الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات متشرد _3

مصطفى حنكر

2015 / 6 / 13
الادب والفن


هذه جلسة أخرى في مقهى الحي ، ليست كباقي الجلسات .الأجواء ليست بخير ، كما أن السماء مكفهرة و غاضبة هذا المساء . السحب حبلى بمياه لقيطة وصيفية ،تتناطح بعنف فيما بينها محدثة أصوات طلقات مدافع حربية .جلست في طاولة مطلة على الشارع .مازلت أتحرك بمؤخرتي على الكرسي لأجد لها وضعا مريحا في الجلوس حتى سقط النادل واقفا أمامي . "أشنو تشرب أسيدي ". أجبته بلطف : قهوة سوداء خفيفة من فضلك . المشاهد أمامي جد مألوفة .العادة تكرر نفسها دوما على نحو ممل أمامي .شعرت بحمى غثيان سارتر تتفشى في جسدي النحيف ،وأحسست بثقله اليوم أكثرمن أي وقت مضى . بدا ذلك واضحا على وجهي العبوس و الشاحب .لا أحب الضحك إلا قليلا لضرورات يفرضها الصمت .سأسرد الأحداث أمامي ليس كما تحدث ، بل كما أراها أنا ، فلابد أن يزيف الإنسان من الواقع ليراه أكثر إبداعا وقبولا : فهذا شخص يمشي مسرعا جدا في خطواته . لا أدري لم العجلة في مساء بطيء كهذا .أكره البطء صديقي . لا أتحمله إلا من سلحفاة تائهة ،لأن تيهانها البطيء هو الصورة الحقيقية لوجود عبثي لا يعي ذاته .شخص آخر يقطع الشارع بسرعة حيث يبدو البطء هنا ، في طريق كهذه ، نوعا من اللامبالاة بالحياة و استفزازا للموت في الآن معا .إلى الآن كل شيء يومي و روتيني .إلا أن اللمسة التي وهبتها لنفسي طيلة سنوات رفعتني لأحس سموا مزيفا تجاه الأحداث أمامي .شيخ في منتصف الخمسينيات يرتدي وزرة بيضاء كتلك التي نراها عادة أثناء زيارتنا لمريض في المستشفى يحمل سطلا أبيض مليئا بالحمص المسلوق . من وجهه النحيف ، بنتوءان بارزان على خديه، عرفت أن الزمن هو القاتل الذي لا يشعر به أحد ، وكيف يشعر به المسن وهو مضطر أن يصرخ كل يوم في المقاهي : " بواشيش..طايب وهاري ..بواشيش طايب وهاري " ... عطيني شي درهم دلحمص أعمي . وخا بسم الله أولدي..شكرا ،رددت عليه . قاطع بائع الحمص اللطيف تأملاتي بصرخته المبحوحة .فكرت وأنا أتذوق أول حبة حمص مسلوقة أن الطايب وهاري أفضل بكثير مما كنت فيه من شرود قبل قليل . على الأقل أني تخلصت من عبء التفكير دون جدوى .على يميني، شيخ يتحدث بلكنة بدوية في الهاتف . سمعت حديثه من أوله إلى آخره . لا أدري لماذا لم أضع تركيزي في حديث الآخرين هذا اليوم .إنها صدفة أخرى جميلة .المسنون كعادتهم ينجذبون إلى ماضيهم الذهبي .إنه حنين قوي يمجدون به عصرهم .يتحدثون عنه بحرقة وأنين يجعلك تتمنى السفر بالليل خلسة إلى الماضي .لقد كان كل شيء جميلا في الماضي كما يؤكد شاهد من أهله .أما هذا العصر ، فهو عصر انحطاط و تحلل بامتياز : "إخخخخ " . كل شيء بدا فيه سمجا ومبتذلا .الإبتذال هو الذي يقول كلمته الآن صديقي . يتحدث الشيخ عن الحاضر بنبرة شزراء و دونية فلسفية .لا شيء يعجب العجوز اليوم . يعبر عن تقززه ،ولانتمائه إلينا ، بشفته السفلى إذ يدليها باعوجاج نحو الأسفل .صخب بذيئ في طاولة على اليسار ، يجلس فيها شبان طائشون "يخسرون" الكلام ،قابضين على "الستون" . شيء سينزعج منه شيخنا المنزعج أصلا بنفور . الحديث معروف .إنهم يتحدثون عن الساطات والشيرات المدوخات للعقول في صيف حار كهذا .كل يعرض غزوته اليوم على الطاولة ما دام الموضوع بطوليا لهذه الدرجة .أحدهم منعه شروده من حماس المشاركة ب"طرف" قد يكون استدرجه البارحة أو في الأيام التي قبله . الإستخفاف جيد في مثل هكذا محادثات تافهة . إن التفاهة غزت عقول الشباب صديقي . لقد صدق الشيخ في أقواله فيما يخص تفاهاتنا .كنت أود إبلاغه باتفاق متردد معه في هذه اللحظة . لكنه نهض عن انزعاج لما كان يدور في جهة اليسار .السوداء انتهت من الكأس . سيقوم هذا الأبيض لأنه قد بدأ ينزعج أيضا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل