الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- لحظة -

أحمد فيصل البكل

2015 / 6 / 18
الادب والفن


أُخبرت أن إحدى قريباتى قد ماتت ، وبلغ الخبر أذني عابرا خاطفا وأنا أقضم كسرة خبز صغيرة أمام أحد برامج الترفيه ، واستولى علىّ الشعور نفسه الذى أحس به حينما أصحو في منتصف كل يوم ، وحالما أخرج وأعود في الميعاد نفسه ، إن تكرار الأعمال نفسها في الأوقات ذاتها يوقظ فيّ شعورا أشبه بما تحدّث عنه الشاعر إميل سيوران واصفا تجربة أرقه ، إنه الإحساس بديمومة العالم الذي لا يبالى ، العالم الذى لا يتوقّف ساحقا في طريقه كل ما يمكن سحقه ، وكأن كل شيء يحدّق مليّا في وجهي بعيون شاخصة ، الوجوه تحدّق ، والشوارع تحدّق ، والجدران تحدّق . ألا يحق للمرء أن يتسائل عن جدوى إدعاء ليبنتز الذى قال إن الوجود أكثر كمالا من اللا وجود !
يبدو لي أنني لا أحيا ، لا أحيا قط ، وإنما أنا في حالة انتظار دائمة ، وكأننى أردّد في دخيلة نفسي : كل ما أعيشه هذا ليس هو الحياة ، إنه حلم ، ولا بد أن هناك ما هو أكثر ، ما هو أكثر كثيرا . وحالما أحس أن ما أعيشه ذلك هو الحياة بعينها ، يستولى عليّ رعب لا حدود له ، رعب لا يُطاق ولا قبل لي باحتماله ، ويبدو لي أن وجودى ليس إلّا ساعات تأكل ساعات ، ووجوه تدفع وجوه ، ومن السخف أن أظن أن حياتي لها وجهة أو هدف . هنالك مثل قديم يقول إن الفلسفة تعكّر ولا تصطاد ، وهذا صحيح ، ولكنهم نسيوا أن يخبرونا عمّا يمكن أن نصطاده ، والواقع أن لا شيء يمكن اصطياده في هذا العالم .
كلما قرأت شخصية زيوسودرا أو أوبانشتيم أو نوح أدركت أن الفكر الميتافيزيقي لديه قوة روحية هائلة يصعب أن تُجتث ، ودوما يُثار فيّ السؤال : إلى أي الأسطورتين أميل ، برومثيوس؟ أم سيزيف؟ الذي خطف النار من الآلهة ليهديها للبشر؟ أم حامل الصخرة الذي يرتقى بها برغم علمه أنها ستظل تسقط إلى الأبد؟ برومثيوس صانع الحضارات الذي اختار الإنسان وآمن به على حساب الآلهة؟ أم سيزيف الذي أذعن لأحكام الآلهة؟ الثقل أم الخفة؟ ونوح الذي هو مزيج من برومثيوس وسيزيف يثير فيّ أيضا تساؤلات لا تنتهي ، فهل تبدأ كل معرفة لي مني؟ أم أن بعض معارفي سابقة عليّ؟ إن كان "الوجود إدراك" بلغة باركلى فلا ريب أن ذلك إنما يورثنا قوة هائلة ، لأن كل قيمة تبدأ منّا لتنتهى عندنا ، والوجود حينئذ يغدو فضاءً خاويا يتوسّل كلمتنا لتملأه وتمتلىء به ، يصبح مشروع لوحه بلا أبعاد محدده ، وإنه لأمر يشبع النفس رغبة ورهبة ، إنه يقرّبنا إلى برومثيوس ، والوجود حينذاك هو تركة ثقيلة لا يقوى أي منّا على حملها والمضى بها ، وهذا العالم فى تلك الحالة هو الفرصة الأولى والأخيرة ، أما إن كان الأمر يختلف عن ذلك ، فيحق لنا أن نسأل هل نحن نسعى لأي شيء لذاته؟ هل يمكننا أن نقفز فوق أنفسنا ؟ هل نتمثّل الكمال لنتخطّى النقص الذي نشعر به يحيط بنا؟ أم أننا نحس بالنقص لأننا خبرنا الكمال من قبل وقد فقدناه ؟ أي هل نتمثّل جنة عدن وبرج بابل وأرض الميعاد لنتحايل على ذلك النقص الذي يقبض على عالمنا، أم أننا نشعر بالنقص لأننا غادرنا من قبل الجنة والبرج والأرض؟ من النقص بدأنا أم من الكمال ؟ وإن كانت أي معرفة لدىّ تبدأ مني ، فهل يمكن أن أقرّر أن بداخلى طاقات لا تتسع لها حياتي ولا يتسع لها الكون ولا تتسق مع طبيعتهما ؟ أذكر أنني رقصت في إحدى المرات مع بعض السائحين الروس ، لم نتحدّث ولم نسمع بعضنا لفرط صخب الموسيقى ، غير أنني شعرت في رفقتهم بألفة لا يمكن أن تكون وليدة لحظة عابرة ، وثمّة لحظات أحس أنها لا يمكن أن تُلتهم وتتلاشى وتُطوى هكذا في تيار الزمن وكأنها لم تكن ، بل إنني اتلمّس في سريرتي حاجة ملحّة لمعرفة مصير هؤلاء الروس الذين لا أعرف حتى أسمائهم . فهل بداخلنا طاقات لا تتسق مع الحياة بطبيعتها التي نعرفها؟ هل نحمّل الحياة أكثر ممّا تحتمل حين نستشعر أن حياتنا خليق بها أن تكون أكثر من لحظات تتتابع وتؤكل في دورات الزمن اللانهائية؟ أم أن مثل تلك الطاقات التي لا يمكن أن تجد إشباعا في عالمنا هذا دليل على عالم آخر مُعد لإشباع هذه الرغائب؟ كيف السبيل إلى السكينة إن كانت حياتى ليست أكثر من تلك اللحظات التي تدفعها غيرها وتلك الوجوه التي تحل محل سواها؟ لا شيء في الواقع أكثر ثقلا من الإحساس بالحضور. وإنني أعجز أحيانا عن تصوّر درجة السذاجة التي كان يتمتّع بها المسيح وجعلته يظن أن بإمكانه حمل آلام الإنسانية كلها على عاتقه! الحق أن تحمّل الذات وتصدّعاتها هو عمل بطولي لا يقدر عليه إلّا قلّة ، فقلق كلها الحياة .. بلا اعتذار لأبى العلاء .
لم يعرف الخيال الإنساني بطلا رومانسيا ومخلّصا من بين كل الأبطال الرومانسيين مثل زيوسودرا السومري أو أوبانشتيم البابلي أو نوح الإبراهيمي ، فرومانسية المسيح الذي شرب من قدح لم يشرب منه غيره كانت من أجل خلاص الإنسان ، ورومانسية جان دارك عذراء أورليان كانت من أجل خلاص شعبها ، الذي لا يمكن أن نعتبره خلاصا وجوديا ، وأما رومانسية نوح فهي ذروة النزعة الإنسانية في أي عصر ، وهي القمة في درج أنسنة الوجود وأنسنة علاقة الإنسان بالطبيعة ، فنوح لم يعنى بخلاص الإنسان فقط كيسوع ، أو بخلاص قومه كجان دارك ، وإنما كان معنيا بخلاص مملكة الأحياء بكليّتها ، وهو يمثّل ذروة الفكر المؤنسن للطبيعة ، لأن الخلاص إن كان مفهوما له معنى ، فهو يظل معنى ينبع من الإنسان ويصب فيه ، وهو الفكر الذي يرفع الإنسان على الطبيعة ، وهو كذلك الفكر الذي يشير إلى إمكانية نفي الأضداد ، أي إمكانية تقدّم التاريخ وتغيير العالم ، ويمكن أن نختلف مع كل ذلك ، ولكن ينبغي أن نسأل هل يمكن أن تكون العبقرية الروحية -إن جاز هذا الوصف- ظاهرة جمعية؟ ومن أين يبدأ الدين و ما هو موضوعه؟ الوجود أم الموجود؟ وإن كان الدين هو سؤال وانشغال بالموجود ، فهل يمكن أن يبلغه من لم ينزل إلى قرارة الجحيم بنفسه؟ ما الذي يمكن أن يقدّمه لنا الأرزقية الذين يهوون الأكل على موائد غيرهم عن الدين غير ما قدمه لنا تيار الوضعية المنطقية عن الفلسفة في القرن الماضي؟ إن الفلسفة التي انحصر دورها لدى هؤلاء في تحليل المقولات العلمية أصبحت لا شيء ، تماما مثلما أن الدين الذي اختزله هؤلاء في الدوران في فلك النص والحرف غدا لا شيء هو الآخر.
لم يأت سورين كيركجارد بجديد حين قال عن المتدينين إنهم يدعون بما يعانيه الآخرون ، فالمتدينين يتحدّثون دوما بلهجة عجفاء لا يبدو عليها أي توتّر ، فحوارهم يتوسّل فقدان الصلة بالجسد وبالطبيعة ، حوار يخلو من الحسيّة والحيوية ، خطاب لا غبطة فيه ، غبطة اليائس في ظل يأسه ، لذلك لا عجب من هلعهم من كل ما يشد الإنسان إلى الطبيعة ، من الرقص والموسيقى وكل ما يوحّد الإنسان مع العالم ، وإنسانهم المجرّد ذاك ليس إلّا وهما قديما ، إنهم ليسوا من الأصالة في شيء ، هم يجترّون خطابهم ، ويجترّون أفكارهم ، ويجترّون وجودهم ، إنهم بلا ملامح ، والمتديّن يعرف أن "الإنسان" يوجد ولكنه لا يعرف أنه هو نفسه يوجد ، ويعرف أن "الإنسان" يموت ولكنه لا يعرف أنه هو نفسه يموت.
إنهم يجذبون الدين إلى العقلانية ، غير أن العقل المتغطرس سرعان ما يلفظ الألوهية ويلفظ الدين ويلفظ الفلسفة ، محيلا العقلانية إلى أيديولوجيا مغلقة ، وحدث كثيرا أن تحدّث أهل الهوس بالعقل والعقلانية عن دفن العلم للإله وللفلسفة وللدين ولكل شيء ، وقد تساءلت محطة الإكسبريس في النصف الثاني من القرن الماضي عن الحاجة لثورة رومانسية جديدة تحد من هذا المد العقلاني الذي أكل كل شيء ، والواقع أن الثورات الرومانسية على العقل لا تتوقّف ، منذ الحركة الهيبية في القرن الماضي ، وظهور من أسموا أنفسهم بال"إيموز" ، وموسيقى الترانس ، كلها تقاليد رومانسية مناهضة للعقلانية التي خنقت الروح الغربية قبل أن تخنق من تأثّروا بها ، وهي تقاليد دينية في جوهرها . ألم يكن فاسلاف نيجينسكي الراقص الكبير الأكثر تديّنا حين قال أنا الله في جسد؟ أو حينما قال إن الله هو نار متّقدة في الرأس؟ ماذا يمكن أن تكون الألوهية إن لم تكن هي الحيوية الأبدية؟ إنني أعرف تلك الإشراقة التي ينبجس نورها في قلبي ، لا أعرفها على وجه الدقّة وإنما أذكرها فحسب ، تلك الإشراقة التي تستبد بي في وقت ما حين أدخل أحد محلات بيع الورود ، ذلك التخشّع والبخوع الباطني الذي يستولي عليّ وأنا اتوسّط الورود ، أحس حينذاك بالتوحّد مع الطبيعة ومع الأشياء ، لا أحس وإنما يفرض كل شيء نفسه عليّ فرضا ، ولا أملك إلّا أن أرغب في تقبيل الورود والأرض وكل شيء. إن كان يمكنني وصف الألوهية بشيء ، ألا تكون هي ذلك الشعور بالرابطة المتوارية في صميم الأشياء؟ إنها لحظة تهديني العزاء العابر لوهميّتي ووهمية كل من أعرفهم . وهي لحظة لا أكثر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا