الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زائر الخريف - قصة قصيرة

حيدر نواف المسعودي

2015 / 6 / 14
الادب والفن


قصة
زائر الخريف
حيدر نواف المسعودي

انه الخريف و كان الوقت متأخرا حين طرقت الباب ، توجهت الفتاة ذات العشرين من العمر نحو الباب لترى من الطارق ، تساءلت : من الطارق ، جاءها الجواب من الخارج : أنا ، هل جدك هنا ، إنني صديق قديم جئت من مكان بعيد لزيارته ورؤيته ، فتحت الباب ، كان رجلا في أواسط الخمسينيات من العمر ، يعتمر قبعة على رأسه ، ويرتدي معطفا اسودا طويلا ، حاد الملامح ، وقد بدت على وجهه تجاعيد الزمن بقوة ، اسمر البشرة ، خفيف اللحية ، كث الشاربين ، ويضع نظارة على طبية ذات عدسة صغيرة على عينيه ، نظر الى الفتاة من فوق عدسات نظارته ، وقال : لقد كبرت يا ابنتي كثيرا ، اخبريني هل جدك موجود وهل هو مستيقظ ، أجابت : نعم ، أمهلني لحظة لأخبره بقدومك .
دخلت الى الغرفة حيث كان يجلس جدها على كرسي هزاز قرب الموقد أمام النافذة المطلة على حديقة الدار قرب الموقد يطالع كتابا ما حيث كان يحب قراءة الشعر والروايات والتاريخ ، لم يكن سواه وحفيدته في البيت فهما يعيشان لوحدهما منذ سنوات طويلة ، وكان حينها يعيش وحيدا بعد وفاة زوجته ومن ثم ابنته في مرض عضال وكذلك بعد وفاة ابنه الأصغر في حادث غرق ، إما ابنه الأكبر فهو يعيش في دولة أخرى منذ سنوات ولا يعلم شيئا عن أخباره لانقطاع المراسلة بينهما ، إما ابنته الكبرى أم حفيدته فقد توفيت مع زوجها في حادث سير منذ قبل عشر سنوات ،فانتقلت حفيدته للعيش معه منذ عشر سنوات وهي الآن تبلغ العشرين من العمر وتدرس في الجامعة .
رآها تدخل عليه الغرفة ، بادرها بالسؤال ، من بالباب يا ابنتي ، أجابت : انه رجل يقول انه صديق قديم لك جاء لزيارتك ورؤيتك من مكان بعيد ، قال لها : فليدخل إذن .
عادت الى الرجل الذي كان لايزال يقف عند الباب ، وقالت له : تفضل ادخل ، جدي في انتظارك ، توجهت معه الى الغرفة حيث كان يجلس جدها ، قالت له تفضل : نظر الرجل الى الجد الذي كان يحاول النهوض بصعوبة من على كرسيه كان في أواسط الستينيات من العمر وقد علا الشيب رأسه تماما ، نظر الجد من وراء نظارته محاولا التعرف الى الضيف ، تقدم الضيف نحو الجد ، مد يده إليه ، وقال له كيف حالك يا صديقي ، لقد كبرت كثيرا وعلا الشيب راسك وتبدو متعبا ومنهكا ، قال الجد : نعم صحيح ما تقول ، تفضل اجلس ، ثم التفت الى حفيدته ، وقال لها ، اعدي الشاي لنا يا ابنتي ، أم تريد أن تعد لك العشاء ، أجاب الضيف : لا شكرا لقد تعشيت في الخارج ، فالوقت متأخر وليس وقت عشاء ، لكن الشاي يكفي ، خرجت الفتاة لتعد الشاي .
قال : الجد أخبرتني حفيدتي انك قلت لها انك صديق قديم ، جئت لزيارتي من مكان بعيد ، كان الجد يتكلم وهو يتفحص وجه الضيف وكأنه يحاول التعرف إليه ، لكنني لا أذكرك ولا اذكر إنني رايتك من قبل .
أجاب الضيف وقال:أيها العجوز ، أنا صديقك ، ولدي أصدقاء آخرين كثيرين غيرك لايعدون ، ولكنهم لايحبون صداقتي ، ويعدونني ضيفا ثقيلا أحيانا عليهم .
ابتسم الجد وقال : لا اعتقد انك كذلك .
قال الضيف : كلهم في البدء يقولون ذلك وبعد وقت قصير يغيرون رأيهم ، نعم أيها العجوز أنا صديقك ولقد زرتك مرات ومرات عديد طيلة حياتك ، ثم اخرج غليونه من جيبه ، ووضع في فمه وبدا بإشعاله ، والتفت الى النافذة المطلة على الحديقة ونفث الدخان ، كانت الريح الخريفية في الخارج تنتزع عنوة الأوراق الشاحبة المتبقية في بعض أغصان الشجرة وتحملها بعيدا ورقة تلو الأخرى ، كانت هناك ورقة لا زالت معلقة في احد الأغصان كانت تبدو أنها عنيدة وتحاول التمسك والبقاء في الغصن ، وتقاوم محاولات الريح لانتزاعها وحملها الى البعيد ، لكن يبدو أن هذه المقاومة لن تستمر طويلا ، أمام إصرار الريح العنيدة على انتزاعها من ذلك الغصن ، التفت ثانية نحو الجد ، وقال:يبدو انك نسيتني يا صديقي او لعلك لا تتذكرني الآن ، جميع أصدقائي ينسونني دائما ، مع انه من المفترض إنني على بالهم دائما لانه لايمكن نسياني مطلقا ، فانا زائر كل الأوقات !!!
قال الجد: عذرا يا صديقي، فانا قد كبرت كثيرا وذاكرتي ضعفت وكذلك نظري، ولذلك فانه من المحتمل إنني أكون قد نسيتك، فعذرا.
أجاب الضيف: لا يهمك يا صديقي، عندما تستعيد ذاكرتك ربما قد تعرفني، والآن اخبرني كيف حالك، الشيخوخة أخذت منك كل مأخذ، أتعبتك، كأنك شجرة في خريفها الأخير.
أجاب الجد : نعم ن أمراض الشيخوخة تتعبني جدا ، وكما قلت أصبحت أشبه بشجرة جرداء في خريفها الأخير ، او لعلي ورقة شاحبة في شجرة جرداء .
قال الضيف : ليس ذلك فحسب ياصديقي ، إن الوحدة والهموم والأحزان أتعبتك اكثر ، وخصوصا على من فقدتهم ، فأنت فقدت الكثير من أحبتك الأعزاء ، زوجتك ، وابنتاك ، وابنك الأصغر ، وتفتقد الى ابنك المهاجر منذ سنوات ، والكثير من أصدقائك وأحبتك وأعزائك ، لقد تركوك وحيدا .
أجاب الجد: نعم إنني افتقدهم جميعا واشتاق إليهم كثيرا والى تلك الأوقات الرائعة التي قضيناها معا، لكم تمنيت أحيانا كثيرة لو أن تلك الأزمنة الجميلة تعود ثانية، لكن ذلك مستحيل طبعا، وذلك يسبب لي مرارة وغصة وحسرات قاتلة.
ثم سال الجد الضيف قائلا: ولكن كيف لك أن تعرف كل هذا عني ؟
أجاب الضيف: ا لم اقل لك إنني صديق قديم، بل أنا صديقك الدائم، إنني الحاضر الغائب معك دائما ومع كل الأصدقاء !!!
استغرب العجوز من كلامه ، وقال : لكنني حتى الآن لم استطع التعرف عليك او تذكرك .
أجاب الضيف : لا يهم يا صديقي عما قليل ستعرف من أكون ، والآن اخبرني أيها العجوز ، وأنت في خضم هذه الأحزان والآلام والوحدة وفراق الأحبة والأعزاء ، ما هو اكثر شيء تمنيته ؟
أجاب الجد : الحق ياصديقي ، اكثر ما تمنيته في بعض الأحيان هو الخلاص من كل هذه الأحزان والآلام والعذابات .
سال الضيف: وكيف تتخلص من كل ما قلت ؟
أجاب الجد : بالموت ، نعم تمنيت الموت مرات كثيرة ، لانه الخلاص الوحيد من كل ما أنا فيه من معاناة ، لكنني كنت أتراجع عن تلك الأمنية لأنني لا أريد لحفيدتي الصغيرة هذه البقاء وحيدة بعد موتي ، وتعاني كما عانيت من الوحدة ، فهي لم لها احد غيري .
قال الضيف: والآن يا صديقي العجوز ما رأيك أن تذهب معي في رحلة طويلة !!!
قهقه الجد عاليا وقال : أكيد انك تمزح ، أية رحلة يا رجل وأنا في هذه الحال من التعب والمرض والإعياء ؟!
قال الضيف: ولكنني لا امزح يا صديقي، فانا جئت لاصطحبك معي في رحلة، ترتاح بعدها من كل ما أنت فيه من معاناة !!!
قال الجد : دعك من هذا الكلام ، فانا لن اذهب الى أي مكان ، فلست أريد ذلك ولا أريد ترك حفيدتي وحيدة .
قال الضيف: بل ستذهب !!!
قال العجوز: عجبا، هل سترغمني على ذك ؟
صمت الضيف قليلا ، وأعاد النظر ثانية الى النافذة كانت الريح حينها ، قد انتزعت عنوة الورقة الأخيرة التي كانت معلقة بأحد الأغصان وحملتها بعيدة وقال : نعم ، ولا تنسى انك قلت منذ قليل أن اكثر شيئا تتمناه هو التخلص من مما أنت فيه من أحزان وألام ومعاناة .
قال الجد: نعم قلت هذا، ولكن ما علاقتك أنت بذلك وكيف ستخلصني مما أنا فيه ؟
أجاب الضيف : أنا ياصديقي جئت لمساعدتك وتحقيق أمنيتك التي تمنيتها مرات كثيرة .
قال الجد : ومن تكون أنت ؟
قال الضيف : أنا ما تمنيت !!!
دخلت الفتاة غرفة جدها وهي تحمل الشاي ، وجدته وحيدا على كرسيه الهزاز مستلقيا بسكون وصمت والكتاب على صدره ، ويداه تدلت على جانبي الكرسي ، اقتربت منه ، نظرت في وجهه الذي بدا شاحبا ، وكانت عيناه مفتوحة تنظر اليها وكأنها لاتريد مفارقة وجهها او كأنها ترنو الى شخص ما ، وبدت على وجهه ابتسامة غامضة تنم عن راحة وسعادة بعد طول شقاء وألم .

أواخر آذار / 2012








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب