأنه عموما إنسان لا قيمة له , وعلي ألا أهتم بما يقول لأنه دائم السكر , لا يكاد يخرج من الحانة , وأنه عربيد وصاحب مشاكل بالشغل , وفضائحه لا تنتهي …. ولم يكمل كلامه لأن محمد {ب…} اعترضنا فجأة وهو يلهث وأخذ يبالغ في الاعتذار لي حتى خجلت . ثم دعاني مرة أخرى إلى المطعم القريب كما وعد . كان كريما . في عينيه دموع . حين يتحدث تشعر برغبة أكيدة في مواساته حتى وهو يتحدث عن عدد الكنائس والحانات في القرية . جلس القصير معنا بعض الوقت ثم اعتذر لي دون أن يلتفت إلى الآخر , وتمنى لي حظا طيبا . وفهمت بعد ذلك أنه لم يطق أن يجلس إلى طاولة يتجه إليها النادل بالخمر .هي بيرة , ولكنها خمرة على كل حال .
- ‘‘ عندما يحضر الملائكة يخرج الشياطين ’’ قال محمد {ب…}
- ‘‘أنت الشيطان الرجيم , وأنت إبليس نفسه ’’ رد عليه القصير وأنا بريء منك يوم القيامة
- يوم القيامة ستترجاني أن أشفع لك . لأنني مؤمن والله سيغفر لي هذا الكأس الذي أشربه لأنه مر وكريه , وأنا ما كنت لأشربه لو لم أكن أعيش مع أمثالك . أما أنت فالله يعرف أنك تصلي بدون وضوء وتتحدث بالزور وتشهد بالكذب . ومصيرك بحول الله أسود وقاحل. خرج القصير وهو يغلي من الغيظ . كتلة من النار تلتهب , وأحسست بحرج شديد وأنا أفكر
في هذا اليوم المشؤوم بهذه القرية الملعونة . قلت في نفسي , ما أضيق هذا العالم , بعيدا عن الوطن بآلاف الكيلومترات, وفي قرية نائية يظل بغض التونسيين لبعضهم لعنة لا تبطل. وفكرت في وضعي البائس . لا مال . لا سجائر . ولا أمل في اللحاق بآخر باص . جليسي سكران والآخر خرج غاضبا.

الليلة الأخيرة مع محمد {ب…} :

دقائق معدودة تبقت عن منتصف الليل . هذا جليسي لا أعرفه . أدخن سجائره , وأشرب على حسابه وقلبي يحدثني بأنه لن يدفع ألتفت إلى النافذة فإذا السواد يلف كل شيء . من بعيد تلمع كتل الثلج بين الحين والآخر حين تنعكس عليها أضواء سيارة هائمة ثم سرعان ما يبتلع الظلام كل شيء . جليسي لا يتكلم . والموسيقى تنساب إلى السمع كريهة وتثقل الجو بإحساس بليد وتشعرك بالضياع والإحباط. لا أدري أي شيطان بعث فيه الحياة . رفعت رأسي فجأة فوجدته يحدق في بطريقة غريبة . عيناه صافيتان . ونظراته ثاقبة تكاد تخترق أعماقي . أي ثقة في النفس , وأي حضور ذلك الذي اعتراه في تلك الثواني المعدودة . كان ينظر نحوي بعطف ربما. نظرات سيد نبيل خانه الدهر . نظرات اجتمعت فيها كل الأحاسيس الصادقة .القسوة و الامتنان والعطف .
ولدهشتي الشديدة سألني : ‘‘ أنت تلعن الآن الساعة التي تعرفت فيها علي أليس كذلك؟’’ .
أجبته وأنا أحاول أن أخفي ارتباكي من صحوته المباغتة بأن ذلك غير صحيح . - بل صحيح قال لي , اسمع يا صديقي , أنت أول تونسي مثقف يدخل هذه القرية ومن المؤكد بأنك لا تطيق البقاء بها يوما واحدا … أنا متأكد من ذلك. أما أنا يا سيدي فقد مر علي الآن ربع قرن هنا . جئت إلى هذه القرية وأنا صبي يفور دمه بالشباب . خرجت من تونس وأنا أمني النفس بأحلام عذبة وظننت بأنني سأبقى بعض السنوات ثم أعود بما يكفي لأختصر شقاء عشرات السنين هناك . جئت هذا البلد شعلة من نار … وها أنني كما تراني , بهيمة بشعة تسعى في الأرض . لا أمل لي ولا طموح . القصير الذي رأيته هو آخر تونسي يمكن أن أقف معه وأبادله التحية . إنه الوحيد الذي لا زال يتحملني . يعتقد بأنه سيهديني إلى طريق الحق في يوم من الأيام , وأصدقك القول بأنني فكرت كثيرا بالصلاة والانقطاع عن الشرب , ولكن كنت أتراجع سريعا حتى لا أترك له الفرصة ليعلن للجميع بأنه السبب
في صلاح حالي . أنظر إليه , إنه يستشهد بأحاديث نبوية لا وجود لها ويبتلع آيات كاملة وهو يقرأ القرآن . ولو سألته عن شيء فإنه يقول لك فورا بأنه حرام . لا تحلو له هدايتي إلا حين أكون سعيدا ونشوة الخمر تدب في دمائي المتخثرة من الهموم والفراغ والوحدة . إنني لست جاهلا , أنا أحفظ سورة البقرة وآل عمران وثلاثة أحزاب من قصار السور .
كما أنني قرأت المنفلوطي وجرجي زيدان , وأحب المتنبي وأبا نواس والشابي . وكان يمكن
أن أكون إنسانا مهما, لولا أن القدر اللعين رماني بين جهلة في قرية ينام أهلها قبل التاسعة ليلا . ربع قرن يا سيدي أمني النفس بجليس أتكئ عليه إذا سكرت , وأقاسمه حمل الهموم . ربع قرن احتفلت بمروره منذ شهر , مر فوق قلبي , وغرست أعوامه في ذاكرتي غابات
من الشوك وأسياخ من الصلب …-رفع رأسه وكأنه يتثبت بأنني أتابعه وأكمل :
قبل خمس سنوات , كنت بمدينة -طراوشتاين- .كان الوقت ما زال طيبا , وكنت إذا اشتدت علي وطأة الوحدة ألوذ ببعض الأصدقاء القدامى هناك بتلك المدينة , نعربد ونضحك حتى الصباح . وكنت أنتظر تلك الجلسات بفارغ الصبر وأتهيأ لها.
تنهد بعمق , وبعد أن صب ما تبقى من الكأس في فمه , نظر إلي بعض الثواني , وواصل :
- كان ذلك يوم سبت . حلقت ذقني وتجملت ثم ركبت السيارة وأنا أدندن بلحن قديم . وصلت باكرا على غير عادتي فوجدت بعض الأصدقاء قد حضروا . وكان يجلس معهم شخص لم أره من قبل . قدمه لي أحدهم , وذكر بأنه من نفس بلدتي , وأنه جاء في زيارة مؤقتة بتأشيرة سياحية مدتها شهر واحد , وبأنه يقيم عند أحد الأصدقاء المغربيين تعرف عليه بتونس منذ مدة طويلة خلال زيارة لها . كانت ليلة رائعة . وكنت فرحا كطفل وجد من يلعب معه لعبته المفضلة , بعد حرمان طويل . قلت في نفسي . هذه هي ضحكة القدر لقد أرسل لك الله جليسا , يفهم ما تقول . صدقني لقد كدت أبكي من الفرح . تصور بعد عشرين سنة ألتقي في مقابر غربتي بشخص من بلدتي , يعرف كل من أعرف تقريبا من الشيوخ والشباب . يعشق مثلي فريد الأطرش ويحفظ أبياتا مناسبة لأبي نواس . من المؤكد بأنك لن تحيط بذلك الإحساس الذي عشته ذلك المساء , لأنك لا تعرف ما معنى أن تسكن في قرية معزولة كهذه ويكون القصير الذي كان معنا صديقك الأوحد . ثم أنني كنت لا أرجع إلى تونس إلا مرة كل خمس سنوات . خمسة أطفال وأنا وزوجتي , أي سيارة ستكفينا ولك أن تتصور تكاليف زيارة كهذه . هذا إضافة للهدايا التي يجب علي أن آخذها معي إلي الأهل . أنا من عائلة فقيرة ولا بد من الهدايا , وحتى حين أعود مرة كل خمسة سنوات لمدة ثلاثة أسابيع , فإنني أظل متخفيا في غرفة بالبيت , لأنه لا قدرة لي على مواجهة عائلة فيها أكثر من خمسين فردا قريبا من أعمام وأخوال، ووو. ثم أن كل الأصدقاء والأحباب الذين كنت اعرفهم تفرقوا خلال السنوات الطويلة التي غبتها عن البلدة وعن الوطن .
أنت محظوظ يا سيدي . إنني أحسدك لأنني لا أكاد أصدق أن بإمكان تونسي أن يدخل يوما هذه القرية , ويعمل بها ولا يتعفن . بل ويكون بإمكانه أن يخرج لها لسانه ويرحل عنها متى شاء … إنني أحسدك يا سيدي , ولكنني أحبك أنك تسمعني , وتغفر جهلي وضعفي أمامك .
-أين وصلنا … لا أعرف ماذا كان سيكون مصيري بدون هذا الكأس . إممممممم ! تواصلت يا السهرة سيدي إلى ما بعد منتصف الليل بكثير . وأعجبني أنه ظل وديعا حتى وهو سكران وقد زاد ذلك من إعجابي به . واصل قائلا,- إن أرذل ما يمكن أن تصاب به هو أن تجبر على مجالسة إنسان يحوله السكر إلي وحش عنيف , لا ينهي الجلسة إلا بمشاكل وكلام بذيء . وقد عرفت كثيرا من هذا النوع , وكان أهون علي أن أتحمل القصير الذي رايته اليوم أسبوعا ولا أرى واحدا منهم . المهم , جاء النادل , فدفعت كامل الحساب رغم الضيق , وإدراكي لعواقب ذلك فيما بعد. ومن شدة جذلي , حلفت عليه بأن يكون ضيفي في تلك الليلة رغم تأخر الوقت . لم يمانع . بل أنه أعلمني أنه لاحظ بأن المغربي الذي ينزل عنده بدأ يضيق به خاصة بأن بيته ضيق وحالته متواضعة , وبأنه يشعر بالوحدة , لانه يريد التحدث بلهجة أبناء بلاده. قلت في نفسي بأن زوجتي سيبرد غضبها حين تعرف بأنه ابن بلدتنا , زوجتي أيضا من نفس المدينة . وهكذا , ركب إلى جواري بالسيارة , وذهبنا إلى بيت المغربي , وكان
هذا الأخير يشتغل بالليل . ففتح الباب بمفتاح كان قد تركه معه . وجمع أدباشه وكان كل متاعه سروال أسود وقميصين وفرشاة للأسنان , وآلة حلاقة قديمة . ثم كتب ورقة لمضيفه يذكر فيها باختصار ما وقع وبأنه سيتصل به قريبا بالهاتف.

لا أذكر من قال لي بأن القطط تقتل الثعبان إذا وجدته , ثم تلعب به و لكنها أبدا لا تحمله معها إلى البيت الذي تنام فيه. ولكنني كنت أقل حكمة من القطط وحملت ثعبانا إلي بيتي. ولكنني سبقتك بالأحداث . ستفهم ما أعنيه فيما بعد ّ!
غضبت زوجتي في البداية .ولم يكن غضبها أمر نادر , فقد اعتدت عليه . تقول لي لا تسهر فأسهر. وحين أعود ألجم لساني وأتركها تسبني كما تشاء. كنت اعرف بأنها بقيت تحبني فقط لأنني أسمح لها بشتمي بصوت عال . يقولون أن علماء النفس تحدثوا في هذا الموضوع. أنا لم أقرأ علم النفس ولكنني كنت أعرف كيف أتعامل مع امرأة مثل زوجتي. وبعد ذلك يسألني القصير -لماذا لم أذبحها- ؟! … أنا لم أذبح دجاجة في حياتي , فكيف أذبح زوجتي وأم أولادي . أقسم لك بأنني أحبها حتى الآن بل أنني أحبها الآن أكثر ربما.
مرة أخرى أسبقك بالأحداث …من المؤكد بأنك تعتقد بأنني بدأت أسكر . هذا صحيح , ولكنني لا أخبط في الكلام بسبب الشرب, ولكن بسبب هذا القلب المتورم الذي أحمله في صدري … أنت تعتقد بأن جسدي الضخم لا يتناسب مع رقة قلبي , ولكنني أقول لك بأنني صورة لقلبي وليس لجسدي . أطلت عليك أليس كذلك ؟-سألني- .
- لا. أبدا .أرجوك أن تواصل أجبته. رغم التعب الذي كنت أحس به ولا بد أنه لاحظه علي.
- نامت زوجتي بعد أن طيبت خاطرها وأقسمت لها بأنه سيبقى معنا يوما واحدا أو يومين وقلت لها بأنه من بلدتنا وحكيت لها قصته مع المغربي , لكنني أضفت من عندي بأنه طرده من بيته لأنه خاف على صديقته منه . أنا أعرف زوجتي جيدا إنها طيبة لولا ابن الحرام !
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى العمل باكرا بعد أن أوصيت زوجتي بالاهتمام به وغسل ملابسه . وعندما رجعت في المساء وجدته يجلس يضحك, وأمامه الشاي والحلويات ففرحت بما فعلته زوجتي حتى أنني لم أصبر على تقبيلها أمام الأطفال وأمامه.

بقي عندي أسبوعا . أخرج أنا صباحا إلى العمل , وأتركه بالبيت حتى يصحو على راحته ويخرج إلى القرية ليتجول أو يشرب شيئا , وقد كنت اتفقت مع صاحب المقهى على أن أدفع ثمن ما يشرب لأنني لاحظت بأنه لا يملك نقودا. في أحد الأيام تذكرت بأن تاريخ صلوحية تأشير ته أوشك على الإنهاء . فسألته عن ذلك فضحك , وأجابت زوجتي عوضا عنه وهي تبتسم ابتسامة فهمتها فيما بعد بأنه لن يرجع إلى تونس . سألت ببلاهة -كيف؟- فأجابت مرة أخرى بأن { م…} -وهذا اسمه. لا يريد العودة
قلت لها ولكن ذلك سيسبب له مشاكل مع السلطات هنا إذا انتهت مدة صلوحية التأشيرة. أجابتني بابتسامتها تلك. تلك الابتسامة شوكة في ذاكرتي. إنها توجعني الآن أكثر من أي شيء آخر- بأنها تصرفت وبأن كل شيء يسير على أحسن ما يرام. -كيف؟؟ سألت بحيرة. حدثتني عما فعلت. هل يمكن أن تصدق ماذا فعلت. أكيد ورب السماء, أن الشيطان ينحني أمام النساء !.
لقد اتصلت بجارة لنا , وكانت سكيرة لا تصحو أبدا من السكر , ورغم أنها لم تتجاوز الأربعين بعد فلو رأيتها في ذلك الوقت لحلفت بأنها ستموت بعد أيام . كانت امرأة ظاهريا فقط أما من الداخل فهي خربة
سوداء مهشمة .كانت تسعل كل الوقت . ذلك السعال الخبيث الذي يبدأ أجشا ثم يلتوي ويحتد حتى يصير مثل عواء الذئاب حين تشرق بقطعة من اللحم. واتفقت معها على أن تقبل الزواج صوريا من { م…} ليتحصل على وثائق الإقامة مقابل مائتي أورو شهريا, ولو قالوا لها عشرة أورو لما رفضت.
بعد عشرة أيام كان {م…} قد تزوج, وحتى لا يثير شكوك السلطات فإنه أنتقل للسكن معها في غرفتها. إنها ليست غرفة وإنما عشة فوق السطوح تستعمل في الأصل لنشر الغسيل. ولكنه لم يكن ينام هناك. قال بأن رائحتها لا تطاق, وبأنه سينام عندنا, حتى يجد بيتا مناسبا. وطبعا استغربت من تبدل حالة زوجتي حتى أنها صارت تدللني أمامه بعد أن كانت تعبس في وجهي كلما رأتني. أنا لست غبيا, ولكنني لست نذلا لذلك لم يخطر ببالي أن ….استغربت أكثر لما صارت زوجتي تنتزع من مصروف البيت لتعطيني ثم تقبلني في جبيني وتقول لي بأنها نادمة على قسوتها معي فيما سبق وبأنها تحس الآن كم أتعذب في الشغل
وتطلب مني - هي تطلب مني- أن أسري عن نفسي وآخذ { م…} وأخرج معه للمقهى القريب في البداية كنت أفعل ذلك وأحمدالله على هذه المعجزة. ولكنني بعد ذلك بدأت أفيق من غفوتي. صدقني أن الرجل عندما يحب امرأته حقا وتخونه يشم رائحة الخيانة, ولكنه لا يعرف أنها رائحة الخيانة إلا بعد أن يتأكد بأن زوجته تخونه, وعندها فقط يتذكر تلك الرائحة. بل أعتقد بأنها تبقى تعبق حوله أعوام وأعوام. إنني الآن أشمها. رائحة تشبه رائحة الدجاج ليس الدجاج تماما, ولكنها رائحة الطيور الصغيرة تماما الطيور الصغيرة المذعورة حين تراها وهي تسقط في الفخ وتجري نحوها , ثم تمسكها لمدة طويلة…وتسمع دقات قلبها مثل مراوح الهواء و حين تضعها في القفص وتشم يديك المبللة بالعرق والمتسخة ببثور الريش, تشمها … تلك الرائحة التي أشمها الآن. وأنا طفل كنت أحب العصافير, أما الآن فإنني لا أطيقها. ليس بسبب الرائحة التي حدثتك عنها, ولكن بسبب …إنني أتابع البرامج العلمية كثيرا بالتلفزيون . لم أكن أتصور أن الطيور يمكن أن تكون خطرة إلى هذا الحد. أنت تعرف خطورة الأمراض التي تسببها الطيور , أليس كذلك ؟… بالتأكيد أنت تعرف ذلك.
زوجتي هربت منذ خمسة أشهر من البيت. رجعت ذات يوم من العمل كعادتي , فوجدت البيت - سقفا وقاع-. أخذت معها كل شيء حتى الخزانة و ألبوم الصور.
هربت إلى بيت {م…} , يقولون بأنها كانت عشيقته منذ خمس سنوات . البارحة تخاصمت في الشغل مع أحد الأتراك فعيرني أمام الجميع, واتهمني بأنني كنت أعرف منذ البداية بعلاقة زوجتي به. القرية كلها كانت تعرف ذلك. إلا أنا. ألم أقل لك بأنني بهيمة. تركت لي ورقة باللغة الألمانية بأنها لن تتحمل أكثر وأنها ترجو لي حظا طيبا … ثلاثة أسطر مليئة بالأخطاء. زوجتي لم تتعلم ولم تشتغل. عندما قرأت الورقة ذهبت كالمجنون إليها هناك- كتبت أسفل الورقة بأنها ستبقى عند {م…} حتى يفصل بيننا الحاكم. وتعثر على بيت -. وعندما وصلت وجدته أمام البيت , وتخاصمنا فضربته وضربني , ولكن الشرطة مسكتني ليلة كاملة وأطلقت سراحه هوّ, ولم يسمحوا لي بالخروج إلا بعد أن التزمت لهم كتابيا بأنني لن أذهب إلى هناك. حتى تفصل المحكمة. حدث ذلك منذ خمسة أشهر. والمحكمة حددت الجلسة الأولي في منتصف الشهر القادم.
لم يسمحوا لي برؤية أولادي. أولادي أيضا لا يريدونني. فقط فلذة كبدي أحمد, الذي حضر عندك اليوم. أرجوك علمه العربية. أحمد عمره خمس سنوات ولكنه رفس {م…} برجله عندما منعه يوم الجمعة الماضية من رؤيتي. كنت أنتظر تحت الشباك رغم تحذير الشرطة. لم أطق صبرا فذهبت, ورآني هو من الشرفة , فنزل وهو يلهث وأخبرني بأن {م…ْ} منعه من الخروج إلي فرفسه بقدمه الصغيرة. إنه آخر
أمل لي, أما البنات فكلهن يتهربن مني. تربية أمهن. وتنادين {م…} الكلب -بأونكل-. ولم يكفهم كل ذلك فكلفوا محاميا قدم ضدي شكوى مستعجلة إلى المحكمة أدعى فيها بأنني هددتها وطالبتني بالنفقة. وبعد أسبوعين فقط ناداني صاحب العمل وأعلمني بأن قرارا صدر من المحكمة بأن يقوم هو نفسه بتحويل سبعين بالمائة من مرتبي إلي حساب زوجتي بعنوان نفقة لها ولأبنائي الخمسة ويتبقى لي الآن خمسمائة اورو أدفع منها أربعمائة كراء . فتصور أنني أعيش منذ أربعة أشهر بمبلغ مائة أورو , ولولا أنني قمت ببيع سيارتي واشتريت أخري قديمة جدا, لمت من الجوع هنا في هذه المقبرة التي لا يرحم فيها أحد الآخر. لقد حاولت بكل السبل إصلاح الأمر , بعثت لها بكل من أعرف ولا أعرف . ووجدتها يوما بالطريق مع ابني أحمد فجثوت على ركبتي وقبلت يدها , وقلت لها بأنني لن أشرب بعد اليوم وبأنني سأموت بدون أولادي , وبأنني اشتقت إلى طبخها …وأقسم لك أنها شهقت بالبكاء ومسحت دموعي , وقالت لي سامحني .ثم ذهبت معي إلى البيت وطبخت لي كمونية , وقالت لي بأنها تريد أن تفكر بالأمر ورجتني أن أترك لها فقط بعض الوقت لترتب أمورا . ولكن بعد ذلك ظلت تتهرب مني ولا تريد الخروج إلي. أو الرد على الهاتف . وبعدها بمدة فوجئت بشرطي يسأل عني في العمل ويخبرني بأن زوجتي اشتكت بي ثانية وادعت بأنني أهددها. من المؤكد بأنها تخافه. وهي تسمع كلامه. هي زوجتي وأنا أعرفها. إنها خائفة.

أنا متعب …لم أشعر يوما بالتعب مثل اليوم,قال. سكت قليلا ثم رفع رأسه تجاهي - وكان طيلة الوقت يحدثني وهو يدير كأسه الفارغ ويرسم بقعره دوائر لولبيّة على الطاولة.
- لماذا لا تحدثني عن حياتك أنت ؟ سألني .
- الساعة الآن الثالثة صباحا , والنادل ينتظر خروجنا .
التفت وراءه ولما لاحظ بأننا آخر من بقي بالمطعم . أخرج محفظته , ودفع الحساب وترك للنادل مبلغا كبيرا استغربته منه . وقف بصعوبة , واتكأ على كتفي . وحين خرجنا إلى الشارع أشار لي بيده دون أن يرفع رأسه وقال :
- بيتي هناك .

موت بلا وصية :

وصلت إلى -طروتسبارغ - الساعة الثالثة بعد الزوال , ووجدت الهادي{س…} ينتظر أمام المدرسة ومعه أبناءه. سألني عن حالي وكأن شيئا لم يقع , فأعدت له ما قالته لي سهام{ب..} عن انتحار أبيها.
رفع رأسه كمن يتشمم الهواء , ومسح لحيته ثم قال لي بأن ذلك صحيح . وأنه ذهب صباحا مع ثلاثة أتراك وغسلوه في المستشفى . وسيرسلونه بعد يومين إلى ميونخ لشحنه بالطائرة وإرساله إلى أهله في مدينة { ص…}.
سكت قليلا ثم رفع يده إلى السماء وحلف لي بأنه عرض على المسؤول عن المسجد بطروتسبارغ - إقامة صلاة جنازة له قبل ترحيل جثمانه , ولكنه رفض , لأنه متعصب مثل أغلب الأتراك بهذه القرية , وهو يعتقد بأن صلاة الجنازة لا تجوز على القاتل ومحمد {ب…} قتل نفسه. وتصرف في أمانة تركها الله عنده !.
أراد أن يواصل , ولكنه ربما أحس بثقل سكوتي فغير من نبرات صوته , وجرني من ذراعي وكأنه يريد أن يسر لي بسر خطر , ولما ابتعد مسافة كافية عن التلاميذ , نظر إلي فرأيت بعينيه بلل. قال لي بأنهم قتلوه.
- من قتله ؟ سألت بذهول.
زوجته والذي لا يسمى { م…} . ذهب إليها البارحة وهي في بيت هذا الذي لا يسمى . وقف تحت النافذة ينتظر . يقولون- والله أعلم- بأنه كان سكرانا, وبأنه ظل أكثر من ساعة يناديها بأعلى صوته من الأسفل حتى خرج كل الجيران. عند ذلك خرج له الذي لا يسمى {م…} وسكب عليه من فوق وأمام كل الناس سطلا من الماء البارد. يقولون أن محمد {ب…} لم يرفع حتى برأسه إلى فوق . رغم ما عرف عليه من طول لسان. انسحب خلف المنزل, ونزع قميصه ثم عصره, وذهب من الجانب الآخر دون أن ينبس بكلمة واحدة.
وفي الصباح , وجده كلب الجارة . وظل ينبح حتى نزلت صاحبته , فوجدته معلقا بحبل
الغسيل إلى سقف العشة الصغيرة التي كان يضع فيها الأدوات القديمة
أردت أن أسأله إذا كان قد ترك وصية , ولكنني أحسست بخجل .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد