الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اصطياد اللقطات اللونية المدهشة في صحراء نيفادا

عدنان حسين أحمد

2015 / 6 / 25
الادب والفن


هل يمكن تجميد الزمن المتحرِّك والإمساك بلحظاته الهاربة؟ هذا ما تفعله الفنون القولية وغير القولية عادة وإن كانت الغَلَبة لهذه الأخيرة التي تستعين باللوحة والمنحوتة والصورة الفوتوغرافية والفيلم السينمائي وما إلى ذلك من أساليب وتقنيات تُخلِّد اللحظة الفنية الزائلة وتحتفي بها مدى الدهر إن كانت تتوفر على اشتراطاتها الإبداعية التي تُؤثِّر في المتلّقي، وتُسهم في تغيّير ذائقته الفنية.
قامَ المصوِّر الفوتوغرافي الأميركي المبدع جيريمي فلوتو وزوجته الفنانة كاساندرا وارنر التي لا تقل عنه إبداعاً في مجال الفن الفوتوغرافي غير التقليدي الذي يدور في فلك الغرابة السوريالية واللامألوف الفنتازي. قام كلاهما بتصوير عدد من اللوحات الفنية الناجمة عن رشق ألوان سائلة في الفضاء. فهما لا يصوِّران موضوعات تشخيصية، وإنما يحاولان الإمساك باللحظات التجريدية التي تنطوي عليها مصادفة الحادثة الفنية التي يصنعانها في لحظة سحرية منبثقة عن مخيلة عجائبية يشترك في تكوينها الفضاء الخارجي والطبيعة الكونية التي تحيط بنا وإن نأتْ بعض الشيئ عن المناطق الآهلة بالسُكّان. فلقد أختار الفنانان صحراء نيفادا الأميركية هذه المرة مستثمرين مناخها الصافي، ومُوظّفِين طبيعتها الساحرة التي تأسر الألباب.

الغيمة الصفراء
يعتمد الثنائي،فلوتو و ورانر ، على تقنية رشق الألوان السائلة أو قذفها بقوة إلى الأعلى وتصويرها بسرعة فائقة يصل فيها مصراع إغلاق الكاميرا إلى (1/3200) ثانية ومن دون أن يستعملا تقنية الفوتوشوب. لا شك في أن أرضية هذه اللوحة أو سواها من لوحات هذا المشروع مختلفة فتارة تكون رملية، وتارة أخرى مِلْحية، وتارة ثالثة معشوشبة وإن كانت الأعشاب جافة متقصّفة كما هو الحال في "الغيمة الصفراء". وعلى الرغم من عظمة هذا التكوين الذي جمّدته العدسة لكن اللون لا يزال يوحي بالسيلان والحركة.
يرى بعض النقاد الفنيين أن مجمل لوحات هذا المشروع تحمل أصداءً من تجارب الفنانين الذين لعبوا على "ثنائية الطاقة والحركة التي تجعل هذه الأخيرة مرئية"، وهي أشبه ما تكون "بالذكريات المعتقلة في الفضاء" كما قال الفنان الأميركي جاكسون بولوك (1912- 1956) الذي سبقهما في تنفيذ هذه اللوحات، وربما يكون مُلهِمهما الأول إضافة إلى فنانين آخرين استعملوا تقنيات القذف والرّش والتنقيط وصبّ السوائل اللونية على السطوح التصويرية بمختلف أنواعها الجدارية والمعدنية والخشبية والقماشية والورقية لحثّ المُشاهد على تلمّس الحركة في صورة ثابتة. فالتكوين لا يزال سائلاً أو متحركاً حتى بعد جفاف السوائل اللونية المبهرجة.

الموجة الكبيرة
فيما يرى البعض الآخر من النقاد أن جوهر هذه التقنية يعود إلى الفنان الياباني كاتسوشيكا هوكوساي (1760- 1849) المشهور في "فن الرواشم"، وهي الرسوم التي يتم طباعتها على ألواح خشبية. ولعل أبرز أعماله الفنية ذات العلاقة بالموضوع هي لوحة "الموجة الكبيرة في كاناغاوا" ، هذه الموجة التي تُهدد مجموعة من القوارب المحاذية لسواحل مقاطعة كاناغاوا التي يُفترض أنها تسونامي، لكن يُرجِّح البعض الآخر أنها "أوكي نامي" أو "موجة البحر المفتوح" كما هو الحال في جميع مطبوعات هذه السلسلة التي تضم 36 عملاً فنياً تصوّر المنطقة المحيطة بجبل فوجي في ظل ظروف معيّنة. لابد من الإشارة في هذا الصدد إلى أن هذه اللوحة الموجودة في مُتحف "غيميه" في باريس وسواها من اللوحات اليابانية الأخرى قد تركت تأثيرها على عدد من الفنانين الفرنسيين والأوروبيين بينهم دولوز لوتريك، ديغا، كلود مونيه، رينوار، غوغان، فرنز مارك، أوغست ماكة وفان كوخ.
على الرغم من جمالية التكوين المعنوّن "رمال وردية" إلاّ أن ميزته الأساسية هو التنقيط الذي يسوّر الفيغر الذي اتضحت معالمه الكلية بسبب الخلفية التي تداخلت فيها الأرضية الرملية مع السماء الغارقة في زرقتها الأمر الذي يحيلنا مرة أخرى إلى عظمة بولوك وأساليبه الفنية التي تجد صداها في "رمال وردية" و "تلال الصحراء الحمراء" لفلوتو ووارنر وكذلك في "دوّامة جيتي" لروبرت سميثسون وبعض لوحات أندي وارهول التي تستمد ثيمتها من الفضاء المفتوح.
يتضح تأثير بولوك كثيراً في لوحة "الحقل الأرجواني" حيث يتجسد تماماً بُعده التنقيطي الذي يشغل مساحة واسعة من فضاء اللوحة. وفي السياق ذاته يمكن تلمّس تأثيرات الفنان هارولد إدغرتون الذي جلب التصوير العلمي للحركة في الأزمنة الحديثة ويكفي أن نشير إلى صوره المذهلة التي ترسخت في ذاكرة محبي التصوير الفوتوغرافي وبالأخص "ضربة كرة القدم"، "تُويج قطرة الحليب" و "رصاصة تخترق تفاحة" وغيرها من الصور المثيرة للانتباه.

حقول إرجوانية وأعشاب زرقاء
يأخذ بعض التكوينات شكل المنحونات الغريبة الصادمة المنبثقة عن مخيلة فنتازية مجنّحة كما هو الحال في التكوين البرتقالي القائم على أرضية مِلْحية مستوية يبدو فيها الفيغر وكأنه كائن عملاق يهمّ أن ينحني كي يلتقط شيئاً من الأرض المتبّلة بالملح فيما يتناثر رأس التكوين في الخلفية الزرقاء بأسلوب تنقيطي أيضاً يرقِّط الفضاء المفتوح أمام الفيغر الذي يشكِّل مشهداً خاطفاً يذكِّرنا بالرسوم الغرافيتية المعلقة في الهواء.
ومثلما يركزّ المصوران فلوتو ووارنر على المَشاهد الفضائية التي ترتفع عن سطح الأرض بحيث تضطر المتلقي لأن ينظر إليها برأس مرفوع قليلاً فإن هناك لقطات لونية خاطفة تحاول إمساك الدهشة الكامنة في سطح الأرض المعشوشبة التي تغطى معظمها باللون الأزرق فيما تناثرت نقاطه الصغيرة لتحوِّل فضاء اللوحة إلى ما يشبه السماء المرصعة بالنجوم البعيدة المتلألئة التي احتفت بها لوحة "العشب الأزرق".
ربما تكون "تلال الصحراء الحمراء" هي التكوين الأكثر إدهاشاً لأنه أخذ تشكيلات متعددة لفيغرات معقدة تجمع في آنً معاً بين ما هو سوريالي ومستقبلي وتنقيطي على أرضيةٍ وفضاءٍ واقعيين مرشوشين بكرات حمراء تتساقط من هيكل لكائن خرافي مُدهش انبجس من العدم واستقر في لحظة زمنية مهددة بالزوال.
ومهما تعددت المؤثرات على فلوتو ووارنر إلاّ أنهما يبقيان فنانين بارعين في اصطياد اللقطات النادرة التي توحي بالحركة حتى بعد تثبيتها المزمن بعين العدسة التي أفلح أصحابها في الإمساك باللحظات الهاربة التي قد تنفلت من دون توثيق.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ


.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ




.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال