الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موسيقى الله لغة الصفصاف

علي عبيدات

2015 / 6 / 15
الادب والفن


بدأ العزف في عالم السدرة بعد مخاض كائنة الضلع وانتظار رجل الفخار كناي ينفخ فيه ليشكي غصة الفراق، بعد اقتلاعه من أبعد بلدان الأرض ليُنفّخ فيه في اقربها، وكذلك الإنسان الذي جيء به من أعالي الكون واستقر معاقَباً ليشكي لنا قصة تأنيب الضمير وضريبة الغواية. وبين ثقوب الناي وطعم التفاح يتشابه هذا الاختلاف ويهمهمُ نغم.


جاء النغم عويلاً بعد نواح حواء بكامل طاقتها الصوتية من صنيع قابيل بهابيل، ذات قتل، وبين صوت المقتول ونواح البواكي ولد صوت جديد بنفس الآلة البشرية وبرعاية ذات الإله الوحيد في الأصل.


وبعدها عزفت عباب نوح لحن الولد العاق واصاخ التاريخ لوقع خطى أزواج الحيوانات المستأنسة على خشب السفينة كأنها قانون الترحيل وشاهد الحوار الذي عزف به سام لحن "لا" القديمة.

مر المرور طويلا حتى مر إبراهيم بين الجبال مستمعاً لموسيقى الطير المُقطّع على سفوح الشك، ليستريح قلبه، وسكت الطير ميتاً حياً وهدهد إبراهيم على يقينه بعد أن عادت سقسقة الطير بأمر رب الأصوات كلها.

مر المرور على نار أكول يتطاير إوارها عازفاً لحن البرد والسلام، ومرّ صاحب الحنجرة المهولة والحديد اللين وتبعته جنازة الطير وسقف اللحم واستبسّال الهُدهُد بطرفة صوت.

اقتربت سكين الفداء من يعقوب وهي تشق عبث الأعناق ودارت الأرض دوراتها لنسمع راعي النون في ظلمة ثلاثية وأيوب في حسرة الشعر المباع وصرخة لوط الأخيرة قبالة ضيوف الخجل وصدى الجب ومعبر الرؤى صاحب الثمن البخس وهو يناجي السيارة والدلو المعلق بحبل نغمات التمني... وتجمْهرّ صوت.

عزف الأيتام معزوفة الجدار وثار مثار السفينة المخروقة وخوف الشقيّ المقتول في جلبة قداس الموت، ومر النغم بالنغم غير مرة وألف مرة ليضحك النهر عندما احتمل تابوت الطفل الخارج على الصولجان الفرعوني، بينما عزفت آسيا معزوفة هدايا الماء وأنشدّت المرضِعّة لحن الثدي الوحيد.

طار النغم حتى حط بكلمة الله وحول ريبّة الحواريين ونزّاع النخلة والرطب ليعلق النغم على مؤامرة عصاتين تنتصف واحدة أخرى. واستقر النغم بين مخاديف جبل أنهكته الأسرار وارعب المُدثر الذي عزف أوجع الألحان وردد إقرأ.

ماذا لو شاّع النغم بين الناس إزاء الهواء والماء وبمعيّة التراب والنار، لتكون الفلسفة اليونانية القديمة حاضرةً بكامل مهابة أركانها وأصلّ التكوين الذي لا ينكرُّ الموسيقى وتحبَّل به هي الأخرى بين كل قشةٍ ونبع وخلف كل هضبّةٍ ورعشة طيرّ!، للصوت وقع، وللأصوات مواطن أصلّ وبؤرة ترددٍ كونيٍ لا تأفل أقماره ولا تزول شموس صدّاه. حُيّيت يا نغم.

روى الإمام أبي حامد الغزالي وكتابه " إحياء علوم الدين "، عن أهل الله ما فحوّاه" من لم يهزه الربيع وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فاسدُ المزاج وليس له علاج. أما الشافعيّ فروي عنه" من لا يتمتع بجماليات الأنغام، معدوم الحسّ"، ومن هذا أيضاً قول شكسبير في إحدى مسرحياته على لسان شخوصها" إحذر فُلان ..إنهُ رجلٌ خطير.. فسأله شريك حواره عن السبب ليجيب(إنه لا يتذوق الجمال)".



لا شكّ بأن النغم جزءٌ أصيلٌ في نفس وتكوين الإنسان، فالسمع قبل النطق والنطق مقفى ومطول في بدايته كما في بكاء الطفل ولفظ الكلمات السهلة والمنسابة، فمثلاً، لن ترى الطفل يلفظ حروف الحلق إلآ بعد أن يترّع بالأصوات الخفيفة التي رددّها مراراً حتى نما الصوت فيه وتورق صدّاه وصار بوسعه أن يزيد من مخزونه الصوتي، والمهم في هذا أن السمع قبل النطق، لأن تلقي الصوت أصيل في النفس والنطق في مرحلة متأخرة.

أن تتلقى الموسيقى وتنغمس في علو الأصوات وانخفاضها يعني أن تنمي حاستك الجمالية وأن ترى الكون سهلاً منساباً لا تعقيد فيه ويعوّل على أدنى تفاصيلّه بعد أن تخضر النفس بتلقي أعذّب الأصوات وأقربها للنفس. تثور عاطفتك وتدخل الصور والأخيلة إلى قلبك عن طريق أذنك وبينما تتغذى أعمق مخازن عاطفتك وأنت تسمع، فالعبد الصالح يسمع الذكر، والمتصوفة -رضوان الله عليهم- يجلسون جلسات سمع مطولة، لا سيما أتبّاع الطريقة المولوية، وكذلك البوذيين في حديقة الإنصات والزردشتيين في يوم الشمس والأديرة وأعالي فارس والتبت، فالصوت خلود والسمع أول معابر التعلم والتأثر، وعن الموسيقى و"الما وراء" قال نيتشه ان الموسيقى ألغت إحتمال أن تكون الحياة غلطة.

عبرّ النغم، يصلك المعنى المستترّ، على خلاف النطق الذي يعطيك ظاهر المعنى عن طريق البيّان واللغة والحروف فكما يقول هاينرش هاينه: "عندما تترك الكلمات تبدأ الموسيقى". هناك مزجٌ بين ما توّد وما تحرفهُ من نغمات أثناء التلقي لتنتشيّ، فالنغم وسعةٌ وانطباعٌ حارقٌ، وهو قضية روحيّة تخاطب كل إنسانٍ وفق تردده. فالمصيخُ له لن يكون مجرماً ولن يتمتع بالبغض وسيتحلى بالذوق واللطف وينعمُ على الناس بالفن الحقيقي.

يرى إحسان عبد القدوس: "أن الموسيقى الهادئة تساعدك على التفكير في مشكلة، والموسيقى الصاخبة تساعدك على الهرب من مشكلة..". بين التفكير في المشكلة والهروب منها تكمن أوجاع وتأملات ملايين البشر، وكلٌّ له موسيقاه وحرفته بالتكهف والانزواء برفقة نغمه المؤنس، فهل أكثر من هذ.!، حتى أن الساسة تحدثوا عن الموسيقى كقول جيمي كارتر ( رئيس الولايات المتحدة التاسع والثلاثون ). الموسيقى لغة مشتركة يمكن أن تتجاوز الحدود السياسية أو الاجتماعية.

وختاماً، قال فيكتور هوغو: الموسيقى تعبر عمّا لا يمكنك قوله ولا تستطيع السكوت عنه.


علي عبيدات (كاتب ومترجم أردني)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟