الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأويل ما نحن فيه

الصديق بودوارة

2015 / 6 / 10
مواضيع وابحاث سياسية


للناس بصر ، وللأديب بصيرة . هذه هي القاعدة الذهبية التي لا مناص من التسليم بها وللاقرار بصحتها ولو كره الكارهون .
للناس بصرهم المتعجل ، ذاكرتهم المتسرعة ، ومخزونهم الذي لا يحسب حساباً للسنين العجاف .
لكن الأديب والشاعر والمفكر شئ آخر ، إنه كون مختلف ، فمن أراد أن يصل إلى بصيرة المبدع ، عليه أن يقرأ ما يعنيه ، لا أن يقرأ ما يكتبه .
" زكريا تامر" ، وهو الغني عن التعريف ، كتب منذ 26 سنة يالتمام والكمال ، وبالتحديد في العدد السابع من مجلة "الناقد" ، طيبة الذكر ، التي سكتت عن الكلام منذ عام 1995 ولم تنبس بورقة واحدة حتى الآن . كتب "زكريا" قصة كان اسمها "التأويل" ضمن زاوية ثابتة كان يخصصها للناقد وقد اختار لها اسم " قال الملك لوزيره" .
أحياناً يضيع الملوك أوقاتهم في الحكم ، لكنهم لا يضيعونها في الكلام ، نظرية غريبة بعض الشئ ، لكنها حقيقية إلى حدٍ لا يُصدق .
ولكن ، لماذا نرجع إلى الوراء 26 عاماً لكي نعالج مسافةً من الفراغ صارت تشغلنا هذه الأيام ؟ وإلى أين صار يقودنا الشك ويعبث باليقين الذي طالما اعتقدنا بثباته وديمومته وصوابه ؟
لنبدأ هذه المقالة بالاعتراف إذن ، فقد صار علينا أن نعترف بأن الكثير من الثوابت قد أصابها الاهتزاز ، وأن القضايا الكبرى المصيرية ، أصبحت الآن مجرد هياكل معدنية صدئة لا تحتاج منا الموت دونها بقدر ما تحتاج دورة صيانة مكثفة ، لكي لا أتورط في الدعوة لاجتثاثها نهائياً من على وجه الواقع المعاش .
إن القضايا " الملحة" ، و"الحتمية" ، و"الكبرى" ، و"الحلم المقدس بالحرية" ، و"ضرورة الكتابة ضد قبضة العسكر" ، والدعوة إلى "الموت من أجل الانعتاق النهائي" من سيطرة الأقلية الحاكمة ، كل هذا الركام أصبح الآن عبئا على منظريه ، ومحل شك كبير من المجاميع التي كانت منذ عقد واحد من الزمان على أهبة الاستعداد لتموت من أجله .
هذا هو الواقع الجديد الذي يتشكل الآن ، فكيف يمكن أن نكتب نقداً من واقع الحال لقصة "زكريا تامر" التي كتبها منذ 26 سنة بالتمام والكمال ؟
إن المبدع "زكريا تامر" يصور في قصته الساخرة مشهداً لملكٍ مستبد يروي لوزيره الخانع الذليل ،حلماً راوده ليلة البارحة ، فكيف كان حلم الملك ، وكيف كانت مذلة الوزير ؟
الملك ــ رأيت الناس يدخلون إلى حديقة قصري من غير إذن .
الوزير ــ سنقبض عليهم فورا .
الملك ــ هجموا على كل مافي حديقتي من شجر، وأكلوا الثمار كلها ، وعندما نفذت الثمار أكلوا أوراق الشجر، وعندما نفذت الأوراق أكلوا الأغصان ، وعندما نفذت الأغصان أنقضوا على الجذوع محاولين التهامها .
ويواصل الملك بعد ذلك وسط نفاق الوزير :
ــ فجأة ، تنبه الناس إلى الشمس فوثبوا عليها والتهموها كما يلتهم الجائع برتقالة .
أكلوا كل شيء ، أكلوا أسوار قصري ، أكلوا جدران الغرف والسقوف ، أكلوا النوافذ والأبواب ، أكلوا الملاعق والصحون والستائر ، وأكلوا السجاد ، وصار قصري مجرد أرض خاوية .
طبعاً ، في ذلك الوقت ، أذكر أني استمتعت بقصة زكريا تامر" هذه ، كنت منتشياً بسرده لخوف الملك المستبد من رعاياه ، وكوابيسه بقرب نهايته على أيدي الجياع .
كنت ، ومعي الكثيرون ، قطرة ماء في نهر كبير ، يسير صوب غاية الانعتاق ، ويحلم بالديمقراطية على النموذج الغربي ، وينتظر بفارغ الصبر أن يتحقق حلم الملك ، وأن يهاجم الجياع قصره ، وأن يأكلوا في قصره كل شيء .
لهذا ، كانت قصص "زكريا تامر" و " محمد الماغوط" ، واشعار "أحمد مطر" و"مظفر النواب" تستهوينا ، وكنا نركض وراءها كما يركض الطفل صوب قطعة حلوى ، هذا كان منذ 26 سنة أو يزيد ، فهل سنركض الآن صوب قطعة حلوى كوابيس الملك أم سنركض في الاتجاه المعاكس ؟
كل شيء تغير الآن ..
إنه " تسونامي" بشع ، مريب وموحش وحزين ، هذا الذي صار واقعاً جديداً نعيشه الآن ، أليس هو زمن الأسئلة الكبرى يقبل من جديد ؟
انتظرنا بفارغ الصبر أن يتحقق كابوس ملك زكريا تامر ، وأن يأتي زمنٍ يموت فيه وزيره المتملق المنافق ، وأمضينا زهرة شبابنا في الانتظار ، وعندما آن الأوان اكتشفنا ذلك السر القبيح .
لقد تحقق حلم الملك بالفعل ، لقد (( أكلوا كل شيء ، أكلوا أسوار قصري ، أكلوا جدران الغرف والسقوف ، أكلوا النوافذ والأبواب ، أكلوا الملاعق والصحون والستائر ، وأكلوا السجاد ، وصار قصري مجرد أرض خاوية ))
حدث كل هذا معاً ، وفي أيام قليلة ، ولكن الذي تم أكله والتهامه لم يكن قصر الملك ، لقد كان الوطن هو العصف المأكول ولم يكن قصر الملك أيها السادة .
من قال إن الوزراء المتملقين مهرةً في تفسير أحلام الملوك ؟
هذا ما حدث ، وهذا هو السؤال الذي أعاد طرح كل شيء من جديد ، فهل نحن بالفعل أمة وصلت إلى الدرجة المطلوبة من الجهوزية لممارسة الديمقراطية ؟
وهل أن ديمقراطية الغرب هي الثوب الذي يلائم مقاس ثقافتنا البعيدة والقريبة ؟
وهل نحن على استعداد للاعتراف الآن بأننا أمة من الطغاة ، يسكن جسد كل مواطن منها مستبد صغير ينتظر فرصته بفارغ الصبر حتى يفرغ شحنته المكبوتة في ما تيسر من بني قومه ؟
صفر كبير ، وإخفاق بشع بكل المقاييس ، وعلى الامتداد الجغرافي الكبير للتجربة التي أطاحت بالطغاة ، كانت النتيجة واحدة تقريباً ، نحن لسنا مؤهلين لممارسة الحرية ، ونحن لازلنا تلك الشعوب التي يلزمها دائماً زعيم يتصدر الصفوف ويقود المسيرة ، ويخطب على منصته المزخرفة لساعات طويلة ـ لايقاطعه أثناء خطابه سوى كوب الماء النظيف وهتافات مرتبة بعناية قبل الخطاب وبعده .
هذه هي الحقيقة التي اكتشفناها الآن أيها السادة .
بعد الخراب الذي حدث ، وبعد تغول المواطن على مبدأ المواطنة ، وبعد استبداد الناس بالوطن ، وبعد طغيان الفوضى على مفهوم الحرية ، وبعد عهود من الحكم الشمولي من قبل الفرد على المجاميع ، هاهي المجاميع تمارس الحكم الشمولي على الدولة ، فتطيح بالدولة وتتجزأ الولاءات إلى فسيفساء مدمرة .
هذه هي الصورة ، وهذا هو السبب في أننا نعتذر الآن للوزير المتملق ، ذلك الذي كان يبرر للملك المستبد طغيانه بأشد العبارات مداهنة وليونة :
ــ من واجب البلاد أن تحتفل بنجاة ملكها ليل نهار ،وطوال سبعة أيام .
ــ الناس غاضبون لأنك تمنعهم من اظهار حبهم لملكهم ، وهم ليسو بمخطئين ، ومن حقهم أن تتاح لهم الفرصة لدفع ضرائب أكثر .
شخصياً ، أعتذر لك سيدي الوزير المتملق ، لقد كنت واهماً ، وها أنا أعلن على الملأ أنك كنت محقا ، فقد اكتشفنا بعد أن دفعنا ثمناً غاليا ، أن طاغية واحد هو أفضل ألف مرة من ملايين الطغاة ، وأن الحرمان من الحرية هو أفضل مليون مرة من المعاناة من الفوضى ، وأن الحكم الشمولي لفرد واحد ، هو أحسن ملايين المرات من حكم شمولي يمارسه الناس على وطن بأسره .
أعتذر منك سيدي الملك ، فقد أكتشفنا الآن أن " زكريا تامر" مخادع كبير ، وأنه ورطنا في الانتقاص من قيمة ملك مقتدر ، وأن كابوس الملك لم يكن بشعاً لمجرد أنه أزعج نومه الملكي المقدس ، بل لأننا اكتشفنا أنه عنما روى لوزيره أن الناس (( هجموا على كل مافي حديقتي من شجر، وأكلوا الثمار كلها ، وعندما نفذت الثمار أكلوا أوراق الشجر، وعندما نفذت الأوراق أكلوا الأغصان ، وعندما نفذت الأغصان أنقضوا على الجذوع محاولين التهامها .))
اكتشفنا أنه لم يكن يقصد حديقته ، بل كان يقصد الوطن ، ذلك الذي هجم الطغاة الجدد على
كل مافي حديقته من شجر، وأكلوا الثمار كلها ، وعندما نفذت الثمار أكلوا أوراق الشجر، وعندما نفذت الأوراق أكلوا الأغصان ، وعندما نفذت الأغصان أنقضوا على الجذوع محاولين التهامها .!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فرانس كافكا: عبقري يتملكه الشك الذاتي


.. الرئيس الإسرائيلي يؤكد دعمه لحكومة نتنياهو للتوصل إلى اتفاق




.. مراسلتنا: رشقة صواريخ من جنوب لبنان باتجاه كريات شمونة | #را


.. منظمة أوبك بلس تعقد اجتماعا مقررا في العاصمة السعودية الرياض




.. هيئة البث الإسرائيلية: توقعات بمناقشة مجلس الحرب إيجاد بديل