الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ارتدادات الحرب السورية

بدر الدين شنن

2015 / 6 / 18
مواضيع وابحاث سياسية


كل الحروب التي تتعرض لها الشعوب والدول عبر التاريخ ، لها ارتدادات مؤلمة تضفي على نتائج الحرب ، لاسيما عندما تقاوم لمدة طويلة ، أو أن ميزان القوى ليس لصالحها ، أو تمنى بهزيمة ، تضفي معاناة تتناسب وحجم الخسائر ، في ترميم وإعادة بناء قواها السياسية والفكرية ، وذلك على ضوء التجربة والحاجات الملحة بأولوياتها . وتزداد المهمة صعوبة ، عندما تندمج الصراعات الداخلية مع الحرب الخارجية ، حيث تشترك بعض القوى الداخلية في الحرب المفتوحة على بلادهم ، كما يحصل في سوريا ، وذلك لتحقيق أهداف ذاتية وفئوية تتعارض مع موجبات الحرب الوطنية التي تدعو إلى وحدة الصف الوطني . ما يؤدي إلى تعقيد هذه المهمة وزيادة الالتباس فيها . وتتطلب عند التصدي لها ومواجهتها ، الابتعاد عن الأساليب الشكلية الذرائعية المسوغة والمبررة للمواقف الخاطئة والجرائم المرتكبة .

إن أسوأ الحروب ، هي التي يستبيح فيها ، أبناء الشعب الواحد .. في البلد الوحد .. دماء بعضهم البعض ، وينتهكون قيم الحياة .. وقيم العيش المشترك . ويتعاونون مع الأجنبي الأكثر لؤماً وتوحشاً ، من أجل السلطة والثروة ، ويسهمون في فتح المجال لتدويل خلافاتهم واستغلالها ضد مصالح الوطن .. ومصالحهم الإنسانية هم أيضاً . فيسقط الوطن مرة أخرى تحت الاحتلال والعبودية الأجنبية .

إن الحرب لا تأتي فجأة ، أو بقفزة ، أو بنزوة معزولة عن الواقع والمحيط ، وعن الاحتياجات " الجمعية " والغايات الفئوية والطبقية المتنفذة القابضة على السلطة . إن مقاربة أي حرب كبيرة كانت أم محدودة ، تظهر أن للحرب مقدمات ، وموازين ، تفرزها وتحددها التفاعلات الجمعية محلياً ، وفي المحيط ، وأحياناً ما هو أبعد من هذا القوس . إنها شبيهة بالمولود ، الذي يبدأ جنيناً في الرحم الجمعي ، ثم يعبر المخاض إلى الوجود ، ثم ينطلق كالمارد ليفرض ذاته ، إن لحسم صراع محلي ، أو لعبور الحدود والقارات ، لنشر النفوذ ، ونهب الشعوب الأخرى ، وليعوق التطور الاجتماعي الطبيعي .
وإذا سلمنا جدلاً ، أن الحرب السورية مطابقة ، إلى حد ما ، لهذه المراحل ، إلاّ أنه لو كان مخاضها سوريا بحتاً ، ومستقلاً بالمطلق ، عن التدخل الخارجي ، ربما كانت لم تحدث ، أو لن تحدث بالمستوى الذي يحدث الآن . وقد جرب " الإ خوان المسلمون " الحرب " السورية ـ السورية " مرتين ، في الستينات والثمانينات من القرن الماضي وفشلوا . ولذلك لابد من إضاءة الدور الخارجي في الحرب السورية القائمة ، بإيجاز شديد ،لتأكيده ، وللتذكير بوقائعه ، التي ستجرفها من كل بد ، وبتعمد ، مسارات الحرب .. الدور الذي سرع في زمن الحمل ، وتحكم بالمخاض ، والولادة ، . وبالتالي صار سيد الحرب . ما يسمح بالقول ، أن الحرب السورية ، هي خارجية ومحكومة بمفاعيل وتفاعلات خارجية ، استغلت وركبت نقاط الضعف والصراعات المتراكمة في الداخل ، وجندت من أجلها ، الناقمين ، والمهمشين ، والمغامرين ، والفاقدين للقيم الوطنية .

بدلالة انطلاق معظم القوى والرموز المعارضة ، في بداية القرن الحالي ، لربط التفاعلات السورية من أجل التغيير والإصلاح بحركة العولمة الأمريكية ، إعلامياً ، وسياسياً ، وثقافياً . ثمة قويت هذه الانطلاقة أكثر مع تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك " أيلول 2001 " وقفزت إلى مستويات أعلى مع احتلال أمريكا للعراق " 2003 " . كان سباقاً لافتاً ، لإنشاء اللجان الحقوقية ، ولجان المجتمع المدني في الداخل والخارج بدعم أمريكي ـ غربي سخي . وكان الهجوم على القيم الأيديولوجية عامة ، واليسارية والقومية خاصة ، الذي صار مقدمة ، لنشر ما سمي " الإسلام المستنير .. الديمقراطي " لإضعاف اليسار وقوى المشروع القومي التحرري ، ما أدى إلى اصطفاف كثير من اليسار والتيار القومي ، مع تيار العولمة المفخخة ، والليبرالية الهجينة ، والقوى الإسلامية الرجعية . والتحول إلى احتياط .. وإلى جزء من قوى الحرب لاحقاً .. التي كان يجري الإعداد لها ، والتي هي عند المتحولين مبررة ، لأنها الأسهل والأسرع لإجراء تغيير مطابق لسيرورة العولمة الأمريكية ، التي جثمت بالاحتلال فوق بغداد ، وباتت تسدد أسلحتها نحو دمشق .

في أول العشرية الثانية من القرن الحالي ، سقط الالتباس حول دور الخارج في إشعال الحرب في سوريا . وبدأت التحركات المعبرة عن ذلك تجري علناً ، وبشكل يقدم مصالح وأهداف الخارج الاستعمارية والرجعية على المصالح الوطنية ، في منظومة واحدة . وكانت " استانبول ، والدوحة ، والقاهرة ، وجامعة الدول العربية ، وبروكسل ، وباريس " مراكز الإعلان عن تبني الخارج للحرب في سوريا ، وعن تكفله بكل مقوماتها ، من الرجال ، والمال ، والسلاح ، والإعلام ، والدبلوماسية .

وأسقط العديد من أطراف ورموز المعارضة المطالب والطموحات الشعبية السياسية والمعيشية من اهتماماتهم ، وأسقطوا القيم الوطنية ، حيث صار ولاؤهم المباح " لأردوغان ، وساركوزي ، وحمد القطري ، وآل سعود ، " وبعضهم رحبوا بالدعم الإسرائيلي . هو أهم من ولائهم لوطنهم ، وفكوا أي ارتباط لهم مع المشروع القومي ، وهو المشروع الوحيد في هذه المرحلة للتصدي للمشروع الصهيوني ، ولبناء دولة عربية موحدة قوية ، وأحلوا محله مشروعاً يتخذ من الإسلام المتطرف مرجعية له ومسوغاً لأهدافه المتوحشة .
وتحولت سوريا ، بين سنة وأخرى ، إلى بلد مستباح من قبل دول إمبريالية عدة ، وقوى إرهابية دولية هي بمثابة جيوش برية لهذه الدول . وصار كل من تسول له نفسه المغامرة الوضيعة ، والارتزاق الإجرامي ، أو بجهاد بلا ظلال مقدسة ، يتوجه إلى الجهات الداعمة للحرب ، لتوفير انتقاله إلى سوريا ليفرغ شحناته الرذيلة .

صار من الحقيقة بمكان ، أن هناك في كل الحروب فاعل من مفاعيل الحرب ، يعمل بشكل مستقل عن الخرائط والأوامر الميدانية ، لا يدرك حضوره إلاّ بعد الحرب . ومن يحاول مقاربته أثناء الحرب تعوقه حركة تساقط القتلى والخسائر المادية المرعبة المتكاثرة ، وبعد الحرب تصطدم المحاولة المباشرة ، بالشروخ الاجتماعية والنفسية والدماء الطرية المسفوحة على الأرض . ولا تشذ الحرب السورية عن هذه القاعدة لأنها :
1 - بدأت شكلاً داخلية ، وتحولت سريعاً إلى حروب دولية " بطبعة عقائدية " متخلفة.
2 - هي حرب استمرت ولاتزال أكثر من أربع سنوات ، لم يجر مثيل لها في بلدان عربية أخرى . وتعادل أو قد تتجاوز الزمن الذي جرت فيه حروب عظمى في القرن الماضي .
3 - تشترك فيها عشرات الدول الإقليمية والدولية ، وجيوش إرهابية دولية مستأجرة ، من نحو مئة بلد ودولة .
4 - حرب فرضتها القوى الدولية . وامتناع المعارضة عن الحوار الوطني وتمسكها بإسقاط النظام مرة واحدة أو على مراحل .. دون العودة إلى الشعب .
5 - الخسائر والتدمير والقتلى هي في معظمها الأعلى خسائر الشعب الواحد .. والوطن الواحد .

وهذا ما يجعل الحرب تتحكم بكل المجريات في الأرجاء السورية خاصة ، والإقليمية ، والدولية عامة . لا حزب سياسي ، لا إنسان ، بمنأى عن التأثر بها وبتداعياتها ، الدموية والتخريبية ، من المشتركين فيها مباشرة ، أو عن بعد . بيد أن الشعب السوري هو المحكوم بالدرجة الأولى .. والمتأثر الأكبر .. آنياً .. ومستقبلاً .. عسكرياً .. وأمنياً .. بشكل رئيسي .. وتالياً سياسياً .. واقتصادياً .. وإنسانياً .. واجتماعياً .. ووجودياً . وها هي الحرب في اليمن ، والانقلاب الملكي في السعودية ، وانتخابات تركيا البرلمانية ، وتداعيات مصر الإرهابية ، وبركان لبنان المتصاعد ، والدوخان التآمري الملكي في الأردن ، والمناوشات الإرهابية في أوربا وأمريكا ، مجرد بدايات لما هو أعظم .

لقد بدأت الحرب من أجل ، سلطة ، وسياسة بديلة . فسقطت أو أسقطت .. البدائل المزمع بلوغها .. وسقطت السياسة .. وبقيت السلطة . تحركت المعارضة بأجنحة متكسرة داخلياً ، وبأجنحة مستعارة من الخارج .. فأحبطت قبل أن تحلق .. وانزلقت إلى الأرض المغمورة بالسلاح والألغام .. وتشظت .. وفقدت هويتها .. ومضامينها .. ومبررات وجودها . ولا يخفف من هذا المآل الخاسر ، ما حققه معارضون من علاقات خارجية ، ومن رصيد مالي ملطخ بالدماء . تحرك المثقفون ، وفلسفوا الحرب بمعايير العولمة والليبرالية .. فا بتلعتهم الحرب وتهاوت معاييرهم .

وعليه ن إن ارتدادات الحرب السورية المؤلمة ، ستطال الشعب السوري على كل المستويات الحيوية في حياته اليومية ، وفي احتياجاته الأساسية ، وخاصة المستويات الأمنية ، والاجتماعية ، والخدماتية ، والسكنية ، والثقافية ، والنفسية . غير أن ارتدادات الحرب الأعظم ، هي التي بدأت تطال الآن ، وستطال بصورة أبشع لاحقاً ، الطبقة السياسية السورية ، التي انغمست في غمرة الحرب ، باحثة عن ثروة وسلطة . لتتمكن من القبض على مفاتيح الدولة والاقتصاد . وقلبت ، عمداً ، مقولة " السياسة والحرب " إلى " مقولة الحرب والسياسة " فخسرت السياسة .. وخسرت الحرب . لم تعد تملك مرونة الحوار الوطني ومسؤولياته .. وليس لها سيطرة على القطاع الأكبر من المسلحين . فيما كان المطلوب منها أن تعبر عن ضمير ومصالح المجتمع وبناء وطن موحد قادر على التقدم ، والنمو المتكافئ سياسياً واجتماعياً .

في التاريخ المعاصر ، هناك واقعة تاريخية ، تحسب بامتياز ، معياراً للسياسة والوطنية ، وملاقاة الارتدادات الحربية العدوانية . وهي أن السياسيين في الحكومة السورية في عهد الملك فيصل الهاشمي " 1918 - 1920 " قبلوا إنذار " الجنرال غورو الفرنسي " المكلف باحتلال سوريا . المتضمن الاستسلام وتسليم المواقع الحيوية السورية للقوات الفرنسية . فقط وزير الدفاع رفض الإنذار . وقال : سنقاتل دفاعاً عن الوطن . استهزأ " غورو " بالحكومة السورية وبدأ زحفه من بيروت نحو دمشق ، متذرعاً أن جوابها على إنذاره قد تأخر . سقط السياسيون الحكوميون ووسطهم السياسي . أمام امتحان الشرف الوطني . وهرب " الملك فيصل الهاشمي " تحت حماية الإنكليز ، الذين كلفوه بمهمة ملك على العراق . بالمقابل ، كانت معركة ميسلون .. الملحمة الأسطورية الخالدة .. خالدة ليس ببطولاتها .. وشهدائها وحسب ، وإنما بمعيار الشرف الذي صنعه الجيش السوري وتمسك به في تاريخه اللاحق ، والذي أذهل الفرنسيين باستبساله .

ولما احتل " غورو " سوريا ، واصل سياسيوها الشرفاء تعبئة القوى الشعبية ، وقاوموا ، وانتصروا ، وطردوا الاحتلال ، وانتزعوا الحرية والاستقلال. وما زال الشعب السوري بكل أجياله المتعاقبة ، يتعامل مع ارتدادات حروب وثورات الحرية ضد الأجنبي ، باعتزا ز واحترام ، ويذكرون بحب وتقدير قادة الثورات والحرية "يوسف العظمة ، سعيد العاص ، سلطان باشا الأطرش ، صالح العلي ، رمضان شلاش ، إبراهيم هنانو ، الشيخ محمد الأ شمر " لكنهم لم .. ولن .. يذكروا السياسيين الجبناء والخونة ، الذين قبلوا إنذار " غورو " ثم تعاونوا مع الاحتلال .

ولاشك أن الحرب السورية الراهنة ، سيكون لها ارتدادات على السياسة والسياسيين . والسؤال هنا : كيف سيذكر الشعب السوري ، السياسيين الذين هرولوا طوال سنوات الحرب ، لحشد القوى الخارجية والإرهابية الدولية ضد وطنهم ، وغطوا بسقوف " ثورية " مزيفة جرائم جيوش الإرهاب الدولي ، فيما يستبسل الجندي السوري حتى الموت دفاعاً عن الوطن .. وبالمحصلة فشلوا بتقديرهم ، أن تراكم الخلافات الداخلية ، وردود فعل الشارع ، تصنع ثورة .. وما قاموا به بالتعاون مع الأجنبي والإرهاب الدولي هو " ثورة " .. وفشلوا في توظيف الخارج ليحصلوا على السلطة .. فلا صنعوا " ثورة " ولا كسبوا سلطة .. وإنما وظفهم الخارج لتنفيذ مخططاته المضادة " للثورة " .

إن مجريات الحرب والسياسة في سوريا تمر بحالة استعصاء ، يسهم تخلف وانتهازية معظم الطبقة السياسية ، في استدامتها وتفاقمها .. لاسيما المعرفون عرفياً بالمعارضة . فهي تجتمع .. وتجتمع .. وتصدر بيانات وتصريحات لتأكيد استمرارها المادي ، دون فاعلية مؤثرة بالاستعصاء القائم . ولما تحس بعجزها ترد أسبابه إلى النظام ، أو إلى مناورات الخارج المتلاعبة بها ، وتنأى بنفسها عن المسؤولية الوطنية ، وتربط نجاحها باستسلام النظام في أي لقاء في الخارج ، تحت رعاية أجنبية لمطالبها البادئة ، باستلام كامل الصلاحيات الحكومية ، لتتابع المشوار .. فيما تتواصل الحرب وتتوسع استهدافا تها النارية ، وتتساقط الضحايا والأبنية ، والمقدرات الوطنية ، ويستمتع وحوش الإ رهاب الدولي ، بغنائم الحرب .. والسبي .. وتدفق الأموال الخليجية والأمريكية .


ولقطع هذا المسار العبثي اللا مسؤول ، لابد للشعب من أن يأخذ قضاياه بيده ، ويبدع البديل السياسي الوطني المقاتل ، من جموع الجنود ، والمدافعين الشرفاء عن شرف البلاد . .. من أجل تحرير الوطن من الإرهاب الدولي ، ومن عفن وتراكمات الماضي ، التي لعبت دوراً كبيراً .. في فتح المجال أمام الخارج الأكثر عفناً ، ليتطاول على سوريا الحضارية العريقة .

وعندما الشعب يريد يخضع القدر لإرادته .. وتتكسر القيود المعوقة .. لحريته .. ونهوضه .. وتقدمه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أكبر هيكل عظمي لديناصور في العالم معروض للبيع بمزاد علني.. ب


.. لابيد يحذر نتنياهو من -حكم بالإعدام- بحق المختطفين




.. ضغوط عربية ودولية على نتنياهو وحماس للقبول بمقترحات بايدن بش


.. أردوغان يصف نتائج هيئة الإحصاء بأنها كارثة حقيقية وتهديد وجو




.. هل بإمكان ترامب الترشح للرئاسة بعد إدانته بـ34 تهمة؟