الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


امرأة صينية تدجِّن شراسة الصحراء

عدنان حسين أحمد

2015 / 6 / 28
الادب والفن


لم يحظَ فلم "فتاة عُرضة للخطأ" للمخرج البريطاني كونراد كلارك باهتمام النقاد والصحفيين السينمائيين على الرغم من فوزه بالجائزة الثانية في الدورة السادسة لمهرجان الخليج السينمائي حينما تنافَسَ مع اثني عشر فلماً يمتلك بعضها سويّة فنية عالية مثل "مطر وشيك" لحيدر رشيد، و "وجدة" لهيفاء المنصور، و "بيكس "لكرزان قادر. يا تُرى، ما هي الأسباب الكامنة وراء إهمال هذا الفلم الناجح على عدة أصعدة فنية وفكرية وجمالية؟ هل يعود السبب إلى ثيمته المضببة بعض الشيئ، أم إلى رموزه وشيفراته التي لم تُحَّل، أم لأسباب أخر لم يُتعب النقاد أنفسهم في تتبعها وتحليلها بطريقة علمية ممنهجة؟

الثيمة الكونية
لم يختر كاتب السيناريو ومخرج الفلم البريطاني كونراد كلارك ثيمة محلية بريطانية تدور أحداثها ضمن أراضي المملكة المتحدة، وإنما وقع اختياره على الصحراء الإماراتية بين دبي وأبو ظبي، وأكثر من ذلك فقد ذهب إلى الصين لينتقي الممثلتين سانغ جوان ولوانغ لو اللتين تقاسمتا دور البطولة، إضافة إلى الممثل الفرنسي آرثر مولينير الذي جسّد دور صديق ليفي "سانغ جوان"، كما اختار خمس عشرة شخصية أخرى ثانوية من بلدان أسيوية مختلفة، آخذين بنظر الاعتبار أن الإنتاج مشترك يجمع بين ثلاث دول وهي المملكة المتحدة والصين والإمارات العربية المتحدة. لقد انتبه كلارك إلى هذه الثيمة الكونية التي تضم بين طياتها ثيمات أخرى فرعية لا تقل أهمية عن الثيمة الرئيسة نذكر منها العمالة الأجنبية في دول الخليج، الهجرة، التأقلم مع المجتمع الجديد، الحُب، الحياة الليلية الماجنة، الإصرار على النجاح، الحنين إلى الوطن وما إلى ذلك. وربما أذهب أبعد من ذلك لأتلمّس بعض الموضوعات النفسية التي تشغل أذهان هذه الشخصيات الثلاث التي تعيش في وسط اجتماعي مديني معولم مثل "العزلة الفردية" التي قد تحاصر الإنسان على الرغم من انغماسه في الحياة الاجتماعية اليومية التي لا تخلو من الأحبة والأصدقاء وبعض الناس الحميمين.

بنية الفلم
يوحي هذا الفلم منذ المَشاهد الافتتاحية الأولى بأن الشخصيات الرئيسة الثلاث متصالحة مع نفسها، كما أنها مندمجة مع المجتمع الإماراتي بشكل من الأشكال، فهذا البلد المتسامح لا يريد من الأجنبي الوافد بهدف الإقامة والعمل أكثر من الإلتزام بالقوانين والأعراف والتقاليد المتبعة، وأن منْ ينتهك القانون عليه أن يتوقع عقوية موازية لهذا الانتهاك. فالإمارات تشجِّع فكرة الاستثمار ولا تجد ضيراً في أن تنشئ ليفي ويايا مزرعة للفطر في الصحراء الواقعة بين دبي وأبو ظبي بتمويل من مالهما الخاص الذي كسبتاه بشقِّ الأنفس، سعياً منهما لتحقيق حياة أفضل في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي والعاطفي، لكن هل ستسير الأمور على ما يرام، أم أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن؟ يمكن قراءة هذا الفلم على مستويين، الأول حقيقي يستجلي الجوانب البرّانية الظاهرة للعيان، والثاني مجازي يستغور التسعة أعشار الغاطسة من جبل الجليد. وأظن أن البنية الثانية تكشف أكثر مما يظهره الجانب الواقعي الذي نراه ونسمعه على الرغم من أنّ تفاصيلها محجوبة إلى حدّ ما، لكننا نستطيع أن نتلمسها إذا ما بذلنا بعض الجهد في استكناهها ووضعها تحت المجهر الموضوعي المحايد.
إذاً، ثمة بنية مجازية غير مرئية تقوم على رصد المسافة الافتراضية التي تفصل بين "ليفي" وصديقتها "يايا" من جهة أخرى. وبين ليفي وصديقها الذي تحبه من جهة أخرى. فهذه الشخصيات الثلاث تبدو مثل جزر معزولة ونائية جداً في أوقات الوحدة أو الشعور بالغربة والاغتراب في آنٍ معا. لقد نجحت ليفي في أن تؤسس هذه المزرعة وتديم عملها المتواصل الذي تجاوزت في الكثير من المصاعب المتعلقة بتحسين إنتاج الفطر، وسرعة توزيعه، وجني الأرباح التي تعود بالخير والفائدة على جميع العمال الذين يشتغلون في هذه المزرعة، لكنها على الصعيد الشخصي كانت تفشل في الحفاظ على صديقها الذي أحبته، فهو كثير السفر لأسباب محض عملية تتطلب منه أن يغيب عنها كثيراً، وحينما تعاتبه يستشيط غضباً ويهددها بالرحيل الأبدي وطيّ صفحة هذه العلاقة العاطفية التي لا تخلو من منغصات جدية. فثمة مسافة كبيرة تفصل بينهما، وسوف تكون هذه الهوّة هي السبب في فراقهما إلى الأبد. أما علاقتها بصديقتها الحميمة "يايا" فلا تخلو من مسافة كبيرة تفصل بينهما على الرغم من أنهما تعيشان في شقة صغيرة، وتنامان على سرير واحد، وتأكلان من طبق واحد أيضاً. لقد فشلت ليفي في تتواصل داخلياً مع صديقتها "يايا" لذلك كانت تذهب إلى البحر أو تلجأ إلى تدخين "القدو" وهي آلة شبيهة بـ "الشيشة" كلما شعرت بالألم أو تفاقمت معاناتها الشخصية. أما "يايا" فقد تركت المزرعة وقررت العودة إلى عُلب الليل لأنها تجد نفسها في الرقص والغناء حتى وإن أخذ صيغة عادية مبتذلة تؤمِّن لها هاجس العيش في بلد غريب ومختلف كلياً عن بلدها. ثمة مسافة أخرى ثالثة تفصل بين ليفي وجدتها التي توشك أن تودِّع الحياة. وحينما تتفاقم أوضاعها النفسية لا تسافر لرؤية جدتها إلاّ بعد أن تسدد كل الديون المترتبة عليها فيما يظل خيط الدخان مثل غيمة ضابية تتصاعد ملتفة حولها وكأنها تقول لنا بالفم الملآن "ممكن أن يتحطم الإنسان، ولكن لا يمكن هزيمته!" فالإنسان لم يُخلق للهزيمة إذا كان يمتلك الإرادة والصبر وبعض العناد المطلوب في الظروف الصعبة، وهذا ما فعلته ليفي حينما سددت ديونها، وتخلى عنها صديقها، واستجابت لنداء جدتها الخفي الذي لم نعرف كنهه، وربما يكون هذا الغموض مقصوداً لأنه يحضّ المتلقي على التفكير، ويحفِّزة على المشاركة في صنع الحدث. فيما ذهب صديقها صوب الحياة التي يراها مناسبة له في حلِّه وترحاله، بينما انسحبت "يايا" باتجاه حياتها الليلية المبهرجة وكأنها توحي لنا بأنها تمشي بعكس اتجاه ليفي، وهذه خلاصة دقيقة فليفي حياتها نهارية بامتياز، بينما صار الليل قريناً لحياة "يايا". يا ترى، أي الفتاتين عرضة للخطأ؟ هل أخطأت ليفي حينما تخلت عن صديقها، أم أن "يايا" هي المخطئة حينما تركت العمل الشريف في مزرعة الفطر والتجأت إلى عُلب الليل الماجنة؟ لقد وقفت ليفي على قدميها على الرغم من الديون الكبيرة التي بدأت تسددها تباعاً، ثم قرار الرحيل الذي سوف تتخذه لاحقاً، لكن "يايا" انهارت حينما تركت العمل النهاري لتذهب صوب العمل الليلي الذي لا تفتخر به، ولكنها قد تبدو مضطرة عليه، أما صديق ليفي الذي لم يقدِّم أية تنازلات فقد ضاع في عالمه الخاص محتفياً برحلاته المتواصلة بين عواصم العالم ومدنه الكبيرة التي تؤكد فعلاً بأن العالم قد أصبح قرية كونية. على الرغم من إشارتنا المتكررة لسفر ليفي تلبية لنداء جدتها المريضة إلا أن المخرج قد أسدل الستار على هذا الفلم حينما دفع ليفي إلى السباحة في البحر الذي يوحي من بين ما يوحيه بالتطهّر والتخلص من أدران الحياة وذنوبها إن هي ارتكبت ذنباً، وبالاسترخاء من من ضغط المتاعب اليومية الكثيرة التي أثقلت كاهلها على مدار هذه التجربة الصعبة التي كشفت عن معدنها الأصيل الذي لم ينكسر في أويقات المحن والظروف العويصة المعقدة.

الحزن الشفيف
لم يُرِد المخرج كونراد كلارك أن يدمغ الفلم بنهاية تراجيدية مؤلمة، لكنه غلّفها بلمسة حزن واضحة حينما ترك الصور الأرشيفية للمدينة تترى على الشاشة وهي تختلط بالـ "جينيريك" لأنها تكشف جانباً من المسافة التي مرّت بين الماضي والحاضر، فنحن محكومون بالتقدم إلى أمام سواء حققنا بعض الطموحات والأحلام التي تداعب مخيلاتنا أم لم نحقق منها شيئاً على الإطلاق! جدير ذكره في ختام هذه الدراسة أن نقول بأن المخرج البريطاني كونراد كلارك قد صوَّر عدداً من الأفلام من بينها "للوقت بقية" مع المخرج الإماراتي صالح كرامة، و "متقطّع الأنفاس" عام 2004، و "ضربة الحُب" الذي حاز على جائزة أفضل فلم في "مهرجان بورتوبيلو السينمائي" قبل أن يتحول إلى الإخراج السينمائي وينجز فلم "عربة الروح" عام 2007 وينال عنه جائزة أفضل مخرج سينمائي صاعد في مهرجان "سان سيباستيان السينمائي" في العام ذاته.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد شاكر: كنت مديرا للمسرح القومى فكانت النتيجة .. إ


.. حب الفنان الفلسطيني كامل الباشا للسينما المصرية.. ورأيه في أ




.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال