الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القطران

بن جبار محمد

2015 / 6 / 9
الادب والفن


في بداية الحملة الانتخابية و قد شارفت على إنتهـاء أسبوعها الأول ، لم يجد فيها ما يثير انتباهه ، لولا جهاز الراديو الصغير الذي يحمله معـه إلى " الكدية" المطلـة على غابة "قربوصة" لم يعلم أن هناك حملـة رئاسية لترشيح رئيس جمهورية أو كما يطلق عليه المترشح الرئيس المنتهية ولايته ، يتعجب من هذه الكلمات التي تقترن زمانيا بالحملة لم يسمع بها من قبل و لم تصل مسامعه إلا في لحظات بعينها ، كثير من الأسماء و المسميات لم يتعود عليها ، أصبحت تصك آذانه عند كل نشرة أخبار الوطن و خاصة تلك الحصص الخاصة بالحملة التي تأكل الأخضر و اليابس و يتعاركون كالديوك و يتصايحون و كل طرف يدعي لنفسه الحقيقـة و إطلاعه على الأمور أفضل من الآخر ، سمع أيضا بالسب و بعض الهفــوات و أكثر من ذلـك أن أحدهم تجرأ على الرئيس المنتهية ولايته ! شعر " راشد " أن ضحكـة تكاد تقفز من أعماقه تشبه كركرة وادي سيدي راشد في المواسم الماطرة ، قال في نفسه:" منذ الاستقلال لم أعلـم أن رئيسا منتهية ولايته انتهى من ولايته ، الكل يخلف نفسه إلا إذا سقط صريعا برصاصة أو انقلابا أو تنحيـة ، الكل يخلف نفسه ، سمّوا ما شئتم من الأسمــاء،، الذين يتكلمّون عنه بسوء مثلهم مثل أهـالي الباديـة ، في النهـار يتصارعـون و يتعاركون و في الليل يأكلــون على مائدة واحدة !
أطفأ " راشد" جهاز الراديو الصغير المحشور في غلاف جلدي أسود و نظر إلى الغابـة التي تغطي كل الأفق أمامه ، قبل سنــوات قليلـة لا أحد يتجرأ الاقتراب منها ، مخاطر دخولها و اقتحامها أسوأ من الجحيم ، ليس لوجود حيوانات مفترسة أو مخلوقات غريبة كما كانت جدته تردّد و هـو لا يزال صغيرا و إنمـا لوجود جماعات إرهابيـة تستتر بالغابـة أناء الليل و أطراف النهار و إذا حدث و نجا أحدهم من شرهم فلا ينجو من " الحكومـة" ، القرى السبع التي كانت تحيط بالغابة اندثرت بفعل ابتزاز هـؤلاء ومساءلـة أولئـك ، عشّش فيهم الخوف و أنتابهم الهلع و وقعـوا بين ناريْن ، القلة القليلـة من قاومت الهجرة إلى المدينة ، تنهد سي راشد و قام من مكانه و كأنه لا يريد أن يتذكّر سبب مكوثه في الدوار إلى جانب العجوز أمه " عوالي" و والده المعروف بالشيخ حمودة .
تساءل " راشد" ألا يمكن بفضل هـذا الطوفان من الأكاذيب الانتخابية صناعـة " القطران" ؟ أجود أنواع القطران ، بعدما ورث من أبيه هذه الصنـاعـة لإضفاء النكهـة على مياه الشرب المحفوظة في القِرب من جلد الماعز ، التجربة الحياتية و الخبرة الطويلة جعلت من راشد يعرف متى يصنع هذه المادة السحرية الثمينـة و المطلوبة لدى ناس البادية ، لا يعرف أسرارهـا إلا أهل بيته ، عزيمتهـا " كذبــة كبرى" تزلزل أركان "البونادم" و أرجاء القرى السبع ، اليوم انتشرت التلفزيونات و الإذاعات و الجرائد فضاعت الحرفة بشكل من الأشكال ، لا أحد يؤمن و يصدق ما يقال ، القطران في حــاجة إلى إيمان بالإشاعـة أو الكذبـة حتى تنجح عملية استخلاص القطران و يتفتت فيهـا حجر الفالوس أو الفركوس الذي يعطي مادة ضرورية أشبه بالزفت الأسود .
المرحوم شيخ حمودة رغم أنه عاصر الحركة المصالية و كل سنين الحرب التحريرية لم ينصح ابنه راشد في تصنيع القطران من الأحداث السياسيـة و النضالية ، لم يوظف يوما الإشاعات و الأكاذيب لغرض تصنيع القطران لتلك الفترة . قال له ذات يوم مادة القطران ، مادة طيّارة بحاجة إلى كذبة كبيرة حتى تنضج دفعـة واحدة ، ينفجر فيها حجر الفالوس ، من الأفضل أن تكون كذبـة كبرى لا أول لها و لا آخر ، بقدر ما تكون الكذبة أو الإشاعـة كبيرة بقدر ما تكون مادة القطران أجود ، القطران الذي ينضج على الأكاذيب السياسيـة لا نكهـة لها و هـو أسوأ أنواع القطران الممكنة و لا يحلّي لا ينكّه الماء و تستحيل إلى مادة غير مرغوب فيها و سحرها يُبطل مثلما يبطل الرصاص في الماء ، و تخسر صناعتك و تخسر تجارتك .
أصبح راشد اليوم في سن والده الشيخ حمودة حين كان يقدم له النصائح في أصول الحرفة وقد تجاوز الستين في عمره ، ربما أكثر بالنظر إلى سنوات الإرهاب و سنوات الخوف التي جعلت فجأة من الصبيان شبابا و من الشباب كهـولا و من الكهـول شيوخا ، نضجوا و احترقت مراحل السنين دفعة واحدة ، ليتقدموا خطوات لم تمر بشكلها الطبيعي ، أشبه بالتين الشوكي لا ينضج إلا بحرارة الصيف الشديدة ، في ليلـة واحدة ، كل بساتين و الدرورة التين الشوكي تصبح ناضجة . الفرق الذي بين الإنسان الذي عاصر الإرهاب و التين الشوكي الناضج تحت رحمة الصيف ، التين الشوكي يصبح حلوا أما الإنسان فيزداد مرارة بسبب الحذر المفرط ، و لكن يتحسر على سنوات عمره التي احترقت هباءََ.
علّمته التجربة أنه من شروط تصنيع القطران هـو إطلاق كذبة كبرى أو وجودها خاصة في المرحلة الأخيرة من إنضاج المادة الزفتية السوداء .
ما أن بدأت الحملة الانتخابية وقد دخلت أسبوعها الثاني ، أضرم راشد النــار تحت البرميل الحديدي الكبير و بدأ يعبئه بأغصان الدردار و السرو و الكاليتوس و جذور أشجار الغابة المطاطية و خليط من الأعشاب البرية النادرة و الكثير من العرعار يخلطها بعصا مقاومة للنار و يضيف لها سوائل لا يعلمها إلا هـو ، كان يحرك العصا في المزيج بصعـوبة و هـو يرجو أن يكون في الأفق شيئا ما حتى ينضج القطران بشكل جيد ، فكّر في تلك اللحظة أن يطلق إشاعة يتداولها أهالي القرى المجاورة ، على الأقل يصل صيتها إلى مدى سبع قرى . قديما كان الشيخ حمودة يكلّف أحدهم لنشر إشاعة ما ، ما أن تصل الأفق و تجتاح القرى السبعة حتى تنجح العملية ، كان الشيخ حمودة يصنع أجود القطران ، يتم تقطيره و تعبئته و يباع بأفضل الأسعار تؤمن له مداخيل لا بأس بها .
اليوم ، قال راشد في نفسه و هو يخلط البرميل الحديدي بعصاه :" زمن ما بعد الإرهاب أو كما يسمونها المصالحة الوطنية حيث تصالح الجلاد مع الضحية ، تطوّر المجتمع و تمدّن وسط الإشاعة و الأكاذيب ، لم تعد الإشاعـة و الأكاذيب كما كانت ، كانت تهب مثلما يهب الريح أما اليوم فهذه الأكاذيب استوطنت المدن و البيوت و القلوب و الآبار و السماء و الأرض و البنوك و الإدارات و المؤسسات و حتى المساجد ! لا أحد يأبه للكذب لأنه هــو الكذب نفسه ، هو نتاج لهذه المادة الهرائيـة . التقيت في المدينـة بنساء جميلات طويلات فارعات في الطول تظن في أول وهلـة أنه بإمكانك تشييد عليها عمارة كاملـة و لكن ما أن تحدثها حتى تعرف كم هي سخيفة ! تعاملت مع الرجال في هذا الزمن ، هم مجرد أكياس نخالة ، لا كلمة شرف و لا وعد و لا مروءة ، تبا لهذا الزمن . وضع العصا جانبا و اتكأ على شجرة التين الكبيرة ، ما أن قرّب الزير من فمه حتى شعر كأن روح أبيه شيخ حمودة حاضرة معه ، حتما أن هنـاك شيئا ما خاطئ !
قال و هو يترحم على زمن والده الجميل ، تربطنا بالقرى صلـة خاصة جدا ، هم يصدقون الإشاعة أو الكذبة و ينقلونها من مكان إلى آخر و نحن نصنع المادة السحرية ، صحيح ، أحيانا تتغيّر ملامح الأكذوبة و لكن تحافظ على نواتها الصلبة لعدة أيام و ليال. حتى الزمن تغيّر و المكان لم يعد يشبه نفسه ، لاح له " حميد" ابنه الذي زوّجه في ربيع السنة الماضية و قد بلغ ثلاثون سنة ، استقام راشد بظهره و نادى عليه .
حميد لا يحب حرفة أبيه ، يمقت هذه الصناعـة مقتا شديدا و لكن يبدي بعض التعاطف الأسري تجاه هذه الصناعة النادرة ، قال له ضف محتوى ذلك الدورق في البرميل الحديدي ، هل تشكّل اللون الأسود ؟ لا يا أبي و هو يشير له من بعيد .
ضجر راشد و قال و هو يوجّه حديثه إلى ابنه :
- عجيب ،، زمن الأكاذيب ! استعصى القطران على النضوج ، قطب راشد جبينه و الحيرة بادية على وجهه .
- المشكل يا أبي في الإيمان بالأكاذيب و الإشاعات ، لا أحد يؤمن بهذا أو ذاك ، زمن التلفزيونات و الجرائد و الإذاعات ، فيك كل مدينة إذاعة و جريدة ، الفضاء الذي يحيط بنا مملوء بالفضائيات ، الأقاويل متضاربة ، ما أن تؤمن بأكذوبة حتى تدحضها أخرى ، لا أحد يصدق ، لا أحد ينقل كذبــة ساخنة من مكان إلى آخر رغم توفر الهاتف النقال و الشبكات .
أنشغل الابن بتنظيف حذائه من الأتربة و الغبار الذي تسرب إلى داخل الحذاء ، ثم نظر مليا إلى وجه أبيه قائلا : " تلك الدواوير يا أبتي كلها اندثرت إلا من بعض العجزة و الأشباح لا حياة تدبّ فيهم ، أغلبهم رحل باستثناء مَن لم يتمكن من الطيران ، ما تبقى لا يعيرون الاهتمام لأي شيء ، موتى أحياء ، طُرش ، صم ، بكم ."
- قال راشد و هو يستهزئ :" إذا تعلّق الأمر بالصم البكم ، فكلّ الناس في هـذا البلد تحوّلوا إلى مخلوقات صمّاء بكماء .
همّ الابن بمغادرة المكان ، رفع رأسه إلى حميد و كأنه يترجاه :" لا تذهب بعيدا يا حميد ، ساعدني في إشاعة مجنّحة ، أكذوبة رائعة ، صاروخ أرضي تفجّر به أذن السامعين ! " قال بحماسـة .
- ضحك في وجه أبيه ، ألم تكفيك الأكاذيب من الاستقلال إلى اليوم ، عشتَ مع جدي حمودة ما يكفيك ، أنا امتعض من الصناعة المقرفة ، هي في حدّ ذاتها صناعة القرف .
- أتريد أن تنقرض هذه الحرفة إلى الأبد ؟ الحرفة لا يعرف أسرارها إلا نحن ، لن أتنازل عنها أبدا . صرخ في وجه ابنه .
أنصرف الابن غير آبه لصراخ أبيه ، كان الدخان يزداد كثافة و يتحرك في اتجاه راشد الجالس تحت شجرة التين الكبيرة ، و تزداد معها الرائحة الكريهة ، أدخل ما تبقى من جذع شجرة في النار تحت البرميل الكبير ، نظر مرة أخرى إلى السائل المنصهر في البرميل و هو يتتبع أطوار النضج الأخير ، لم يتحوّل بعد السائل الزفتي إلى السواد حالك ، يبدو أن حجرة الفالـوس لم تتفتت لتعطي اللون الأسود ، قال راشد في نفسـه ، :" عجبا في زمن الأكاذيب ليس لنا مقدرة على الكذب ، السائل الرمادي يكاد يجف و لكنه لم يتحوّل ، صاح على أخيه السلفي الذي يفارق البيت إلا بعد سماع آذان صلاة .
- يا أحمد ! يا أحمد !
طلّ أحمد بحذر من باب البيت و هو يتساءل سبب النداء ، قال لـه راشد: " إقترب !"
- نعم ! و ضحك ضحكـة مستفزة في وجه أخيه الأكبر
- هل هنــاك ما يدعو للضحك ؟ قال لأخيه الأصغر بحزم
- لماذا لا تتوقف عن هذه الحرفة الشيطانية . لم ترد لا في الكتاب و لا في السنة .
- من ربـاك ؟ و رعاك ؟ من أين كان والدنا يأتي برزقه لتنشئتك ؟ أتجحد !
- أكاذيب ، احتراف الأكاذيب !
- إذا كان القطران مسألـة أكاذيب ، فإيمانك بالسلفيـة و كتب السلف أشد كذبا و بهتانا و مخادعــة ، ابتعد من هنــا ، اللعنــة عليك و على من أتبع خطاك .
ابتعد أحمد و هــو يغلي كالمرجل بعد الإهانــة التي تعرض لها من طرف أخيه الأكبر ، قدح في دينه و مذهبه ، دخل إلى البيت و ضرب الباب من ورائـه بقــوة ، تطاير لها الدجاج الذي كان يرعى بالقرب من فنــاء الحوش .
عاد راشد إلى تحريك البرميل بالعصا الغليظة ، وضــع العصا جانبا و عــاد إلى شجرة التين و جلس تحتها وهــو لا يزال عينه على باب الحوش ، فتــح الراديو مجددا و بدأ بالاستماع إلى أخبار السادســة مساءا ، ساعــة الغروب اقتربت و حجرة الفالوس لم يتفتت و هــو بحاجـة إلى كذبــة عظمــى ، قال في نفسـه لــو هـذا الحمار أطلق إشاعــة حتى تنجح الخلـطة بدلا أكاذيب بني وهاب التي لا تصلح لشيء . كان الراديو ينقل الأخبار إلى أن جاء دور "المترشح المنتهية ولايته" ليدلي بتصريح قوي : " ....سنحوّل ولاية معسكر إلى كاليفــورنيا .." حينها أنفجر حجر الفالوس داخل البرميل مخلفا دويا هائلا ،، جرى إلى البرميل و قد بلغت به الدهشـة مبلغا عظيمــا ، بدأ في صب الكثير من المــاء و يخلط و قد تكوّنت طبقات كبيرة من الزفت الأسود . يا إلهــي معجزة و هـو يصيح . ثم نظـر إلى الراديــو موضوع تحت شجرة التين و بدأ يحدق فيه ، ألتحق إبنه حميد لمساعدته في التقطير ، ثم سأل ابنه : ما معنــى كاليفونيا أو كاليفورنيا ؟
- كاليفورنيا يا أبي ، مدينــة من أعظـم الولايات في أمريكا .
ضحك راشد و نظر جيدا في وجه إبنه و قال له ، ألم أقل لك أنه عصر الأكاذيب ؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف