الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية سورية المهدورة

اسماعيل خليل الحسن

2015 / 6 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


هل لبلد ما شخصيته؟ شأنه بذلك شأن الفرد الإنساني.
لقد كتب جمال حمدان عن شخصية مصر، ورمز الأدباء والشعراء والفنانون لها بشخصية فتاة تدعى "بهية". فيما يبدو أن مصر هي البلد العربي الوحيد الذي تكاملت شخصيته.
سورية بلد اقتطعه كل من سايكس وبيكو مثل قطعة جبنة وبقيت أجزاؤه مبعثرة في الجوار الذي جرى تصنيعه أيضا، لكن السؤال هل اسم سورية الذي توافق عليه المقسّمون يعبّر بصدق عن حقيقة الأرض والشعب؟ هل من توافق ثقافي على هذا الاسم أم هو ضرب من ضروب السياسة ودهاليزها.
قد يكون اسم الشام أكثر تأثيرا وبعدا دينيا لمجتمع غالبيته مسلمة, لكنّ هذا يثير حفيظة القاطنين في الجزيرة والجزيرة العليا على اعتبار أن الفرات يقسم الجغرافيا إلى شامية وجزيرة، لكنّ ما يدبر في أروقة السياسة لا يُعنى كثيرا بمسائل الثقافة.
ولأنّ السياسة تعقل الثقافة في بلاد هي مرتع للعبة الأمم وساحة من ساحات ألاعيب المجتمع الدولي، كما اختصرت السياسة من قبل نخب تلك البلاد بالشعارية الجوفاء, فإن سورية ظلت منذ تأسيسها بلدا مضطربا، وكأن تلك النخب - وهي على الأغلب عسكرية - تريد التخلّص من البلد في أول منعطف أو تحكمه بنزعة استبدادية لتكتم أول ماتكتم سؤال الثقافة وسؤال الهوية والشخصية.
لم تكن الرقة معمورة ولا جسر على الفرات فلم تكن حلب بالمتناول وكانت زيارة المدينة حكاية تدعو إلى البهجة في مجتمعات قروية، والمدينة هي اسم تعارف عليه العوام بدلا من اسم (الرُّها) التي دعيت اليوم بأورفا التي أمرّ ( أنا كاتب المقال) فيها اليوم وأشاهد جامعها الأحمرأتذكر روح جدّ لي كان في مطلع القرن الماضي يزاول الحضورفي هذا الجامع كل يوم جمعة كي لا تفوته صلاة الجماعة، ممتطيا ظهر حصانه، قاطعا مسافة 60 كم ذهابا ومثلها عودة ثمّ يصلّي المغرب في بيته.
أذكر هذا الحدث الشخصي لأقول: إنّ ديار بكر وسهول أورفا وكيليكية تنتمي إلى أرومة ثقافية واحدة وإنّ العائلات العربية والكردية والتركمانية والسريانية تجمعها، عدا عن وشائج القربى، تلك الرّوح المشتركة التي تحول دون الشعور بالغربة بين القاطنين في هذه المناطق التي كرّستها السياسوية الضيقة, ولعل كثيرا من العائلات العربية والكردية والتركمانية في الشمال السوري تلتقي اليوم، بعد اندياح الحدود، بنصفها المنشطر في الأراضي التركية والأمر نفسه بالنسبة للعشائر والعائلات على الحدود العراقية والأردنية واللبنانية.
لقد أصبح, لدى مثقفي اليسار واليسار القومي، هاجس أن كل طائر يدخل من الحدود الشمالية لسورية هو مؤامرة عثملية وطورانية تسعى للتخريب، وكذلك ما يدخل من الموصل وراوة وعانة والزرقا والجليل ولبنان، فلم يبق لدى المثقف المتوجس، أمنيا، سوى البحر الذي يرتد عنه طرفه فهو حسير.
وعندما أغلقت السلطة الحدود، ولم تجد مقاومة لهذا العمل الشائن، عطلت التواصل بين السكان على الضفتين عبر الحدود الطويلة المحيطة بالبلد ثم أجهزت من خلال منهجها المزيّف في التاريخ المدرسي على كل أمل بإحياء تلك الروح المشتركة ليحل محلّها التوجّس والريبة رغم شعارات التوحيد القومي التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.
إن إغلاق الحدود وقطع صلة الرحم ساهم باختلاف اللهجات بين تجمعات سكانية لا تبعد عن بعضها مئات الأمتار، فالعربية المحكية اليوم في سهول أورفا عربية مجمدة منذ مئات السنين وهي تتطور نحو الانقراض والتلاشي، وهناك صعوبة في التفاهم لغويا بينهم وبين أبناء عمومتهم في الجانب السوري, والتركمانية السورية مجمدة ولم تلاحق تطور اللغة في تركيا عدا عن انقراضها لدى كثير من التجمعات السكانية وهذا هدف كان يسعى إليه نظام البعث منذ تأسيسه، وكذلك الكردية بين لهجاتها السورية والعراقية والتركية ولا أدري بالنسبة لللهجة الماردينية وهي لهجة عربية أصلا.
إن لم تكن إعادة وحدة الأجزاء السورية ممكنة فهل ينبغي تعطيل أداء التواصل الثقافي؟ ذلك التواصل الذي وحّد أوروبا بعد مئات السنين من رسم الحدود القومية والحروب الطاحنة على الحدود، لكنه التسييس والولع بالسياسة وازدراء الثقافة والمثقفين الحقيقيين والتنكيل بهم بحيث أصبح البسطار العسكري يعدل في كفة الميزان كل كتب الأمة ومجلداتها ومدارسها وجامعاتها.
الثقافة لا يمكن تجزئتها ولا يمكن البناء على نصف أو ربع ثقافة كما لا يمكن بناء ثقافة من العدم كما كانت تحاول سلطات القمع الأسدي حيث يجد (مثقفو) السلطة أنفسهم اليوم مفلسين وقد سقط الفولكلور و التهريج الذي كانوا يخدعون الناس ويخدعون أنفسهم فيه لبناء سورية على مقاسهم هي قزم بالنسبة لسورية الحقيقية.
ووجد كثير من الناس أنفسهم صفرا من أية ثقافة، فهاموا على وجوههم يطاردون أمواج السراب وظنوا أن كلّ ما يلمع ذهبا ووقعوا في أفخاخ وأشراك ثقافية، لكنّه كالبرق الذي تبدد فكان خلّبا.
الثقافة التي ستنقذ سورية وتبنيها وتعيد بناء شخصيتها في المستقبل ستكون ذات خصوصية، فهي حقيقية ومتعددة وغير متعالية أومتعجرفة، ثقافة تسعى لتأسيس دولة وليس دولة تصطنع ثقافة أي أنها تنبع من تحت ولا تفرض من فوق، ثقافة كليّة لا مجتزأة وانتقائية، وإن جاز لفنان أن يرسم شخصية سورية الجديدة فإنها فتاة برؤوس متعددة وأسماء متعددة: عائشة وفاطمة وسنم وفاتي ومريم.
إن القوقعة التي استغلّتها السياسوية الضيقة لبناء هيكلها وتقديس طواطمها العسكرية وسدنتها من مثقفي اليسار والعلمانية المبتذلة، قافزين على بنى ثقافية يشكّل الدين والعرق والمذهب والمكان، داخل أو خارج الحدود، شطرا مهما في تأسيسها، قمعا وتأجيلا لأسئلة تطرحها الحياة والتاريخ والجغرافيا وتطرحها مسألة كل من الهوية والشخصية، هذه الأسئلة كان ينبغي الإجابة عليها عبر فضاءات الحرية الواسعة لكي لاتطرح لاحقا بشكل تدميري وكارثي ولا يجري حلها كارثيا كما هو الأمر اليوم حين طرح الحاكم شعار تدمير البلد لأن البلد, كما توحي له مخيّلته المريضة, قزم بالنسبة لذاته المتضخمة وقد أصبح التدمير هدفا يمارسه كما يمارس ألعاب الكومبيوتر في أوقات فراغ فراغه الفارغ أصلا؟!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيطاليا: تعاون استراتيجي إقليمي مع تونس وليبيا والجزائر في م


.. رئاسيات موريتانيا: لماذا رشّح حزب تواصل رئيسه؟




.. تونس: وقفة تضامن مع الصحفيين شذى الحاج مبارك ومحمد بوغلاب


.. تونس: علامَ يحتجَ المحامون؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. بعد لقاء محمد بن سلمان وبلينكن.. مسؤول أمريكي: نقترب من التو