الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جواسيس (غشمة)

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 6 / 10
الادارة و الاقتصاد


جواسيس (غشمة)!

تَجمع كلمة (غشيم) لدينا نحن العراقيون أكثر من صفة، فيما لو أن الشخص لا يفقه الأمور من حوله وعدم الفطنة في إدراكها.
يقول معجم المعاني، أن (غشيم) أسم علم مذكر، و(غشيمة) مؤنثه، و(الغشامة) هي صفته، صفة الإنسان الذي لا يدرك ما يجري ولا يُساير الأحداث، أي أنه الجاهل الغير مستخدم عقله للوصول لفهم غايةٍ ما.
ويمكن أن يتصف كل كيان الإنسان بـ (الغشامة) أو جزء منه، قلبه أو فكره وعقله فقط، كما ويمكن أن يكون أحدنا (غشيم) بأمرٍ واحدٍ وبشكل مؤقت، بينما آخر يكون (غشيم) بعدة أمور وعلى الدوام، وهذه معضلة نسأل الله أن لا يضع فيها خلقه...

يقول الشاعر في قصيدة عاميّة*...
ما تخافُ الله في قلبٍ غشيم غرّته سود العيون وضحكتك
× × ×

بالرغم من أن ارتفاع باب غرفة الفندق عن الأرض ليس أكثر من أصبعاً واحداً، لكنه كان كافٍ ليدخلنا أنا وزميلي (مصطفى) في دوامة كنا في غنى عنها.
فقد كان يأتينا يومياً عن طريق تلك الفتحة التي أسميناها صندوق البريد (ص ب) مجموعة من (الدعوات) لزيارة أماكن (مشبوهة) بحجة مساج او نصائح مجانية، رياضية أو علاجية... الخ.
كنا في فندق في كوالالمبور (ماليزيا) على حساب شركة (أن إي سي) اليابانية للتدريب على الجيل الأحدث للبدالات الالكترونية، و(مصطفى) هذا ولد رائع، ليبرالي بعيد عن (التعصب والتحزب)، لذا جاء على (مرامي)، ولأنه كان متزوج حديثاً عن حب، ما كان يريد اللعب (بذيلة)، فارتحت لصحبة السفر معه.
في أول أيام الإيفاد والسكن بالفندق، كنا (غشمة) حين لبينا دعوة وصلتنا عن طريق (ص ب) تحت الباب، كان كارت لطيف ملون يحمل دعوة مجانية لزيارة نادي رياضي، صدقناه وأوصلتنا من باب الفندق عربة تسحبها دراجة هوائية بسائقها الذي وحين ناولناه العنوان، بالغ بابتسامته و(دردم) مع أشارات (سوقية) بيديه لم نفهمها!
حين وصلنا، اكتشفنا انه بيت دعارة تحت اسم (نادي رياضي)، والسبب كون ماليزيا بلد إسلامي يُمنع فيه ممارسة (الفواسق)، على الأقل بالعلن، ليس كجارتها تايلاند والتي يمتهن ربع شعبها... ذلك!
انهزمنا وسط دعوات للدخول حتى باللغة العربية، لنجد صاحبنا ينتظر زبائن آخرين، وباعتباره (معرفة) طلبنا منه بلغة الإشارة أن يعيدنا للفندق، سار بنا وهو يتكلم بمثل صوت (البط) لم نفهم ولا كلمة منه، لكنه كلما التفت هززنا برأسنا له (يس... يس)، فدخل بنا درابين وطلع من أخرى تشعر وكأنك تدور بالبتاوين.
توقف الأخ ثم دخل في بيت، لتهجم علينا مجموعة (انتوشات) فأمسكن بنا وتبادلن فيما بينهن (الشتائم) واختلفن حول توزيعنا، فلتنا منهن بأعجوبة مما حدا بهن لتوبيخ الرجل وحرمانه من (العمولة)، ولما شكينا لسائق أجرة ما حلّ بنا، انتقد هؤلاء وذمهم بشدة وقال ليس الجميع بهذا السوء، ثم أختتم حديثه بدعوتنا (لنادٍ) خمس نجوم لو... رغبنا!
بعد (جرة الإذن) هذه، فهمنا الدرس وأصبحنا (مؤمنين) أن لا نلدغ من (تحت الباب) مرة أخرى وتوخينا الحذر بالتعامل مع أي سائق أو دليل أو وسيط... وما أكثرهم هناك حول الفنادق وداخلها، حتى الكارتات التي تصلنا من تحت الباب أو تلك التي تتركها عاملات (الروم سيرفس) فوق السرير وتحت الوسادة بعد كل عملية تنظيف، اتفقنا أن نقوم بتقطيعها قبل قراءتها.

لكن وفي إحدى المرات، لاحظنا أن ثمة دعوة من نوع آخر بين أيدينا، تختلف في نوعها ومحتواها وصورها، حتى مصدرها شركة عالمية محترمة...
اذاً هي دعوة لزيارة معرض للاجهزة الالكترونية الحديثة المصنعة بماليزيا والذي تقيمه شركة (تكساس أنسترومنت) الأمريكية وعلى أرض معاملها قرب العاصمة، قلنا لنذهب ونرى عسى أن نستفيد وأن لا يكن أيضاً... نادٍ رياضي!
كانت الدعوة بالـ (الويك اند)، فأخذنا تاكسي لموقع الشركة، هناك وجدنا فعلا احتفالية وعروض تحت خيمة كبيرة أقيمت بحديقة عند مدخل الشركة، تصدح الأغاني الغربية وإيقاع طبول موسيقى الجاز الأمريكية الصاخبة، كانت العروض لمعدات وأجهزة ورابوتات تحمل ماركات لشركات ماليزية تستخدم المعدات الدقيقة للشركة، كان المعرض مزدحم، أناس تتجول وأخرى تسأل يدفعها الفضول، قلنا الحمد لله هذه زيارة بريئة وليس فيها ما يثير الريبة...
قضينا ساعتا فرجة وفائدة، بعدها لاحظنا أننا كنا مراقبين من قبل أحدٍ ما كان يسير خلفنا كظلنا، وفعلاً اقترب وعرفنا بنفسه مندوب الشركة صاحبة الدعوة، ودعانا من باب جانبي لدخول الشركة، الملفت كان هناك تحوطات امنية لم نألفها نحن العراقيين في حينها في العام (1989) كالتفتيش بأجهزة المسح الالكتروني كتلك المتواجدة حالياً بالمطارات.
في الداخل وجدنا موظفة استقبال أمريكية ترتدي زي رعاة البقر أي (كاو كيل)، رافقتنا في جولة في بعض اقسام الشركة التي كانت بغير يوم عمل، وطلبت تأجيل أسئلتنا الملحة لغاية تلبيتنا دعوة (تي تايم) يقيمها المدير على شرف بعض الحضور، وفعلا كانت مائدة فيها كل ما لذ من المقبلات، ومن الفواكه الاستوائية كل ما طاب.
حضر المدير مع بعض موظفيه مرحباً بنا، شارك الحضور شرب الشاي ثم دعانا لوحدنا لمكتبه ليشرح لنا عمل الشركة التي توفر التكنولوجيا الدقيقة للشركات الماليزية، وكيف تعمل لديهم مكائن صناعة تلك المعدات وسرعة انجازها، وخِطط الشركة بالتوسع وضم مهندسين اكفاء من بلدان مختلفة بتوقيع عقود مغرية، أشار لبعضها جاهز على المنضدة أمامه...
وطالبنا بزيارته محدداً يوم الاثنين القادم (لنقارن) العمل بين شركته (تكساس أنسترومنت) وشركتنا (أن إي سي) والتحدث حول معدل ومستوى وسرعة الانجاز... الخ، وسيقوم هو بتقديم تفاصيل عن شركته و(يسمع) منا تفاصيل عن شركتنا ومدى سعتها وامكانياتها وأعداد عمالها وحجم إنتاجها... وضرورة تقديم ذلك بمهنية وصدق، وحكى لنا أمكانية انخراطنا بالعمل بعقود مغرية وتكفلهم بالسكن بأحد فروع الشركة.

عدنا ننفض فراشنا من (الكارتات) التي تزدحم فوقه، ليصدقني (مصطفى) القول بأن (الصفقة) قد أغرته، لكنني وكمعظم العراقيين (حينها) لم استوعب مبدأ أن أترك بلدي واعمل بالخارج، فظل يحلم لوحده باستقدام زوجته وبدء حياة جديدة في شقة لوحدهما وبعمل ممتاز، بدل غرفة (معلق) بها في بيت أهله وبراتب بغداد (الشحيح).
وما أن أخذته أحلامه بالهجرة بعيداً عن بغداد، أخذتني غفوة بأحلامي... لبغداد!

في صباح يوم الموعد، ذهبنا نستأذن من مديرنا الياباني المباشر، الذي لي معه بالعراق قبل سنتين صداقة عمل، حيث قمنا بنصب بدالة (عنة) في الأنبار بموقع جديد حين غمرت مياه سد حديثة المدينة، وقد شهدنا يومها تقطيع ونقل مئذنة (عنة) التاريخية من قبل الشركة الفرنسية صاحبة المشروع، وقد انتصبت هذه المئذنة الجميلة بنجاح في موقعها البديل، لكن والأسف وبعد ثلاثون عاماً، هبت عليها رياح (داعشية) صفراء ليقوموا بتفجيرها بدون أي مبرر ديني أو أخلاقي!

وما أن وافق المدير على الإجازة حتى اتصل بسيارة الشركة لتلبي حاجتنا بالتنقل، فسألنا: إلى أين يتجه سائقنا بكم؟
قلنا بسعادة غامرة: لمقر شركة (تكساس أنسترومنت).
كلمتان حولتا صاحبي الوديع ذو الابتسامة العريضة إلى وحش كاسر كشر عن أنيابه وصار يهدد بنا ويتوعد، ثم رفع سماعة هاتفه وتكلم بالياباني قليلاً، ثم عاد لإنكليزيته ونتر بنا: متى وكيف ولماذا... ذهبتم؟
مجموعة أسئلة لا تعد نزلت علينا، ليزيد (مصطفى) الطين بلة حين أخبره بأنه يبغي دراسة عرض عمل مع تلك الشركة كانوا قد وعدوه به.
وقف مبحلقاً فينا، ومد يديه طالباً تسليمه جوازاتنا كي يحجزوا لنا فوراً بطاقة طائرة لبغداد، قائلاً بأن كل ما علينا هو حزم أمتعتنا بأسرع وقت.
ولكن وبحكم (الميانة) بيننا ومعرفته حسن النية، وأننا (غشمة) لا نفقه (أدبيات) الشركات الكبرى، هدأ ثم أخذ تعهد منا بمرافقة سيارات الشركة لنا لاحقاً بكل جولاتنا (قلنا بعد أحسن نوفر المصروف) واشترط تقييد حركتنا حتى داخل شركته، واستمر ذلك بالفعل طيلة فترة الإيفاد وحتى باب الطائرة العائدة... لبغداد!

فهمنا الدرس جيداً، بأن من بين حرب الشركات والتنافس فيما بينها، عملية التجسس، وضحاياها (أشكال وألوان)، وكل ضحية يتم إغرائها بحسب أهميتها وبوسائل مادية أو غيرها، تبدأ بعقود عمل لعدة أشهر يمتصونها ويمسكون عليها نقاط ضعف، ومن ثم (باي باي) بعد (مص) كل ما بجعبتها من معلومات.
أحياناً يستخدمونه الشخص لإيصال معلومة خاطئة للشركات المنافسة، ويصل الحال (لتصفيته) خوفاً من أن يعمل كعميل مزدوج بتسريب معلومة كان قد حصل عليها خلال عمله أو تجواله في أقسامهم السرية...

قلت لمصطفى: أين نحن من حرب الشركات هذه؟
قال: قامت الدنيا لمجرد لبينا دعوة، تخيل لو كنا قد وقـّعنا عقد، لوقعنا بين (المطرقة اليابانية والسندن الأمريكي).
قفلنا بابنا علينا، وأغلقنا الفتحة من تحتها بمنشفة الحمام، وهل أجمل من أهزوجة تشرح حالنا...
فتحة الباب اللـّي تجيك منها دعوة وسلام
سدها بالخاولي ولف راسك... ونــــــام !

رددناها من مطار (كوالا لمبور) حتى نزلنا من الطائرة بمطار بغداد، شممنا (ريحة هلي) ولمسنا البراءة بعيون زوجاتنا اللواتي جئن لاستقبالنا مع الأهل، أحسسنا بالأرتياح أننا قد أدركنا الدرس جيداً.
ليهمس (مصطفى) بإذني...
ـ كارتات (الأنتوشات) أرحم بكثير، على الأقل أضرارها تذهب فيها الصحة والفلوس، لكن كارت الشركات أقسى وأمَر، تذهب فيها... رقاب)!

عماد حياوي المبارك
كوالا لمبور الجميلة ـ نوفمبر 1989

× بعد مباشرتنا العمل ببغداد، نوه المدير العام أمام مجموعة مهندسات ومهندسين لفعالية (الغشمة) هذه دون أن يسمينا بالأسم، مشيراً لضرورة التحصين لتجنب الوقوع بهذا الشرك التي تنصبه الشركات لأولاد... (الخايبة)!
وهو أمر كنا نتلقاه في محاضرات بكلية الأمن القومي على طريق المطار قبل كل إيفاد، عن وسائل الوقاية من فعل الدول المعادية والشركات والأشخاص ضدنا.

قصيدة عمودية باللغة العامية للشاعر الإماراتي (هادي المنصوري)...

شمعةٍ تبكي على الرف القديم نورها يفضح ملامح صورتك
شامخة والدمع في المنحر لزيم وعينها نارٍ تناظر وجنتك
كنها تشكي من الجرح الأليم ليتها تنظر بقايا طعنتك
لجل تدري أن الهوى طعمه سقيم وتكتشف زيف الهوى هو حرفتك
كنت احسب أن الهوى مثل النسيم ثر هواك إعصار يتبع نسمتك
ما عرفتك تعشق الغدر وتهيم وتعشق لطعنات ظهري حربتك
ما تخاف الله في قلبٍ ((غشيم)) غرته سود العيون وضحكتك
هاربٍ من كل خوانٍ رجيم مستجيرٍ بك أدوّر ظلتك
لين صارت لي على قول الحكيم هاربٍ من القيظ وأدعس جمرتك
عذرك إنك شايْلِه سرٍ كتيم وعذري أني ما اصدق كذبتك
وعذرك الثاني صحيح انه لئيم يوم قلتي الناس فيني لامتك
لامتك...؟! ما تنظر الوجه الوسيم زين خدي وطيب جدي سكّتك
وان قصدت الفعل لي كفٍ كريم وأنتي أدرى كم وكم كِدْ عزتك
وان قصدتي البأس انا بأسي مديم ما يثنّي عزمي إلا جيّتك
فاحذري يا بنت لو ضاق الحليم وأحفظي قدرك وصوني كلمتك
وش عليّ إن سبني واحد نميم إن حسدك البعض شوّه سمعتك
بس ما وقف نباح الكلب غيم وناس نمتني تأكد نمتك
حسبي الله من بلا القول الذميم وعاذلٍ فيني يغير نظرتك
من صدودك ذاب جرحي في الصميم ذاب في القلب الغشيم بسبتك
وفوق خدي ذاب دمعٍ مستقيم وانت ما ذوّبت لاجلي دمعتك
وذابت الشمعة على الرف القديم وانت ما ذابت ملامح صورتك








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأول مرة طارق الشناوي يتخلى عن النقد.. مش جاي عشان يجلد حد ب


.. بوتين يغير القيادات: استراتيجية جديدة لاقتصاد الحرب؟ | بتوق




.. رشا عبد العال رئيس مصلحة الضرائب: لا زيادة في شرائح الضرائب


.. مستقبل الطاقة | هل يمكن أن يشكل تحول الطاقة فرصة اقتصادية لم




.. ملفات اقتصادية على أجندة «قمة البحرين»