الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لا تخنقوا النَفس الثوري بالكلية.. هكذا!

السيد شبل

2015 / 6 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


قل ما تشاء عن انتفاضات "الربيع العربي"، لقد قلنا أكثر منه طوال الأربع سنوات الماضية.. عدد في سوءاتها، وصِف قطاع ممن شاركوا فيها بالمتآمرين والخونة والمردة والشياطين، لقد قلنا في هؤلاء أكثر مما يومًا خطر لك.. لكن رجاءًا لا تخلط أوراق اللعبة على التمام، وانتظر لتتبين أين تضع قدميك، لأن الانتفاضات التي ما وافقنا يومًا على وصفها بالثورات، لافتقادها القيادة ولضبابية مطالبها وللأيادي الخارجية التي أفسدت فيها، ليست سواءًا.. والهبّات الشعبية التي بدأت في تونس ثم مصر حتمًا تختلف في دوافعها وفي هيكلها وفي بنيتها، وهو ما انعكس على نتائجها، عما جرى في ليبيا وسوريا، فجلب الناتو تارة واستعان بكل شذاذ الأفاق من شتى أصقاع الأرض تارة أخرى ليعيثوا في البلاد دمارًا وفوضى. ندفع نحو هذا التمايز، ونحن على ثبات أن الثورة ما عدمت أسبابها في مختلف الأقطار العربية، لكننا نقرّب العدسة هنا، لا لنفصل في الأسباب بل لنشير إلى السيناريو والأداء "الثوري" الذي اختلف في كل مرة. والحكم هنا على نوعية المشاركين وعلى السمة التي غلبت عليهم، وإلا فوجود هؤلاء الذين تتقاطع مصالحهم مع قوى الاستكبار الدولي موجود في كل حالة.

عود على بدء.. ليس هذا مجال التفصيل في كيفية اختراق الانتفاضات العربية، وكيف هزمت من داخلها، قبل أن يتغلب عليها خصومها الخارجيين، وكيف سكن فيها فيروس التمويل والعمالة من أول لحظة، وكيف أمكنه إعياء جسدها وتدمير مناعتها.. ليس هذا مجاله الآن، لقد أفردنا له في أوقات كثيرة مضت.. اللحظة اليوم لحظة المطالبة بأن تظل الحالة الثورية المجتمعية، حيّة وعلى نضارتها، والثورة المجتمعية التي نعنيها هنا تتقارب من وجه مع الثورة السياسة لكنها تفارقها وتتميز عنها من وجوه أخرى كثيرة.

نعم نريد للشعب المصري (والتخصيص هنا لازم) الذي جرت في عروقه الدماء الثورية، وأحس في لحظة خاطفة من الزمان بأنه تغلب على العدم الذي صوره له وهمه، وأن حياته صار لها لون ولونين بل ألوان بعد أن ظلت باهتة لأربعة عقود متتالية، أن يظل هكذا.. وأن لا يعود للتنميط كما كان، يُستنزف في الماديات وينحجب عن المعاني. نعم، نريد للسلطات الأبوية في أي صورة كانت (حتى الدينية الفقهية منها)، أن تتعلم من الهزة التي أحدثها هدير الجماهير في 28 يناير، فلا تتجبر، وأن تحتفظ لنفسها بما يؤهلها للقيام بعملها، دون أن تفرط في الأمر، فتحدث شرخًا بينها وبين من تزعم حمايتهم والحفاظ على مصالحهم.. فلا أحد يقبل الضيم والعزلة والقهر!. نعم، نريد للمناخ العام أن يستقر وتهدأ عواصفه، لكننا لا نريد مواتًا أو ركودًا أو مزيدًا من القبور في صورة منازل وطرقات!.

من ذا الذي يشكك في أن المجتمع المصري بشتى طبقاته ومختلف فئاته، قد اختبر في أوائل عام 2011 تحديدًا، حالةً، لم يكن قد عايشها منذ زمن الأحلام الثورية الكبيرة في الخمسينات.. لا نريد للكلام أن ينسحب إلى الخندق السياسي، فنتوه فيه مع من تاهوا من النخب المرتزقة التي أفقدت تلك اللحظات، بهاءها، بل نريد للضوء أن يظل مركزًا من كل مصادره على المجتمع فقط.. على الموظفين الذين نفضوا غبار عشرات السنين من التلذذ بالقهر والتعايش معه، فهبّوا للمطالبة بحقوقهم وتعمّم حينها شعار "الشعب يريد..." (حتى وإن تم استنزافه)؛ وعلى الطلاب الذين تبدلت أحلامهم، فما صارت قاصرة على الكليات التي صنع لها المحيطون بهم أصنامًا، ما عادت أحلامهم مخنوقة في فلك التسلط على رقاب الخلق بل صاروا يطلبون ذواتهم وتحقيق أنفسهم فيما تمليه عليهم فِطرهم، فصارت طموحاتهم تشبههم ويشبهونها دون أن ينافقوا فيها محيطهم العائلي، وعلى الأصنام التي أُسقطت فما صار لمهنة اعتبارًا مقدمًا على أداء صاحبها، فما عاد منصب الوزير أو المحافظ (مجردًا) يمنح جواز العبور لساحة النجاح، بل أداؤك في منصبك هو وحده من يمنحك هذا؛ وعلى المهمشين الذين ذاقوا فعليًا معنى أن الناس سواسية كأسنان المشط، فعرفت حقوقهم الطريق لأفواههم، وصارت لمطالبهم آذان تستمع إليها.

في لحظة خاطفة، ثار الناس وطرحوا الأسئلة في كل اتجاه وعن كل شيء، وما عاد للتواطؤ والنفاق المجتمعي مكان!. الحب ذاته فعل ثوري، تنفس هواءًا نظيفًا في تلك الأجواء.

حقيقة كان من الظلم وصف ما جرى في يناير على المستوى السياسي بـ"الثورة"، لم يكن من الظلم فقط، بل كان فيه من السوء ما يكفي لنعت صاحب الوصف بكل النعوت السلبية؛ لكن كان من الظلم أيضًا عدم الانتباه عند تقويم ما جرى إلى أحوال المتجمع التي تبدلت في لحظة ما، إلى الروح الجديدية التي نفخت في الأجساد البالية، إلى الأحجار التي قذفت في المياه التي ركدت وتعطنت لسنوات، وفقدت عذوبتها.

نحن نريد أن نفرق بين ما وقع على الصعيد السياسي وبين ما وقع على الصعيد المجتمعي، وإن كان الارتباط بينهما قائم من وجه أن إسقاط الأصنام الصغيرة تباعًأ ما كان ليتم لولا إسقاط رمز السلطة الأكبر (رئيس الجمهورية)، فالاختلاف بينهما حاضر من كون المجتمع أفرز حالته الثورية من ذاته ولم تُملى عليه في شعارات ولم تُحدد له أطر عليه التحرك فيها، فتطرف حينًا واعتدل حينًا آخر، لكن البوصلة لم تنفلت منه، أما الساسة فضاع الصراط السوي من تحت أرجلهم من أول لحظة، واستنزفوا في خدمة شعارات صكها سواهم، وانقسم معسكرهم بين خدام لقوى خارجية ومتواطيء - في أفضل الأحوال - معهم؛ وبناءًا عليه نريد للثورة المجتمعية أن تظل على حالها، وأن توفر القيادة السياسية لها الدماء، وأن تدرك أن التطرف في استخدام السلطات تحت دعوى تحقيق الاستقرار، لا يثمر خيرًا، لأن ثمة شعرة بين الاستقرار والركود، بين الهدوء والموت، ولا نرى عوائد طيبة في قطعها!.

إن الذين ناقشوا الدوافع التي ساقت الشعب المصري لإسقاط حاكمه، فعددوها بين الاستبداد والفساد والعمالة، لم ينتبهوا إلى أن الهبة الشعبية كانت من وجه ما، ضد الملل، نعم الملل.. حالة الموات تلك التي أشاعها النظام حينها بين المصريين، فما صار لشيء طعم، ولا صار لصورة لون، وما عادت الأمور التي يفترض فيها البهجة، تُبهج.. هذا هو بالضبط ما نعنيه.. حافظوا على مقدار "الملح" في الحياة، فلا تحيلوها عدمية!، اتركوا للناس هامشًا كي تخطيء وتتعلم بالتجربة، اتركوا المساحة الكافية لكي يتنفس الخلق وتتميز مسالكهم، فليس المطلوب بأية حال إعداد نسخ بشرية متماثلة.

في دراسة سابقة، ناقشت عددًا من الآليات التي يمكن من خلالها بصدق وواقعية التغلب على جماعة الإخوان، كان من بينها، تفهم نزعة التمرد الطبيعية الموجودة عند الشباب، بل على العكس مباركتها وتوظيفها، وأشرنا إلى أن هذا لن يتحقق إلا إن نجح النظام نفسه في تثوير أدائه، والخروج بقراراته من النمطية والتقليدية، لدرجة أن طالبنا بأن يتحول النظام ذاته إلى معارضة لكل من يسعى للهيمنة على الوطن وسلبه حقه في تقرير مصيره ورسم مستقبله من القوى الخارجية.

حقيقة.. الناس تضيق بالسلطة في كل أشكالها عندما يتطرف أصحابها، لكن تقويض السلطة ليس هدف، بل الاعتدال هو المطلوب، وما النزعات التسلطية التي تستشري هذه الأيام إلا ردة فعل (متطرفة) على أفكار لا سلطوية فوضوية، أردات استغلال الأجواء، ما بعد فبراير 2011. وعليه فالمراد هو الوصول إلى نقطة الاعتدال والاتزان، فلا نسمح للأمور أن تنفلت، ولا ندفع في الآن ذاته نحو الانغلاق والتنميط وخنق النزعات الفردية وقتل الأحلام في مهدها.

لا تخنقوا النفس الثوري بالكلية.. هكذا. هذبوا نبتتها، إن أردتم، لكن لا تقتلعوا النبتة من جذورها، امنعوا مياه النهر من أن تفيض فتدمر، لكن دعوها تسير، حتى لا يتعطن ولا يأسن ولا يفسد المناخ، فتكون البيئة مثالية لنمو جميع أنواع البكتريا من جديد!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر وإسرائيل.. معضلة معبر رفح!| #الظهيرة


.. إسرائيل للعدل الدولية: رفح هي -نقطة محورية لنشاط إرهابي مستم




.. روسيا تعلن اعتراض أكثر من 100 مسيرة أوكرانية فوق جنوب البلاد


.. لبنان.. اغتيال قائد في سلاح جو حزب الله بضربة إسرائيلية| #ال




.. -الصدام يتجدد-.. ما وراء الهجوم المتبادل بين فتح وحماس؟| #ال