الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نخبتنا العاجزة: الدولة لاتصنع السياسة

محمد السعدنى

2015 / 6 / 24
مواضيع وابحاث سياسية


عندما فقد السيطرة على الدراجة التى كان يقودها دون سابق خبرة أومعرفة، بدأ ينزلق بسرعة عالية على منحدر طويل يقطع آخره محل حلوانى بواجهة زجاجية عريضة، تأكد لامحالة أنه مصطدم بها، فراح يصرخ فى هستيريا:"إلحجونا ياخلج الله، نزلوا باب الدكان الحديد، إجفلوا ياولد باب الحلوانى لاتكسر الإزاز، ألحجونا ياناس ياحكومة، إلحقونا ياولد الكلب حيكسر المحل". صوت إرتطام غطى عليه أنين التوجع والفجيعة. لقد "لبس" صاحبنا بدراجته وكامل جسمه المترهل فى فترينة الحلوانى الزجاجية، اختلطت آهاته ودمائه بشظى الزجاج وعجين الحلوى ليقدموا نوعاً غير مألوف من المعجنات. أخذت الصدمة الجميع، لكنهم سرعان مااستفاقوا على ضحكات الذين تابعوا المشهد من بدايته.
نكتة؟ نعم هى بكل المعايير نكتة حريفة ولاذعة، لكن المفاجأة انها قصة حقيقية رواها لى فى جلسة سمر الدكتور أحمد ياسين نصار الأستاذ بطب أسيوط. الواقعة حدثت بالفعل فى إحدى شوارع القبارى بالإسكندرية فى ستينيات القرن العشرين، وكان هو شاهد عليها، واعتبرناها نكتة مضحكة موجعة عن بلدينا الذى مارس النزق والتهور دون استعداد وتدبير، ثم مارس الغفلة والحمق بأن ألقى تبعة غباء تصرفه على خلق الله ثم الحكومة، وكان هاجسه الأوحد عند صراخه هو حساباته الخاطئة عن المكسب والخسارة إذا "لبس فى الزجاج" وكسره، وكان أهون عليه أن يصطدم هو نفسه بباب الدكان الحديد وليكن مايكون، هكذا كان اختياره، وياله من غرابة. وأنت تستطيع أن تقلب النكتة على كل وجوهها، فلن يواجهك مع كل لمحة منها إلا آيات التخلف والحمق والرعونة والتسرع والغباء وقصور الفكر وانحسار النظر وضيق الرؤية، وسطحية المعالجة، وغياب المنطق ومجافاة العقل، و...
تذكرت هذه الحكاية بينما أتفكر فيما آلت إليه أحوال النخبة فى بلادنا، وقد استحالت بشخوصها ونزقها وجهلها وتخلفها وتفاهتها إلى نكتة، تكاد تتطابق مع حكايتنا السابقة فى كل أركانها وملابساتها. ولقد زادت نخبتنا السياسية ونظيرتها الإعلامية وحتى الحكومية على غفلة صاحبنا الذى كاد يقتل نفسه وعاش بعاهات مستديمة بعد الحادثة، أنهم فوق ذلك يضرون بمستقبل هذا الوطن ويعوقون مسيرته بحمق وغفلة وغباء. إذا كنت لاتصدقنى، أعد قراءة النكتة وضاهى وقائعها على مانعايشة من نكسة النخب السياسية والإعلامية والحكومية فى بلادنا، ومدى الخلل البادى فى مجالنا العام، والولع الشديد بكل ماهو تافه وفرعى وسطحى وغير لازم ولا واجب ولا أصيل. هل هذه صورة لمجال عام لدولة تستهدف من داخلها وخارجها، دولة تواجه الإرهاب والعنف والتآمر وتحاك لها الدسائس فى محيطها العربى وإقليمها، دولة يستهدف جيشها ووعيها وحدودها وركائز قوتها ومحاور دورها ومصادر دخلها ووعى وعقل شبابها وصبر جماهيرها ومعاناة شعبها، دولة فى حالة حرب بكل ماجاء فى أدبيات التعبئة والحروب الحديثة، ولاتزال النخبة تشغلنا صباح مساء بتصريحات الفريق شفيق وأحاديث الوهم والبطولات الزائفة مع المشير طنطاوى والفريق سامى عنان، وقضية الدكتور أسامة الغزالى حرب وأحمد موسى، والكابتن شوبير وسمير زاهر، وعبدالمنعم أبوالفتوح وهرتلته وهلفطاته، ويوسف ندا وتخاريفه وزكريا عبدالعزيز وأحداث أمن الدولة، وإسفاف الدراما المغشوشة وتدنى مستويات القضايا الهامشية التى يشغلوننا بها وما أغنانا عنها. وسط كل هذا الغثاء وبدلاً من توارى النخبة السياسية المفلسة خجلاً، إذا بهم يرفعون عقيرتهم كل يوم يطالبون الرئيس بحماية الأحزاب ودعمها وفرض الحماية على قادتها ورجالها وتحصينهم ضد النقد، ويقدمون عرائض للرئيس بشأن الديمقراطية والانتخابات التشريعية وتقسيم الدوائر ويعايرون الدولة ليل نهار بغياب السياسة وانسداد الأفق العام والمجال العام أمام الأحزاب، ينتقدون الدولة المستبدة بالنهار ويطالبون السيسى ونظامه بأن يكون ديكتاتوراً يتدخل بليل فى الإعلام والعفو القضائى والتسريبات وماتشات الكورة ودعمهم فى الانتخابات ضد المتأسلمين! ماذا بكم؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أتريدون دولة ديمقراطية بالفعل؟ أم تريدونها تفصيل على مقاس حضراتكم وتلبى كل مطالبكم حتى لو تناقضت مع الأصول والواجبات والإلتزامات والإشتراطات. تطلبون دولة حديثة بمفهوم الدولة الحارسة، أى الحكم بين السلطات والرقيب بالقانون على حركة المجتمع ومؤسساته، أم تطلبون حاكمية الدولة كما كانت مع عبدالناصر والسادات؟ أتطلبون الدولة الرخوة لتعفيكم من الضرائب وتقدم التسهيلات للسطو على أراضى الدولة ومقدراتها، أم تريدون دولة القانون والحريات؟ ماذا تريدون أيها المتلونون المفارقون لكل عقل ومنطق؟. أحد رؤساء الأحزاب يكلمنا عن الاستقلال الوطنى، بينما حزبه هو الذى أتى لنا بمصائب البرادعى، وبهاء الدين والببلاوى الذى نال جائزته بالوظيفة الدولية على حساب مصالح مصر وشعبها. يتشدقون بأن الحكومة منزوعة السياسة وأن الدولة لاتصنع السياسة وتتجاهلها، وأعجب لذلك، السياسة لاتصنعها الدولة، إنما تصنعها مكونات ثلاث: الفاعلين السياسيين، الأفكار، الآليات، وهذه كلها مسئولية الأحزاب والمجتمع المدنى الذين ينبغى أن يصنعوا السياسة ويحركوا المجتمع بطرح الأفكار وتبنى البرامج والمشروعات وتحريك الشارع وقيادة الجماهير، وفرض إطار عمل مؤسسى يحمل رؤية سياسية تحدد للدولة طبقاً لانحيازات الأحزاب الممثلة للأغلبية فى أى إتجاه تتحرك. الدولة لاتصنع السياسة، إنما تمتلك رؤية تستخدم توجهات المجتمع السياسية فى تحقيق الوعى وحشد الجماهير نحو مشروعنا القومى للبناء والاستقلال والتقدم. السياسة مسئولية النخبة وهى التى تحددها للدولة وتفرضها عليها، أما إذا كانت نخبة "فاشلة مفلسة" فاسمع كلام وعكسه ونقيضه وضده ومرادفه وغيره ليأخذوك إلى ماهم فيه من تفاهة وإفلاس.
بصراحة على هذه النخبة العاجزة أن تتوارى خجلاً، إذا ماقارنا حالها مع ماحدث فى تونس، وماذا فعل الباجى قائد السبسى ذو السبعة وثمانين ربيعاً فى مواجهة حركة النهضة "الإخوان" بقيادة الغنوشى، إذ أسس حزباً معارضاً "نداء تونس" استطاع فى خلال أقل من عامين أن يحوز به الأغلبية البرلمانية ويفوز برئاسة الدولة، هو لم يطلب من الدولة أن تنشط السياسة وأن تساعد الأحزاب، وأن وأن، هو بحزبه وكوادره وماطرحه من أفكار وماأداه من نشاط وحركة، رسم سياسة تونس التى يريدها والتى لم تكن ظروفها تختلف عنا كثيراً. فى المقابل، ماذا فعل أبوالغار، وماذا فعل رفعت السعيد، وعمرو موسى، ومصطفى الفقى وأسامة الغزالى حرب وعبدالغفار شكر، وأحمد شفيق، وماذا فعل غيرهم لتغيير معادلة السياسة فى بلادنا؟ وأنا هنا أذكر شخصيات توافر لها تجربة قريبة من تجربة السبسى، لكنه نجح هناك بالجد والعمل، ولازلنا هنا نحرث فى البحر.
الحزب ياسادة، أى حزب تعبير عن مصالح طبقة، أوتوجهات فئة، أوأفكار وطموحات وأهداف جماهير، وفى سبيله للوصول للسلطة عليه أن يصنع سياساته ويقدم كوادره ويكسب انتخاباته ويغير مجتمعه، وليس من وظيفته أبداً التسول من السلطة، أوالتوسل إليها، والأحزاب تصنعها المعارك السياسية وتبلور توجهاتها، ونحن على أعتاب إنتخابات برلمانية، فماذا أنتم فاعلون أيها العجزة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدبلوماسية الأمريكية: أي أمل لغزة ولبنان؟ • فرانس 24


.. هاريس - ترامب: أيهما أفضل للعالم العربي والمنطقة؟




.. تونس: ماذا وراء حبس -صنّاع محتوى- بتهم أخلاقية؟ • فرانس 24 /


.. ما أسباب توقيف طالب فرنسي في تونس بقرار من القضاء العسكري؟




.. تونس: السجن أربع سنوات ونصفا لناشطة تونسية على إنستغرام بتهم