الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار التاريخي ذلك المريض

نسيم ضاهر

2005 / 10 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


لمن استسلم اليساريون العرب؟ ولماذا انكفأ أصحاب المنهج الماركسي عن ساحة المحاججة وخفتت أصواتهم؟ ما هو حجم الخسائر الفعلي الذي لحق بصفوفهم وإلى من تؤول التركة المفتوحة بغياب الورثة المباشرين؟

هذه عينات من أسئلة تطرح بخفر، تراود العديدين وتلقى أصداء لدى أجيال اعتادت على تلك القراءة النقدية الجذرية لأحوال المجتمع(...). وهي بالتأكيد، تؤرق من بات يصم أذنيه من المكابرين كيفما اختلفت دوافعهم وتوزعت بين أصوليين كنسيين وحالمين مسافرين على مركب النوستالجيا والحنين إلى عهد الاشتراكية المحققة.

لكنها حقائق التاريخ المؤلمة في حقبة امتزج فيها انهيار المعسكر الاشتراكي بجدرانه ومتاريسه باستواء الولايات المتحدة الأميركية في أحادية قطبية جارفة ، أمسك بزمامها محافظون ملؤهم النشوة بالانتصار والاعتداد بنموذجهم سبيلاً أوحد للبشرية جمعاء.

كان من المتوقع تراجع مواقع اليسار حيال ما عصف بالعالم من مُستجدات وارهاصات معولمة. تلك مسلمة بديهية نابعة من تداعيات الاختلال الفاضح في ميزان القوى راهناً، طاولت بالمناسبة، مجمل قوى الممانعة والاعتراض المنضوية في حركة التحرر الوطني سابقاً أو الباحثة عن أممية جديدة في بوتقة مناهضة العولمة. بيد أن اليسار العربي المنهك اصلاً من إشكاليات العلاقة مع الحركة القوميـة وعبء علمانيته "الكافرة " في وسط تقليدي محافظ، إضافة لارتباط معظمه المتحجر بالعجلة السوفياتية، فقد القدرة على احتواء الصدمة والتراجع المنظم، فتمكنت البعثرة منه وفككت أوصاله الحافلة بالمناكفات (...).

وجد القنوط اليساري مقدماته منذ ما قبل انهيار جدار برلين، إتخذ لوناً من المساومة النظرية حيال أنظمة لا ديموقراطية طبقاً لمقولة انتهاج الطريق اللارأسمالي التي خرجت بها المدرسة السوفياتية الباحِثة عن تخريجات فكرية تؤطّر تحالفاً عريضاً. بذلك تبنّـى اليسار العربي نظرية هجينة بمثابة وصفة للعالم الثالث، أسبغت الوطنية على نظم ضعيفة الأهلية (وقمعية في الغالب)؛ واستوجب هذا التحول تطويعاً للفكر الماركسي المؤسس وتغييباً لجملة من المبادىء/القواعد، ساعد في استيعابه واضفاء المشروعية عليه صمت (أو حياء) اليسار وتعاميه عن غياب الحريات وفقدان الحياة الديموقراطية وضمور دور الفرد والمؤسسات في البلدان الاشتراكية المختلفة المرفوعة إلى مكانة المرجع والمثال. وعليه، جنحت أطياف اليسار إلى المهادنة، وغلّبت ظرفية التحالفات الفوقية – بمعنى ضرورات التمحور في مواجهة الغرب – على معاينة الواقع الاجتماعي المعاش (...).

أرهقت علة الجمود عافية الاشتراكية ونقلت حقبة بريجينيف العدوى إلى قطاعات اليسار في العالم، فأضعفت مناعتها وقطعت عليها سُبل التجديد والنشاط الخلاق. لا بل انها نظرت بعين الريبة إلى محاولات وطنية محلية نهضت بها فصائل منفردة، فأجهضت بعضها وحجّمت طموحات وإندفاعة ونتائج بعضها الآخر. مذ ذاك ، بان أن الانحدار لا محال منه، إن العصر الذهبي قد فات، إلى أن حتم تهاوي المنظومة الاشتراكية السريع بعثرة قوى اليسار وحطم الحيِّز الأوفر، من الآمال المعقودة وأودى بصخرة الملاذ.

حلَّت الصدمة بيسار عربي تاريخي مأزوم تخلّى طوعاً عن تحديث هويته الكفاحية وآثر الصنميّة الكيانية بديلاً. ذبلت أفكاره من شدة التماهي مع المثال / المرجع ومسايرة " الانظمة التقدمية" والامتثال للمصالح فوق الوطنية؛ ذوَّبَ ذاته المميزة في بحر من صيغ وحدة قوى شكلية زائفة، مخافة الاضطلاع بالمسؤولية والمجاهرة بالنقد، في ما شبه له انه ذودٌ عن بقائه وقارب نجاته من العزلة. وأخطر من ذلك كله، سكت عن التجاوزات النازلة بمجتمعه دون حسيب ( الا ما نـدر ممّن حاول أو يحاول بجرأة إعادة الاعتبار ورفض الانزلاق المهين فانتهى إلى بُعد وجفاء) (...).

اختار اليسار العربي محاذرة التعارض مع التوجهات القومية الصرفة ورموزها في السلطة لمحو تهمة الشعوبية والأفكار المستوردة ، وإخماد جمر الريبة والعداء. ولئن أنهى مرحلة اتسمت بالصراع والصدام (والتخوين المتبادل) مع المدّ القومي ، فقد خفض سقف طموحاته، وارتضى برفقة الدرب وبدور الشريك الثانوي الناصح الحذر والمقيم تحت عباءة جبهوية أسندت قيادتها لسواه. وفي معظم الأقطار العربية انتقل من زاوية مجافاته للإمبريالية والرأسمالية، إلى لغة تنضح بالعداء للغرب عموماً ، واستعار قوالب قوموية ظناً بأنها تعزز التقارب واللحمة مع حلفائه عوض الإقرار بتعثر حركة التحرر الوطني العربية ونقد الأسباب الذاتية التي أدت إلى إخفاقها وشرذمتها. وفي واقع الأمر، فشل فصيل اليسار التاريخي في تموضعه الجديد ولم يحصد إلا المراوحة والنزف البشري والمزيد من التهميش (...).

تجاوزت كبوة اليسار هذه سِمة المرحلية، وهي تضعه اليوم أمام استحقاق مصيري. فللتجديد الذاتي شروط افتقدها مع الزمن منذ أن أخذ يراوح مكانه، ومواصفات ابتعد عنها بفعل عدم اكتراثه بالمتغيرات الحاصلة على مختلف الصعد في العالم واكتفائه بترداد مقولات مترهلة طُعِّمَت بلقاحات المزايدة اللفظية والسوداوية. وأياً تكن التفسيرات التي يسوقها حول مراد الهجمة الاستعمارية وأطماعها، ووقوفه بالمرصاد لها، فانه، عملياً، وواقعياً ، يخوض حرباً بالوكالة، ضبابية الأهداف، تنمو على ميمنتها الدعوات الشوفينية، وتغذي منحى التقوقـع والانغلاق. واليوم، باتَ اليسار العربي التاريخي أشبه بمقعد ينتظر الفرج الآتي، ويُعوِّل على أعجوبة الخلاص. وكلاعب خسر معظم رصيده لم يبق له ، من منظورهِ ، سوى الرهان.

فاقت مراهنة اليسار التاريخي على قوى لا يمتلكها حدود المعقول، بقدر ما تعمقت أزمته البنيوية واستأصلت البدائل من رحمه. فمن غلوٍّ في استنساب علاجات العقاقيـر "القومية" التي فقدت فاعليتها وصلاحيتها، أمعنَ في الهروب إلى الأمام ومزاملة الحركات الاسلامية بأصولها الإخوانية وفروعها الأصولية. ووجد مقدمات الانعطافة في ضرورة الانفتاح على التيارات الدينية الآخذة بمناهضة الولايات المتحدة (والغرب عموماً) بعيد خروج القوات السوفياتية من أفغانستان. لكنه غالى في تقويم ايجابيات الصحوة الإسلامية ، وانزلق تدريجاً من المقبول نظرياً وسياسياً، إلى تجاهل التناقضات معها والسكوت إزاء عدائها المستحكم للمجتمع المدني والعلمنة وزعمها التفرد بالحقيقة المطلقة. بذا وصل بين الجائز والمحظور، وأغمض الطرف عن سلوكات دموية لينتهي إلى تبرير مجاني للعنف والعشوائية بذريعة الخسائر الجانبية التي تحدثها المقاومة المسلحة المشروعة.

قدر اليسار وعلة وجوده أن يكون خلاّقاً طليعياً تستشرف طروحاته آفاق المستقبل بثقة واعدة للضعفاء، ومتى هرمت همته وخبتت اقتناعاته بالعلم والتطور فتح بابه على مصراعيه لكل التأويلات الغيبية والردّة عن المبادئ. وحيال ممارسة اليسار التاريخي في المرحلة المنصرمة، وقوامها انشداد ملموس لقافلة المنادين بالمؤامرة الدائمة من أرباب القومية الماضوية والتعصب الديني، وجلّهم يحتقر الديموقراطية ويطعن بحسناتها، يميل الاستنتاج إلى سيره في طريق انحداري، لا يملك هذا اليسار مقومات التحكم بمساره. فلقد استسلم عملياً لرائج شعبوي بعصب غيبي استبدادي والتحق بقاطرته على وقع هجاء " الأجنبي" الغريب وإسقاط قيمه.

على هذا المنوال لن يكون بمستطاعه إكمال المشوار ولن يستعيد هيكله بادِرة عافية تذكر. وسيمضي التنازع على اقتسام تركته من داخل مؤسساته ومن خارجها قدماً، وقد يعود لمدارس ومنظمات بعيدة عن تعاليم الاشتراكية حصة ونصيب من "الرجل المريض"(...).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أنا لست إنترنت.. لن أستطيع الإجابة عن كل أسئلتكم-.. #بوتين


.. الجيش الإسرائيلي يكثف ضغطه العسكري على جباليا في شمال القطاع




.. البيت الأبيض: مستشار الأمن القومي جيك سوليفان يزور السعودية


.. غانتس: من يعرقل مفاوضات التهدئة هو السنوار| #عاجل




.. مصر تنفي التراجع عن دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام مح