الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أغدا ألقاك ؟!.

احمد مصارع

2005 / 10 / 5
الادب والفن


إنها القسوة دائما , ولا أحد يستطيع معرفة السر الذي جعلنا قساة , لا أحد يشفق على أحد , وبدون رحمة , حتى الغائب عنا لا يسلم من ألأذى , فالقسوة من كل نوع , قلوب متحجرة , وعقول سميكة , وعن بذاءة الوجدان فهناك طيس , موفور وفرة الأوحال والمستنقعات الآسنة .
كنت داخل زنزانتي التي لا تختلف عن أي قبر مهمل , فالظلام دامس ولا يمكنني رؤية كفي أثناء النهار , ومن غير المعقول أن لا نشير الى الفرق بين الموت وبقايا الحياة , نعم , فقبري يفتح مرتين أو ثلاث في اليوم , لثوان معدودة , ثم يغلق , ومن غير الإنصاف ألا نذكر السؤال المهم كل صباح , ما اسمك ؟ , ويغلق الكوة المروعة بقوة , ليعود الظلام الدامس يذكر السجين بأنه لم يزل بعد على قيد الحياة .
انه عذاب القبر كما يروى عنه في بعض الديانات الشرقية , ولكنه في السجن الزنزانة المنفردة يحدث قبل أوانه أي في الدنيا قبل الآخرة , وبدون وكالة ربانية يقوم البعض بتطبيقه على البشر وفقا لغريزة القسوة المتضادة , بحيث لا توجد منطقة وسط مابين الجنة والنار , ولذلك يقوم الناس الواقفين بالوقوف طويلا في البرزخ بانتظار نتائج الفرز الفوضوي , فمنهم الى الجنة السابعة , وآخرين الى قعر الجحيم , ولمعرفة تفاصيل الاختيار العشوائي الصارخ , فذلك جحيم آخر .
كان شريط المسجلة يصدح مغردا بصوت عال جدا , ولكنه صوت شجي لكوكب الشرق أم كلثوم :
- أغدا ألقاك ؟.. يا خوف فؤادي من غد؟...
وفجأة تدافع رجال الأمن , كما لوكان صبرهم قد نفذ , أحذيتهم العسكرية تقدمت كمارش عسكري للاندفاع نحو الموت في سبيل الوطن , وبخرطة واحدة قوية دوى لها باب الزنزانة , ولم أكد أقف على قدمي من الإعياء والانكماش من ضيق المكان وقلة الحركة , كنت فريسة تم اصطيادها , وقيدت بالحديد الذي أطبق على معصمي يداي بقوة, فكتمت بقوة فظيعة صرخة ألم , وحين عصبت عيوني بصفحة نعال اسود , أحسست لحظتها بانفتاح باب الجحيم , ولا ادري كيف علقت , بسرعة الكترونية , وراحت قضبان معدنية مجدولة تنتف صوف جلدي , كان ذلك جميلا , لست ادري , إنها تجربة وأجمل مافيها , أن تصل مرحلة فقدان الوعي , حيث تقف روحك وتقول في عطف شديد للاعبين الأقوياء , ما معنى تعذيبكم لهذا الجسد الشقي , إنها لعبة سخيفة وغير مسلية , لم لا تحضرون كرة قدم مثلا , وتلعبون بها , فما لذي يفيد سلخ الجسد بعد موته ؟
حين صحوت من موتي , ولا ادري في أي يوم حدث ذلك , جهدت كثيرا في التحقق وسط ظلام القبر , من أنني كائن حي , هل الدماء الحارة دمائي ؟, هل الورم هو العالق بروحي الشاردة ؟ !.
أين أنا ؟ الظلام والألم فقط , لابل هناك بعض البرودة أحسها تطفي حرارة جسدي , كنقطة ماء تلقى في فم الظاميء التائه في الصحراء الكبرى , وحين عدت للحياة وأبصرت خيوطا واهية من النور عرفت بان من يجرح ليس هو من يداوي , وربما كان المطلوب استبدال جلدي بجلد آخر ؟ هذا لايهم ؟ سيتحول الأمر الى عادة , وهناك الكثير من العادات القبيحة عند الناس .
هذا الأمر عادي بل واقل من عادي , ولكنه لن يكون كذلك قبل أن يجرب المرء بنفسه , كيف يكون بمقدور الإنسان أن يتعايش مع الألم , ويحدث هذا فقط حين تقع بين أيدي رجال قساة ,وستفرح كثيرا من زوال هيبتهم , ورهبتهم , المزروعة في القلب , وقد تعجبكم لعبة الاقتراب كثيرا من الموت ألما .
فقدان الوعي حتى لا يعود هناك الم ؟ من يضمن لمثل هذه العادة أن تكون جميلة ؟!.
من الأفضل أن لا يجرب المرء ذلك , حتى لوكانت الغاية من ذلك تحدي المخاوف التي تتناوشه وتعذبه بقسوة بالغة , ولتحدي الخطر وعبور جسره الطويل للغاية , سيعطش المرء كثيرا ولن يرتوي منه أبدا .
كان ذلك في بداية الصيف , وفي ليلة غاب عنها ضوء القمر , والساعة الآن الثانية بعد منتصف الليل , كنا نشرب الخمر , في هدوء غريب , وقلق خفي حين أغلق أبوعلي زجاجات الخمر , صارخا بجدية صارمة وقاسية :
هيا انهض هيا معي , أسرع , أسرع ...
أغلق المحل , وضغط على دواسة ( الموتوسيكل ) الذي ملأ المكان صخبا وضجيجا , وشدني من كتفي بقوة للذهاب معه , الى أين ؟ !.
إنني مضطر لتتبع قناني الخمر , فلست اقنع بالنشوة الكافية , ولن أفارقها إلا حين أغفو من تعب السكر والثمالة , وحتى أدخل مرحلة انعدام الإحساس بالألم , وتصبح كل الظروف القاسية المحدقة بي وبغضب لئيم , هينة , ولينة , بل وجميلة وهي المرحلة الأخيرة من الطمأنينة الحقيقية .
كانت الريح الباردة مشاكسة للغاية , تعاكس (الموتوسيكل) المنطلق كالشرارة , تبدد الدخان الكثيف والحار الذي يخنق الأنفاس , وتهرب بعضا من نشوى حب الحياة والتعلق الطفو لي بها .
كتمت صرخة دهشة , من المكان الذي توقف عنده ؟! .
- أبو علياء هذه مقبرة , قاتلك الله ؟!.
فأجابني مزدريا :
- أدري , وهل تحسبني غشيما ؟ !. هذا هو مكاننا الطبيعي , هم اليوم أموات , ونحن غدا سنكون معهم ؟
وراح يضع الأغراض على الأرض , وبكل روح تحد صاح بي:
- أتضع سترتك وتجلس , أم أعطيك سترتي ؟
ودفع إلي بقنينة الخمر بمودة عالية :
- اشرب يا رجل ..ستفهم بعد قليل ...
كنت منشغلا أغب من الخمر , وأنفث دخان اليسجارة بقرف , فلم أفهم بعد لم اختيار هذا المكان المقدس , وفيه حرمة للأرواح , ورغم أن الحدائق أفضل الأماكن للسمر , وهذه حديقة للأرواح , لكن هجمة قاسية من الخجل والاستحياء تمنعني من قبول مثل هذه الفكرة السخيفة .
وعادت القسوة في القلب والعقل والوجدان تنخزني بإبرها الدامية , وصرخة تهز كياني ( هذا غير معقول يا رجل ) , لابد من عمل شيء , وسأنتظر ريثما أتتحقق من رزانة أبو علي , ووزن منطقه , وقد تكون هذا هو لقاؤنا الأخير , كل هذا يتوقف على اللحظات القادمة ؟!.
- عم تبحث يا( أبوعلي )؟
رد باستياء عن شريط كاسيت , وفجأة ابتسم , لقد وجدته .
قلت هات اسمعنا , وفجأة غامت الدنيا في عيوني واكفهرت , حين سمعت الصوت من حنجرة كوكب الشرق أم كلثوم ( أغدا ألقاك .. يا خوف فؤادي من غد ؟ ) .
صحت به غاضبا , أعوي كما لوكنت كلب بافلوف في منعكسه الشرطي .
- ما هذا ؟ ما هذا؟ ما هذا ؟
رد علي بكل برود أعصاب :
- هدوء يا أخي دع الأموات يستمتعون بهذا الغناء الشجي ويطربون ....,....
موقف غير معقول , ولكنه كلام معقول , وحلو ومر في آن واحد معا , ولكن لابد من الاحتجاج , وصرخة الزنزانة التي تشبه القبر , وصوفي المتطاير , لحظة ( أغدا ألقاك ) .
ورحت أشرح له , ما حدث لي من عذاب وموت , بصحبة الأغنية التي نستمع إليها بكل روية وهدوء , فقال مبتسما كطفل لئيم :
- ألم تنس بعد ؟.. ذاك عهد مضى , أنت اليوم حر وحي وغدا تموت وغدا ألقاك , وغدا نلتقي مع سكان المقبرة , ولا يدري أي منا أين سيكون موضع قبره ؟.
لم يعجبه صمتي مقهورا , وراح يحاول مواساتي :
- اسمع يااخي , وافهمني .
رددت باستياء :
- وكأنني لا أفهم ؟.
ضحك ولم اغضب ,
- أنت تفهم الحياة اللينة في الكتب , وأنا أفهم الحياة القاسية في الواقع .
هتفت بطرب : أحسنت يا أبو علي ..
وراح يتكلم ساخرا هذا المرة :
- تخيل يا أخي انك كنت قد مت , وهذا قبرك , وأنا اليوم اجلس عند قبرك مؤ آنسا , وحيث لا احد يسليك أو يسمعك صوتا شجيا , وعنك الناس منصرفة , ... قل شيئا ..
الأمر الواقع يتسلل الى النفس بدون سحر , من القسوة الى القسوة ..
وأذكر أن قال :
- الناس في البلدة لا يعرفون الهدوء , حيثما التقيت بهم , والمشاكل تحدق بهم , وتضيق الخناق عليهم , والجميع يشكون من قسوة الحياة , أما الكذب والنفاق والاحتيال و.., فهناك طيس منه , أنت تعرف الحانات ومقاصف اللهو الليلي والعربدات والمجون و... أما هنا ..
قاطعته قائلا :
- نعم , هنا حديقة للأرواح .
هتف منطربا ومنتشيا من الخمر والصوت والهدوء الخفي :
- كم هذه العبارة , معبرة , نعم معبرة للغاية ..
حين عدنا قبل الفجر , قلت له معاتبا :
- أبوعلي , ألسنا أخوة ؟ لتكن هذه الليلة , ليلة غدا لا ألقاك .
فأجاب حزينا للغاية :
- لا, لاابدا , غدا نلتقي ولكن في مكان آخر ولكن بدون خوف .
احمد مصارع
الرقه - 2005








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_