الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حجر

صباح الانباري

2015 / 6 / 19
الادب والفن


حجر
مونودراما مهداة الى مصفى في رحلته الأخيرة
لوحة المسرحية
تطفأ الأضواء، ويسود الظلام أرجاء المسرح. نسمع من خلال الظلام صوتَ محرك ناقلة (بيك أب) مع لغط غير واضح وضجيج بشري. تتقدم الناقلة من عمق منتصف المسرح حتى تتوقف في وسط الوسط. دائرة الضوء التي تحيطها يضيق محيطها شيئا فشيئاً عازلة الدمى السود عن المقاتل المحكوم بالإعدام وهو لا يزال يرتدي زيّه العسكري ويقف في مقدمة الدمى على ظهر الناقلة حاسر الرأس. اشباح من الدمى البشرية نراها بصعوبة على جانبي الناقلة بأشكال مختلفة: بعضها يرفع يده مبتهجاً، وبعضها الآخر يغطي ملامحه الوجوم على الرغم من ابتسامته الغامضة. بعضها في حالة مسير وبعضها الآخر يصفق بحرارة. تعرض على الخلفية (السايكوراما) وقائع المعركة التي اشترك فيها المقاتل بلقطات سينمائية مختلفة:

لقطة عامة : تظهر ساحة المعركة الدائرة بين الطرفين حيث يتبادل الطرفان اطلاق النار الكثيف بالأسلحة المختلفة.
لقطة ترافلبج : التقدم بعدسة الزوم نحو المقاتل الذي ظلّ ثابتا في موضعه القتالي.
لقطة متوسطة : انسحاب القطعة المقاتلة الى الوراء.
لقطة قريبة : المقاتل ينظر في إثر حظيرته. يشير لهم بالانسحاب مشاغلا العدو.
لقطة متوسطة : سقوط عدد من القتلى برصاص بندقيته، وتوقف رمي الرصاص المعادي.
لقطة متوسطة : يقرر اللحاق بحظيرته. يخرج من موضعه القتالي راكضا بسرعة كبيرة.
لقطة قريبة : احد جرحى العدو ينهض. يسدد بندقيته نحو المقاتل. يطلق النار عليه.
لقطة متوسطة : يصاب المقاتل بقدمه اليسرى فيسقط أرضاً. ينادي على افراد خظيرته لكنهم يستمرون بالانسحاب. يزحف محاولاً الابتعاد بصعوبة بالغة. يتكئ على بندقيته متوجها الى اقرب بناية أصابها دمار الحرب.
لقطة قريبة : الجريح الذي أصاب المقاتل يشير لجماعة خلفه بالتقدم صوب البناية.
لقطة متوسطة : مجموعة من أفراد العدو يتقدمون صوب البناية بصعوبة. بعضهم يصاب بنيران المقاتل وبعضهم الآخر يستمر بالهجوم. واذ يتفد رصاص المقاتليقتحمون المكان ويلقون القبض عليه. يخرجونه من البناية بالركل والضرب بأخماص بنادقهم حتى يكاد يغمى عليه ثم يجرونهصوب الكاميرا حتى يملأ وجهه الشاشة (كلوز اب) قطع. ينتهي الفلم.
ملاحظة: يمكن لمخرج المشهد السينمائي إضافى عدد من اللقطات التي تتلاءم وطبيعة الحدث.

المقاتل : (من مكانه في الناقلة وهو لا يزال محاطاً ببقعة الضوء الصغيرة)
أنا سائر الآن إلى حتفي، ومفارق كلّ من أحببت. رحلتي الأبدية ستعزلني عن هذا العالم المليء بالشر، والظلام، والظلاميين، وأنا العارف أن أمي ستبكي عليّ بدموع من دم. أكاد لا أرى أحداً أمامي سواها فهي الرحم الذي منه ابتدأتُ حياتي وأحث الخطى لأصل إليه في نهاية المطاف فلا فرق عندي بين رحم الأرض أو رحم أمي فالرحم هو الرحم ولا شيء سواه. حمدا لله أن أبي رجل لا يزال محتفظاً ببعض قوته وجلده على الرغم من شبح العمر الذي يلوّح للشيخوخة بالدنو المبكر، ولا شك عندي أنه سيتعامل مع غيابي برجولة وحكمة كافيتان لإنزال الطمأنينة على قلب أمي.
(يترجل من الناقلة. يوجه كلامه لبعض الدمى في جانبي المسرح)
سأمدد جسمي باسترخاء تام في ذلك الرحم، أعني القبر الذي ينتظرني بلهفة عجيبة وسأغفو بعمق أكثر مما يتصور الموتى.

(يلتفت إلى الدمية التي غادرها قبل لحظات. يحدق فيها ملياً يستقرأ ملامحها)
هيه أنت. لماذا غطت الدهشة ملامحك الشاحبة؟ (صمت) يبدو أنك لم تجرب الموت من قبل. أعني إنك لم تواجهه يوما ما طوال حياتك على الرغم من حضوره المستمر، واقتفائه أثر الحياة في شوارعنا المكتظة بالعار والدمار شأنك شأن السائر في نومه وهو لا ينفك ينظر إلى بقعة ضوء قادمة من اللانهاية. سيطلب منك أخيراً أن تواجهه ولكنك ستبدو لنفسك عاجزاً تماماً لهذا سترتعش أوصالك لمجرد رؤيته ولو لحظة واحدة حسب، وسيصاب قلبك بالعمى، وتشلّ الدهشة أطرافك فترتعش وترتعش حتى تسقط مغشياً على نفسك بين قدميه مثل امرأة هلوك. (صمت) هيه، افق من غيبوبتك المبكرة وأنظر لذلك الرجل.
(يشير إلى الرجل أو إلى الدمية التي تمثل هيئة الرجل وهو يرفع يده ليحيي الدمى السود التي لا تزال واقفة داخل الناقلة)
هل تستطيع أن تقول لي لماذا يحيي ذلك الرجلُ الجرذانَ السودَ مبتهجاً كوني أسيرهم وهو العارف أنني ما قاتلتهم إلا دفاعاً عن حياته البائسة؟
(لا جواب يصدر عن الدمية الرجل)
حسنا أنا أقول لك. ذراع ذلك الرجل تعمل لحالها فهي تدرك رهبة الموت وقسوته الرهيبة القادمة مع هذه الجرذان ولا بد لها ان تتحرك دفاعاً عن الجسد المشدودة إليه بخيط الحياة الرفيع. صدقني لا دخل للأيمان والكفر في هذا فإن وقع بين أيدٍ كافرة كفر، وإن وقع بين أيدٍ مؤمنة بالغ في ايمانه حتى يقي نفسه رهبة الموت التي تتربص للانقضاض على الأرواح الهائمة في شوارع الموت المدلهمة التي اختلط سوادها الحالك بحمرتها الدموية القانية.

(يترك الدمية ويتوجه نحو الرجل المرفوع اليد. يقترب منه. يخفض له ذراعه المرفوعة)
لا تتعب يدك كثيراً فقد مرّت قوافل الظلام متجهة صوب الجسر لا لتعبر عليه إلى حيث نور الحياة وَبهائها الآسر ولكن لتمتحن نفسها من خلالي فتعرف كيف يمكن لمن هو مثلي استقبال الموت ممن هو مثلهم. إنهم مثلك تماماً فمن وقع منهم بأيدينا لم يكن أقل منك خوفاً من مغادرة الحياة على جنح ذبابة. ومنهم من استمرأ الآخرة لما وعد به من حور عين وهو لم يحصل في حياته ولو على مؤخرة بغلة عرجاء سائبة لكنه حالما يلاقي الموت تضيع منه الوعود، ويفر هارباً منه مرتجفاً قابضاً على قشة تنجيه من غرق محتوم لا نجاة منه إلى أبد الآبدين.

(يقترب من دمية أخرى تبدو أقل عمراً من بقية الدمى)
هل تعرف إنهم يختارون الأكثر جبناً والأشدّ رغبة في الاستحواذ على فردوسيات الجمال والإثارة ليرتدوا الأحزمة الناسفة؟ هل أقول لك لماذا؟ لأنها الطريقة الوحيدة التي تسهّل العبور من الحرمان والكبت السادي إلى المجون والنشوة المنتظرة. هذه الطريقة لا تدع لهم فرصة اللقاء مع الموت وجها لوجه ففي لحظة خاطفة (يمثل صوت الانفجار) بُمْ يجد نفسه بين الأحضان الدافئة التي لم يجد أكثر دفئاً منها مذ غادر دفء الرحم متجهاً إلى زمهرير الحياة. الآن قل لي: هل حلمت بفخذ فردوسي، أو نهدين نافرين، أو عجيزة مكورة؟ عيناك تفضحان استسلامك للشهوة فهل تريدها بحزام ناسف أم بشرج مفخخ شرّع له المشرعون، وأعطى المفسرون دليل توسيعه لمن يفخخون؟ لماذا ترتجف وكأنك اوراق شجرة خاوية؟ أخشية من تلك الجرذان البشعة؟ إسمع أنا ذاهب للموت ولن أخشى أحداً منهم بعد أن أرسلت بعضهم للجحيم. قلبك لا يزال مفعماً بالحياة نابضاً بها فلا تدع الخوف يستلبها منك.

(يتركه متوجهاً نحو الدمية التي تصفق بحرارة. يربت على كتفها وهو يبتسم بوقار)
صفّقْ لهم ما شاء لك التصفيق ولكن لتبق عيونك قادرة على التمييز بين الجرذان والقطط فان هذا مدعاة لنجاة روحك من القلق والارتباك الذي وقعت فيهما بغفلة منك. لا يحزنني تصفيقك وانا أموت نيابة عنك فقد سبقني إلى هذا كثيرون غيري، الآن وفي الماضي، بل في كلّ الأزمنة الغابرة. (يبتعد عنه) ربما تحقق هذه الجرذان نصراً هنا أو هناك وربما تستطيع تنصيب نفسها قيّمة على الناس (يلتفت إليه) ولكن هل تعرف كيف سيقيمون الحق عليكم؟
(صمت قصير. المقاتل يهز رأسه علامة الرضا)
بالقتل حرقاً، أو ذبحاً، أو رمياً بالرصاص، أو بالشنق، أو بتمزيق الأجساد وأكل قلوبها النيّئة في طقس شيطاني ولكن بمسميات إلهية.

(يتجه صوب جمهور النظارة)
كثيرون بدأوا بتصديق هذا التخريف المثير: المحرومون والمغتلمون لنار الشبق وجحيم اللذة والمتعة، والجوعى لثمار الجنة، والعطشى لخمورها، ومجونها، وعسلها، ولبنها، وولدانها المخلدين. أما الحالمون بمأدبة إلهية فانهم يستسهلون التفجير حتى وإن حشروا لهم المتفجرات داخل شروجهم. فان تشظوا عند الظهر فإنهم سيحظون بمأدبة عشاء كبرى عند الزوال. انظروا لذلك الرجل. لقد اقترب مني كثيراً ليصورني وليحتفظ بصورتي بين ملفاته فهي تعني له الكثير من الاطمئنان والاسترخاء. وتعني أيضاً إنه وضع مسافة كافية بينه وبين الموت فاقترابه وتصويره يزرق القتلة بمورفين الشعور بالانتصار عليّ كما لو أنهم ينتصرون على الناس جميعاً. كنت وهم يطوفون بي في شوارع المدينة أشعر بنبضات بعض قلوب الناس وهي تخفق بقوة حزناً عليّ، ومواساة لي في محنة الموت وهم يظنون أنني أخشى هذه المحنة وأركع تحت سطوتها القاتلة. كان الجميع يظنون ذلك إلا أبي فهو الوحيد الذي اقتنع بنيلي الشهادة في سبيل الحصان الجامح الذي كبا لوجهه فكثرت سكاكينه الغادرة.

(يخرج من جيبه موبايله الخاص. يضرب بعض المفاتيح فيه ثم يتحدث مع والده)
آلو، بويه انا ابنك. اصغ لي إن سمحت. انا هنا وحدي. انسحبت كلّ القطعات. وأنا أذود عن حظيرتي التي انسحبت هي الأخرى. ومن سوء حظي أن اطلاقة اخترقت ساقي فكسر عظمها وبصعوبة بالغة تمكنت من الاحتماء ببناية طالها خرابهم. أنا الآن وحدي وأراهم يتقدمون صوبي ولم يبق لي إلا ستة عشر اطلاقة حسب. هل تستطيع الاتصال بالقيادة كي تنتشلني من هذا المكان. انتظر منك أن تقوم بالاتصال بأسرع وقت. أنا بانتظارك يا أبي.
(يغلق الخط ويعيد الموبايل إلى جيبه. يفكر. ينظر باتجاه العدو)

اللعنة عليهم إنهم يتقدمون نحوي ليضفروا بأسري ولكن هيهات أن أدعهم يفعلون. كلّ إطلاقة في بندقيتي ستخترق رأساً من رؤوسهم الشيطانية الشعثاء. أوصاني أبي أن أكون على جانب من الحذر الشديد ريثما تصل قوة لتنتشلني من هذا اليم الهادر المميت. أراد أن يطلق المزيد من الوصايا لكنني لم أسمح له بذلك فالوقت يمرّ سريعاً كما لو أنه يتسابق معي بسرعة قذيفة حارقة خارقة. المكان هنا غير آمن على الاطلاق ولا أظن أن قوة ما تستطيع إنقاذي فقد بدأت الجرذان تتجمع بسرعة حولي ولا مرد لها إلا بأسري. أعرف إنني سأكون بيّنتهم للناس على الانتصار، وربما لن يقتلوني إلا بعد أن يطوفوا بي في شوارع المدينة. سيختارون كعادتهم رجالاً بقامات طويلة، وأجساد ضخمة، وعضلات مفتولة، وملابس سود نظيفة، ليقفوا إلى جانبي كي يجعلوا الناس يرون قوتهم ويزدرون ضعفي (منتفضاً) لن أكون ضعيفاً وسأجعل الناس في كلّ مكان يستنكرون فعلتهم، وتمزيقهم لجسدي الذي لن يستسلم لهم إلا اذا خانته ساقه العاجزة. (ينتبه لقدومهم) تعالوا إليّ أيها الجبناء الحمقى. سأرسلكم إلى حواري أحلامكم المريضة. فلا سبيل لتنظيف رؤوسكم مما حشر فيها من فتاوى خرافية في الباه والنكاح إلا بقذفها الى مستقر لها في الجحيم.

(يصوب بندقيته نحو العدو متابعاً حركة أحدهم. يطلق النار)
رأس آخر من رؤوسهم يغادر جسده إلى الأبد (يصرخ بأعلى صوته)
اسمعوني أيها الجرذان السود. أنا أدّخر لكلّ رأس منكم رصاصة. فإن كنتم لا تخشون الرصاص تعالوا اليّ فأنا وحدي في هذا الموضع المنعزل. ألا يجرأ واحد منكم على الاقتراب؟

(الصدى وحده الذي يتردد في ارجاء المكان. يعود الى جمهور النظّارة)
لا أحد منهم يجرأ على الاقتراب من الموت على الرغم من يقينهم المطلق أن في موتهم ربح هائل لكمّ هائلٍ من الحواري الحسان (يتوقف قليلاً) الموت سرّ عجيب مع أنني لا أرى أي عجيب فيه، فما هو إلا الجسر الذي يربط بين ضفتي البداهاية أو إن شئتم البداية والنهاية ضمن دائرة تجدد نفسها بنفسها على الدوام.

(يرن جرس الموبايل فيرد عليه بسرعة ولهفة)
آلو ... أبي هل حصلت على معلومة من القيادة؟ (يتوقف بشيء من الدهشة) أخي! حسنا قل لي ماذا ستفعل القيادة؟ هل سترسل فريق انقاذ؟... (مفاجأ) ماذا!... ليس لديهم معلومات عن وجود أحد هنا! اذهبوا إذن إلى كتيبتي... ماذا! ذهبتم ولم تحصلوا على نتيجة! لماذا؟... ليس لديهم أوامر للإنقاذ! ماذا تقول! لا يمكنكم الوصول إلى هذا المكان دون دعم عسكري... افضل الموت وحدي على مغامرتكم بأرواحكم... لا يا أخي لا لا يمكن هذا... لا تنس أرجوك أن وجودي هنا هو للدفاع عنكم، عن حرائرنا اللواتي يطمح العدو إلى سبيهن، واذلالهن، وتحويلهن إلى حاويات لقذاراتهم الشبقية... لات وقت بكاء... سأثبت في موضعي حتى الطلقة الأخيرة... لم يبق لي إلا بضع رصاصات... لا تخف فهم لا يزالون خائفين مني ويرونني القابض على أرواحهم الضالة... نفد مني الماء وأشعر بعطش شديد... لا... لا تفكر بهذه الطريقة الجنونية... سأصمد غير هيّاب بالموت الذي ينتظرني فلقد صرت وإياه قرينين... سأتركك الآن مضطراً... لقد بدأ أحدهم بالاقتراب ثانية... دعني أصطاده يا أخي... إلى اللقاء.

(يرفع بندقيته. يصوب فوهتها نحو العدو. يطلق رصاصة واحدة)
إصابة دقيقة جداً (إلى الجمهور) لن يجرؤا على الاقتراب، ولا سبيل لديهم لمعرفة ما إذا كانت ذخيرتي قد نفدت إلا بإرسال أحدهم للاستكشاف، والموت على يدي طبعاً. هذا يمنحني بعض الوقت فقد تنجح واحدة من محاولات عائلتي في إقناع القيادة بضرورة انقاذي. ربما تظنون أنني متلهف لانتزاع نفسي من بين أنياب النهاية لأستمر في بقائي على قيد الحياة. ولم لا؟ فأنا مثل الجميع أهتم بالبقاء على قيد الحياة فضلاً عن أنني أروم الوصول إلى النهاية. نهاية الجرذان وما جاءوا به من ظلم وظلام، ولكنني في الوقت نفسه لا أخشى الموت بعد أن اكتشفت شيئاً بسيطاً من سرّه الرهيب. شيء كامن بين الخوف منه والاستعداد له. لقد درّبت نفسي عليه حتى اطمأنت له بعد أن تلاشى خوفي منه. لست متصوفاً عارفاً بأسرار الجسد وترويضه حتى ينعدم الشعور عندي بآلامه الرهيبة كما هو حال الحلاج، ولا صاحب عقيدة دنيوية تمسّك بها بيقين ثابت فنسي جسده وهم يقطعونه قطعة قطعة كما هو حال سلام عادل. لقد غاب عندهما الجسد، وحضرت الروح بكلّ فاعليتها وعنفوانها، أما أنا فإنهما حاضران معي وسيغيبان معي بعد أن عودتهما على استقباله بأشكاله الداعشية المختلفة.

(يلتفت إلى الدمية التي تخطو على الرصيف بمحاذات الناقلة يتحرك مقترباً منها)
أراك تحث الخطى نحو المجهول بنشاط استثنائي ولا تعرف أن خطاك تقودك إليه طائعاً. لا تزال في مقتبل العمر ولهذا تتوق لرؤية كيف سيزهقون روحي، وكيف ستفارق الروح وعاءها وملاذها الهش. لحظات الموت مريبة ومربكة فالموت ليس بأكثر من نقطة صغيرة جداً ولكن لها القدرة الهائلة جداً على نقل الروح من عالم حيوي مبهر إلى آخر خامل ولكن أكثر إبهاراً.

(يتقدم نحوه أحد أفراد العدو فيحمل بندقيته ويوجهها الى العدو. يتابع حركات عدوه بفوهة البندقية)
جرذ استكشافي آخر يحاول الاقتراب من موضعي المتهدم. يا له من بائس وهو ينقل خطواته بارتياب. يناور طلقتي التي لم تنطلق بعد وكأنه يراها في يقينه قادمة إليه مشحونة بالموت الزؤام. اقترب أيها الداعشي، ألا تريد الظفر بمأدبة فردوسية مزدحمة بما لذّ وطاب من الطعام والخمر والنساء؟ اقترب إذن. الآن لك ما تريد.
(يطلق فيرديه قتيلاً. يفحص مخزن بندقيته بإخراج الاطلاقات التي فيه. يهز رأسه بيأس)
اطلاقة واحدة حسب. هذا كل ما تبقى لبندقيتي وبعدها سيحدث الذي رأيته وتدرّبت عليه (يتوقف متذكراً) لأرى ما فعله أبي أو أخي، وبعدها سأودع الجميع (يتوقف مستثنياً) أبي، وأخوتي، وأصدقائي، واحبائي وأ... أ...
(يتوقف عن الكلام مبتلعاً الحرفين الأخيرين)
لا... لا... لا أستطيع... أنا عاجز عن توديعها فأنا لا أتحمل دموعها الطاهرة وأنا اشعر بانقباض رحمها لحظة بلحظة، وكأن الرحم يناديني لأحتمي به من ويل هذا الزمن المتهالك.
(يغير قليلا في مجرى الحديث)
لا تستطيع أمي التصديق إنني لا أخشى ويلهم بعد أن شاهدت طقوسهم الشيطانية الرهيبة، ودرّبت عينيّ بإصرار على مشاهدتها. قال جندي في حظيرتي: إنهم يحاولون إخافة الجميع من أجل انتصارهم، ويقيمون من أجل ذلك طقوسهم الشيطانية علانية وجهرا، يقدمون الضحايا والقرابين البشرية فيأكلون قلوبها ويلغون دمها ليستحضروا روح الشيطان التي بها سيفرضون السيطرة على العالم أجمع... هذا هو الحلم المشترك بينهم وبين اسلافهم القدماء.
(ينظر لساعته اليوية)
أوه كدت أنسى مهاتفة ابي. سأرن عليه الآن.

(يخرج موبايله ويضرب على مفاتيحه وينتظر الرد)
آلو... أبي لا اعتقد انكم توصلتم إلى نتيجة ما مع كتيبتي... معذورون هم فالوضع معقّد ومربك للجميع... لا... لم يبق لي إلا اطلاقة واحدة أوفرها لآخر جرذ منهم... بعدها؟ بعدها أذهب معهم إلى حيث يكون الموت بانتظاري... لا تأسف على شبابي يا والدي فلست الوحيد الذي باع شبابه للوطن الجريح. دعني اودعك يا أبي... دعني أتبارك بلحيتك البيضاء كقلبك الكبير، وقل لأمي أنني لم أستطع توديعها على الرغم من لهفتي القاتلة لسماع صوتها الحنون للمرة الأخيرة. أبي سأغلق الخط بعد إذنك لأحطم الموبايل كي لا يظفر العدو بأية معلومة منه قد تمنحه فرصة للتشفّي. بلّغ سلامي لأخوتي وأصدقائي وقل لهم انني لم أطأطئ رأسي للعدو... قبّل لي رأس والدتي يا أبي فما من شيء شدّني لهذه الحياة أكثر من الحبل الذي ربطني برحمها، وأنا عائد إليه الآن... أبي أرى أحدهم قادماً ولا وقت لديّ. لنقل الآن وداعاً للمرة الأخيرة... وداعاً يا أبي... وداعاً...
(يقبّل الموبايل وكأنه يقبّل جبهة أبيه. يخرج منه السيم كارت يحطمه ثم يحطم بعده الموبايل. يرفع بندقيته. يصوب نحو العدو. يدقق التصويب. يطلق فتطفأ الأضواء)


استراليا منتصف 2015

انتهت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل