الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القرية 82 – إلى أكرم النشمي

عبدالله الداخل

2015 / 6 / 28
الادب والفن


1
أشاركك المسير
فبكل نكبةٍ هنا أو هناك
تموتُ بغدادُ مرةً أخرى،
قالوا مِراراً: كُلْ
كُلْ فهذا الصيامُ حرام
لكني عدتُ وإياكَ الآنَ هنا
جئتُ لنمشي معاً
كما اعتدنا، غريبَيْنِ
بأرصفةِ الهمج:
نحنُ الطعام،
إنْ لم أصُمْ
فهل يكون من القلب احتجاجٌ صامتٌ
على اللغة التي كم راوغتْ بين أقدام الطفولة؟
كانت الأعرافُ أشواكاً غريبةً
تحتل ثوانيَّ وساعاتي
فكيف لا أشكُّ بوجبةٍ من السُّم الزعاف وأنت تدري
بغشِّ الثواب لوهم البقاء؟
فلا أظنُّ تَرى وأنت كريمٌ دائماً
منذ الطفولة
كيف تُبقيني الحجارُ على قيد الوجود،
فالثورةُ التي نَسَّغَتْ
من القلبِ بصمتٍ يائسٍ
ينابيعَ المعاني المحرقة
لم تـُعِنْ يوماً على ازدراد الحـَصى
يُضاعِفُها الأُوام
ولي بمَحْجِريَّ حَصاتان مُحرِقتان من مسير الليالي في تضاريس السقوف
2
غضبٌ على كل شيءٍ يخنق قلبي، يضاعفه
غضبٌ عليَّ
اُحِسُّ بقلبي يبتعد
فكيف يوصِلُ الدماءَ إليَّ
فيطرقُ صِدغيَّ؟
ريحُ الخسارة المباغتة
تُلهِبُ الجمرَ الفتيَّ في أُذُنَيَّ
فبغدادُ والبدرُ الذي كان في أفــْق شاطئها
قتيلانِ قُبَيْلَ وصولي
وجهُ بغدادَ الصَّبوحُ
كان ملاذاً لناظريَّ بطلعةِ الفجر الجميل
فصارَ وجهُها طوقَ زهور
ولقلبيَ النغمةَ الأولى بلحن الوطن
وصلتُ لاجئاً لقامتها المَهيبة
كنتُ أدري بعضَ أسرارها
فشِراكُها مُفَتَّحةٌ
يومَ دخولي
فضمّتني في ثناياها المصيبة،
وكان انتصارُ اللهِ يُغضِبُني مذ كنتُ طفلاً
صَبِيّاً يسخر من أقاصيص الخِيام
في صحارى النفط والديانةِ والذباب
وما زال منتصراً على الجميع (هنا أيضاً)
بكل القرى الكبرى التي يحتلها
كما كان أيامَ الكلاب
3
بغدادُ ماتت
وقالوا: كُلْ فهذا الصيامُ حرام،
ولكن قل لي: لـِمَ التبكير في المسرى؟
فتتركُ الأنذالَ هنا يلوكون من جثتي؟
لقد صارَ في كلِّ مَن لم يَـمـُتْ شيءٌ من خيانة،
لِمَ صرتُ هذا العصرَ بعد شروعِكَ المبكّرِ بالسفر
أغار مما يأكلُ الخونة؟
لِمَ صار كلُّ حيٍّ خائناً؟
فرِحوا، كسَبوا
أكلوا، شرِبوا
وكانت في جوفيَ النارُ
فكيف ممن يخونُ أغارُ؟
بكلِّ لقمةٍ ندسُّ لنا شيئاً من خيانة
وفي كل حيٍّ كثيرٌ من الكذِبِ
وهو ظلّ ٌتباطأَ مرةً أمامَ الناظرِين
ثم يمرُّ ويختفي
مغرورٌ بأبعادِهِ، والوعيُ يُثقِلُهُ،
نحنُ أشباحٌ وأوهام
وكلُّ سعادةٍ تثيرُ شكّاً ،
سوى بسمةٍ على وجه الحبيب
تلوحُ لي من توهّجٍ خاطفٍ في زئبق الذاكرة
من صِدْقُ المرايا بقلبي لمعنىً جديدٍ تكاثفَ في مُقلتيَّ
ثم أخلى السبيلَ لرشقةٍ باغَتَـتْني من عنفوان المطر
4
يظل اتفاق الأفـْـقِ والعينين
يبعثُ الريبةَ في المكان
بكل زقاقٍ من قريتي
ريبةً توقظ وجهةً للريح في آذان الخيول
فتصمتُ الطيورُ على الأغصان،
يظل اتفاقُ الأفق والعينين
يُجبِرُني على الشك بكل ما يؤمنون به
على مرِّ الزمانِ
5
تحيا: فأنتَ باقٍ معي
هكذا أحمل الأسباب
لكني وحيدٌ مرتين بهذا المكان الكبير
يغرِّبُ فيه الموتُ غربتي
وها هي الساعاتُ والأيامُ والأعمارُ
من تفاصيل الخيال
عند صدقِكَ الملموس،
فقد بكَّرْتَ في المسرى كثيراً
ومَن بكّرَ في المسرى بهذا الغروبِ
كان أمينا
6
كنتَ أفضل منا جميعاً
وكنتَ أجمل
لأنكَ أعدل،
كنتَ مصرّاً على الكرم
فكنتَ أكرَمَ منا
لأنك أجرؤنا
بكل المدن المزوّرةِ الجبانةِ التي نمرّ بها
مدنِ اللئام
كذلك المدن التي لم نرَها
حيث يزدحم الأنذالُ الصغارُ على عربات الليل
ويجلس اللصوصُ الى موائد الله
ليجترّوا طعامَ الثواب
7
سبقـْــتَنا مرتين
مرةً في ثبات الخطى في المعاني
ومرةً في ثباتِ الخطوةِ الكبرى
لهذا الغروب الكبير،
علَّمـْــتَنا: في السير تحدّي الواقفين
فعرفنا أن مَن ماتَ قبل الخطوة الأولى
قد مات مرتين
لذا فأنت باقٍ بيننا
وباقٍ بعدَنا
تُسابِقُنا فتَسبِقُنا
8
عيناكَ في العاشرة
أكبرُ من عمر الرجولة
تدري كلَّ شيءٍ
(لأنك تذكرُ كلَّ شيء)
رأيتُني فيك يا صِبايَ وأنت تحرسني
واسعَ العينين
حين كان العراقُ كفيفاً
(ولكنْ في جبينِهِ غُرّةُ الجبلِ)
لم يكن قد سملوهُ بعدُ
كان عصيّاً على الفاشست
أمّا المبصِرونَ فاجتيازُ الأفـْقِ يُروى عنهُمُ
بعد الغروب،
كانوا يَرَوْنَ الطريقَ بهذا الليل
في أحلك الساعات
من سرِّ العناد في الأحداق
عنادٍ لا يعود إلى ذاك المكان الذي
يضيع به مَن كلُّ وجههِ عينان
فما سرُّ قتلانا في قوة الإبصار؟
9
في الليل من بغدادَ اُنيرَ لي قمرٌ في الطريق
لكنَّ ذاك الليلَ لم يكن كالليل
كنا مطوَّقين وكانت دبابةٌ تجلس
في فُوَّهةِ الزقاق الأخير
هَتَكتْ بعضَ شناشيلِ محلتنا القديمة
وغابَ "نجارون" كانوا يلمّعون "أثاثَهم"
في شمس الطريق
بأصابعَ داكنةٍ يُحنّيها "اللكُّ" العميقُ بها
كجفافِ دَمِ
وأصابعِ السجناء في السلمان
وكلِّ حسرةٍ زرقاءَ
من اللفيفة التي تهرع الجمرةُ فيها
حتى الثـّـــُمالةِ في نهايتها الحميمة
للأصابعِ والفمِ
10
أتُجْدي دموعُ الوداع الصاخب
بعد ابتداء السفر؟
وهل صَدَقوا في الثناء؟
أم مَن ظلَّ على اتصالٍ صامتٍ دائمٍ
لصقَ أسرار المطر؟
11
كان اللهُ (كعهدِهِ) مبتهجاً
بحمّى انتصاراتِهِ عليَّ، فكيف وصلتُ هناك
هارباً من قرى الخوف والقتلة؟
فجئتُ بغدادَ الفقيرةَ ضيفاً
وما كان لديَّ سواها
كنتُ ادري بأني سأفقدها: يا للخسارة!
آهِ بغداد
يا وطنَ الدين والسجونِ والقـُباب
تموت الحبيباتُ فيها بين الذراعين
تُصلِحُ الأرضُ البُوارُ بذورَها
أمّا السماءُ فلا!
تظل بغدادُ مظلمة ًإذاً
وكراً للثعالب والذئاب
12
النخيلُ والمنائرُ والغبار
وعصافير الغروب
أراها كلَّ يومٍ
ورائحة النهر تأتي مع الدوائر التي تكبرُ نحوي ثم تختفي
ترسمُها على صفحة الماء بأفواهها صغارُ السمك
ثم تأتي نكهة الطين يجلبها
طشيشُ الموج الذي
يلوذ أمامي بأذيال عودته الى الحضن الحميم
13
بغدادُ ذاتُ وجهِ القمر
ضحيةُ الله
تموتُ قبل أن نلتقي
فأموتُ حزناً عليها
وكم من مرةٍ ماتت وكنتُ أدرى بالخسارة
وما زلتُ أنزُفــُني احتجاجاً، دفقةً دفقة
بنبض الثواني منذ الساعة الأولى لغيبتها
حتى قمّةِ الصبْرِ
عند تعلم العينين شكَّهُما الأخير
فتنتقلان من زاويةٍ لزاوية
من تفحصٍ وتطلعٍ
لاتهامٍ
وكنتُ أمتحنُ المصير
واُمعِنُ في النُكرانِ لأيِّ حقٍّ عليَّ وما يُدَّعى
فإني أنا الذي يحاسبُ الربَّ الحسابَ العسير
وهذا اليأسُ يعلِّمُنا من معاني السماء الكئيبة
شيئاً من فرح الأمل
وهل من أملٍ حقاً بهذي السماء المريبة
بهذه الأرض الغريبة
وهذا "القضاء" المريب،
فكيف يأتي؟
14
لكنَّ حبَّ بغدادَ التي تموتُ في كل يومٍ
يظل معلقاً بين القلب والذكرى
خمسونَ آذاراً يُبرعِمُ الشوقُ بها حتى الحجر
حبيبتي بغدادُ الفقيرةُ التي حَمَتني من شِباك الظلام
طيبتُها كانت في تحدّي الخوف
وكم رأيتُ نوراً بعينيها عند نهوضها في الفجر
لتلقي نظرةَ التأكد أني هناك وما زلتُ حياً
وكم نوروزاً توقّد في خدِّ الصِّبا ووجنتِها
وشيءٌ في جبينِها
من طلعة الفجر في أفق نهرٍ
هكذا ضَحِكَ الليلُ بوجهي مرةً
فَحَلَّ بقريتي آذارٌ غريبٌ
وحلّقتُ فوق بحرٍ من زهورٍ بلون السماء
موجُهُ يسابقني تلاّ ًفوقَ تلِّ
والريحُ في أذُنيّ
آهاتُ عِشقٍ
وضحْكاتُ طفلِ،
كانت الأسماءُ عند التواءِ الذاكرة
تعلّمُني صبراً وسرّاً، كالكمين
والأشجارُ والأنهارُ والأطيارُ تُنْبِئُني
شؤوناً في اليقين
والريحُ على صفحةِ النهر تُعطي
صِبايَ درساً في الحنين
كنتُ أعُدّ قاماتٍ رشيقةـً
لأشجار جوز الهند
بين النهر وساحة المتحف؛
وفورةُ الماء عند جسر الصالِحيةِ
(جسر العبيد)
دوائرٌ محتجّة
دُوّاماتٌ صغيرةٌ تقول كلاماً كبيراً
عميقاً من اللغة الكبرى
مزيجاً من نكهة الماءِ وعشبٍ طازجٍ
وأنفاسِ طين،
وإني مَدينٌ لانحناء الشمس للنهر
بكل الصمتِ الذي استعرتُه منها
علّمني: الصدقُ نبيُّ الحب
والجمالُ إله.
فصار بيتُها وطناً وقريةً أولى
وكانت الأقمارُ بعينيها وتبقى
وفي ثغرِها الوردُ والفجرُ
والصوتُ الذي غنّى يساهرني
حتى حفظتُ تفاصيل خرائطَ شتى
بكل جدارٍ أمرّ به
فأطيلُ من نظري بكل نافذةٍ تُطِلُّ عليَّ
فلم تَعُدْ جدرانُ قريتي عمياء
لكنْ تتالت بها، كعادتها، عصورُ المجرمين
وهذي الحياةُ الثمينةُ التي نشاهدُها
من بقاياها
تمرُّ بنا
قد مضت هدراً
بين آلهةٍ ترجمني فأرجمها
كل ما فيها يسائلني فأسائلُهْ
حول آخر الأوهام
عند كلِّ رحيلٍ محزنٍ بغروب
فحين يعبّرُ الجميعُ عن مشاعر المساء
أكون موشِكاً على مغادرة المدينة
نحو قريتي الأولى
ولن تكون الرحلة الأخرى جديدة
ولا الغروبُ جديد
15
كثيرٌ فيكَ منا وإلينا
وكثيرٌ فيك يؤلّبُنا علينا
فنظل في ليل هذه البَيدا
نواصل المسرى
(متفقينَ مختلفين)
فقد خلَّفتَ نوراً
وناراً
ونجماً لن يغيب








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس