الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطائفية و الوعي الوطني

محمد كمال

2015 / 6 / 21
مواضيع وابحاث سياسية


هناك معادلة رياضية ثابتة لها مصداقيتها العلمية في تحديد طبيعة العلاقة التي تربط بين عنصرين أو قوتين أو مفهومين ، و طبيعة العلاقة التي تحددها هذه المعادلة هي علاقة عكسية، بمعنى أنه كلما إزدادت قيمة عنصر في المعادلة نقصت قيمة العنصر الآخر في المعادلة الرياضية؛ و العنصران في هذه المعادلة لا تحيدان أبداً و بشكل مطلق عن طبيعة العلاقة العكسية بينهما؛ و هذه المعادلة الرياضية و بكل تجلياتها العلمية تحدد طبيعة العلاقة العكسية بين الطائفية و المواطنة، فكلما زادت المساحة البشرية للمواطنة كلما نقصت المساحة البشرية للطائفية، و العكس صحيح. و هكذا تكون العلاقة كذلك بين الوعي الوطني و الإفتقار إلى هذا الوعي الوطني، و هذا الفرد الذي يفتقر إلى الوعي الوطني فإنه إنسان مسلوب الإرادة و قد سلم أمر إدارته إلى قيادة الطائفة، فهو لا يرى في نفسه مواطناً يعيش في جغرافيا الوطن الذي يضم أطيافاً من الأعراق و الأديان و المذاهب، بل يرى نفسه و هويته و قيمته الانسانية في جزئ من الوطن و هو الإطار الضيق الذي حددته القيادة الطائفية، و لا يرى نفسه جزءً منتمياً و ملتزماً بالمصير المشترك مع مجمل الأطياف في الوطن في حياة إقتصادية و سياسية و علاقات إجتماعية مشتركة و متبادلة؛ فيرى في جزئيتها كلاً مطلقاً بينما بقية الأطياف أجزاء خارج حدوده و يضع بينه و بين الأطياف الأخرى حواجز فكرية و نفسية و بالنتيجة يعيش في حالة توجس دائم ممن هم خارج حدود طائفته.
هذه الحالة الإنغلاقية لم تأتِ جزافاً و لا صدفة و لا خياراً واعياً -من جند التابعين الخانعين- و لكنها حالة تشكلت بفعل علاقات مصلحية في الحياة الإجتماعية و قد تعرضنا لهذه العلاقة في مقالة سابقة تحت عنوان " الإقطاعية الدينية " ، و هذه المصلحة الإجتماعية كانت الدافع لبناء الصرح الطائفي، و هذا يدفعنا إلى طرح سؤال حيوي و ملح ، و هو ، كيف إستطاعت القوى المتنفذة طبقياً على مفاصل الحياة الإجتماعية للقاعدة البشرية في الطائفة من أن تؤثر على هذه القاعدة في سلب إرادتها و توجيه وعيها خارج فضاء المواطنة و حبسها في حدود الطائفة و كأنها الكل المطلق و الحقيقة كلها؟
و قبل الخوض في هذه المسألة الشائكة و التي نحاول جهدنا الوصول إلى أَمَضِّ مفاصلها ، لنستعرض نموذجين من الوعي المُوَجِّهْ في البناء الطائفي و اللاوعي المُوَجَّهْ في قاعدة البناء الطائفي؛
نموذج الوعي المُوَجِّهْ المتمثل في أصحاب المصالح و هم قادة الطائفة ، نقتبسه من الواقع اللبناني و الذي هو واقع سياسي طائفي بامتياز ؛ بعد أن عصفت بلبنان كوارث سياسية و إجتماعية نتيجة للنهج السياسي الطائفي ، طرح الوطنيون العلمانيون من مختلف الطوائف أفكاراً لتجاوز دولة المحاصصة الطائفية إلى الدولة الوطنية الموحدة و الضامنة لمصالح و حقوق الجميع تحت سقف وطن جامع شامل؛
و حيث أنَّ هذا التوجه الوطني المُوَحِّدْ لا يلبي المصالح الطبقية لسدنة الطائفية ، تصدت له القيادات الطائفية و قد جاء على لسان أحد الرموز الطائفية المتنفذة تصريح مباشر و صريح يؤكد على ضرورة المحافظة على النهج الطائفي بالقول : " تبين لي أنَّ إلغاء الطائفية السياسية في لبنان يحمل مغامرة كبرى قد تهدد مصير لبنان أو على الأقل ستهدد إستقرار لبنان ، تخلق ظروفاً للإستقواء بالخارج من هنا و هناك ، و تدخل القوى الأجنبية من هنا و هناك ... أدعوا إلى سحب هذا الموضوع من التداول ... فالمطلوب هو إصلاح نظام الطائفية السياسية و ليس إلغاء نظام الطائفية السياسية". هذا بيان طائفي صريح و واضح، و البيان يحمل معاني كثيرة و من أبرزها إرتباط الكيانات الطائفية بالقوى الخارجية ، الإقليمية منها و الدولية، و كيف أن المراكز الطائفية في صراعها الطائفي السياسي الداخلي لا تجد سبيلاً إلّا الإستقواء بالخارج من أجل قلب موازين القوى في صالحها، و ليس هناك مكان للوطن الجامع في مفهوم الطائفية السياسية، إضافة إلى أنَّ هذا البيان يكشف وعياً عميقاً و مُتَّقِداً لدى قيادة الطائفية عن معنى تجاوز و إلغاء الطائفية السياسية، و تعي أنَّ الدولة الوطنية سوف تلغي مصالحها ، و هكذا فهي تسعى بكل السبل الممكنة من أجل المحافظة على هذه الطائفية السياسية التي تلغي الدولة الوطنية، و جل ما تنادي به في مواجهة مشروع إلغاء الطائفية السياسية هو إصلاح نظام الطائفية السياسية كمن يدعوا إلى إصلاح بيت العنكبوت.
أمّا نموذج اللاوعي المُوَجَّهْ و الذي يمثل القاعدة العريضة من جند الطاعة المطلقة ، هذه القاعدة البشرية المُسْتَغَلَّة التي لا تعي وجودها لذاتها بل تعيش وجودها لمصالح قيادتها التي تستغلها إجتماعياً بذرائع دينية و مذهبية؛ هذا النموذج عَبَّرَ عنه مواطن عادي بسيط طيب في لقاء إذاعي مع الإذاعة البريطانية في برنامج لها حول موضوع " العراق بعد صدام " ، فكان رأي هذا المواطن الطيب : " عراق ما بعد صدام أفضل بكثير من عهد صدام ، لأننا اليوم نستطيع أن نمارس طقوسنا المذهبية بكل حرية"... هذا المواطن الطيب لم يذكر أي شيئ عن التغيير في الحياة الإجتماعية و لا الإقتصادية و لا عن الحريات العامة و لا عن العلاقة العقدية التي يجب أن تربط بين القيادة السياسية و القاعدة الوطنية ، بل إنحصر هَمُّهُ و كل ما تبقى من وعيه المسلوب في حرية الطقوس الدينية.
لقد إستطاعت القيادة الطائفية التي تعي وجودها لذاتها و تعي بالنتيجة مصالحها الطبقية بنزعة من الأنا المتعالية أنْ تُجَيِّرَ الدين و المذهب لصالحها كي تتمكن من إستغلال و سلب إرادة الوعي لدى الغالبية العاملة في الطائفة؛ و لكن كيف حصل هذا السلب المتقن للوعي عند جند الطاعة في الطائفة؟
هذا السلب يبدأ من المراحل الأولى من حياة الطفل ، التربية المنزلية و التي هي في بيئتنا بعيدة عن النهج التربوي السليم، و التعليم في المراحل المدرسية الأولى، و هذه مرحلة حساسة و حرجة تتشكل فيها الملكة الفكرية عند الانسان، و خلال هذه المرحلة يمكن تعطيل الملكة الفكرية عند الطفل و تحويله الى خزينة للتلقي دون تفكير ، و مع تحويل الملكة الفكرية إلى خزينة نقل الوصايا و النصوص المحدودة و المحددة تتحول ملكة التفكير إلى فكر يدور حول نفسه و كأنه ثور الساقية يدور على مدار الساعة و يخدم غيره دون وعي، لأن الملكة الفكرية المختطفة قد فقدت الوعي بالذات ، فالذات أصبحت مشروطة في خدمة أولياء النقل و الوصاية، و الفكر يفقد قدرته العملية في النقد و الإختيار الحر، فيصبح مكبلاً و متلقياً من جهة واحدة ترقى عنده إلى درجة القدسية المعصومة من أي زلل.
نرى أنَّ هذا هو العنصر الأساس و الجذري في بناء جند الطاعة الطائفية ، طبعاً مع وجود عناصر مكملة و مساعدة مثل وجود مراكز التلقين و الحصر المناطقي و الضغط الجماعي ، و أنَّ من العناصر المساعدة بشكل كبير هو معاملة الدولة لتلك الطائفة بنهج طائفي ، كان ذلك بقصد أو دون قصد.
و ما كان بالإمكان تَشَكُّلَ جند الطاعة الطائفية و فقدان الوعي الوطني من دون عملية تربوية و تعليمية قادرة على تعطيل الملكة النقدية في الفكر.
و عندما يدور الفكر في ساقية الفئة أو الطائفة فإنه يكون قد عزل نفسه عن المكون الوطني العام الذي يشمل جميع المكونات البشرية في جغرافية الوطن.
و هذا يمثل تحدياً مصيرياً أمام إستقرار و إزدهار الدولة و التي عمادها الوعي الوطني في ظل عقد إجتماعي مشترك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
رائد الحواري ( 2015 / 6 / 21 - 18:46 )
تحليل منطقي عالمي يفند الفكر الطائفي/القبلي/السياسي الذي يعم المنطقة العربية، فهذا التحليل ينطبق على الاكراد/ الطوائف في العرق، سورية، وليبيا واليمن وفلسطين ولبنان والسودان والجزائر، بمعنى أن كل المنطقة العربية تسير نحو الهاوية اذا ما استمرت في السعي نحو الطوائف،

اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي