الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بناء القصة السينمائية

عدنان حسين أحمد

2015 / 6 / 29
الادب والفن


نادرة هي الأفلام الوثائقية التي ترقى إلى مستوى التحفة غير أن فيلم "أمازونيا" للمخرج الفرنسي تييري راغوبير يستحق هذا التصنيف عن جدارة. وقد بذل طاقم الفيلم برمته جهوداً كبيرة، بدءاً من كُتّاب السيناريو الخمسة، مروراً بالمصورين الثلاثة وأصحاب المؤثرات الصوتية، وانتهاء بالمُمنِتجَين الذين أبهروا مشاهديهم بهذا العمل الساحر الذي يخلو من الحوار! فكيف أوصلَ المخرج فكرته إلى المتلقين الذين سقطوا في دائرة الدهشة والذهول على مدى خمس وثمانين دقيقة وهم يتنقلون في أماكن التصوير التسعة في أمازونيا، هذا العالم الاستثنائي الغامض وغير المروّض؟
لقد أراد منتجو الفيلم الأربعة أن يحصروه في إطار أفلام الأطفال أو العائلة في أبعد تقدير، لكن قوة الفيلم وسحر الغابات الأمازونية الممطرة المكتظة بعشرات الآلاف من النباتات والحيوانات والحشرات هي التي أخرجت هذا الفيلم من الأطر الضيقة المرسومة له. فهو فيلم لكل الأعمار، ولجميع المستويات، وأكثر من ذلك فهو يزاوج بين التوثيق والروي الصامت المعبّر إن صحّ التعبير. هذه إضافة إلى تنفيذه بتقنية الأبعاد الثلاثة التي منحته نكهة خاصة تُحسب لمصلحة الفيلم القائم على رصد اللقطات الجمالية المُبهرة التي تقترب من الفنتازيا أو اللامعقول في بعض الأحيان.

بناء القصة السينمائية
على الرغم من خلو الفيلم من الحوار إلاّ أنه ينطوي على قصة سينمائية متكاملة الأركان، بل أنها تنطوي على قدر كبير من التشويق خصوصاً وأن الكشوفات المدهشة التي قدّمها المصورون الثلاثة الذين انهمكوا بالتصوير على مدى ثمانية عشر شهراً كانت تسحر ألباب المتلقين، وتمدهم بمتعة بصرية غير مسبوقة مع كل لقطة أو مشهد من مشاهد الفيلم في أبعد الأحوال. تنعقد أولى خيوط القصة السينمائية حينما نرى فتاة صغيرة تودع قردها المُقلنَس "ساي" إلى سيرك آخر حيث سيتم نقله جواً حيث تتطور الأحداث بشكل دراماتيكي حينما تسقط الطائرة التي تقل هذا القرد لتعيده إلى حاضنته الأولى الطبيعة، تلك الحاضنة التي لم يرها من قبل، ولم يألفها قبل هذا التاريخ، وعليه أن يتماهى فيها ويندمج مع حيواناتها لكي يؤمِّن حاجته من الطعام والشراب والمأوى والبقاء على قيد الحياة. غير أن هذا القرد لم يعرف عالم الغابات لأنه تربى في الأسر وأصبح شأنه شأن الحيوانات المنزلية مدجّناً خلافاً لغرائزه الحقيقية، وطبعه البّري الذي ينسجم مع حياة الغابات التي تمتلك اشتراطاتها الخاصة.
لا تقتصر القصة على هذا السياق السردي الخارجي على رغم أهميته، وإنما تتجسد أمام أعيننا إشكالات جديدة من قبيل الضياع، والإحساس بالغربة، وصعوبة الإندماج مع الحيونات الأخرى، والإساءة إلى هذا النمط من الحيونات المأسورة التي أُقتلعت من جذورها وحاضنتها البيئية المألوفة بسبب الإنسان لا غير. لقد أحسن المخرج راغوبير حينما اختار هذا النوع من القرود المقلنسة "التي يحيط برأسها شعراً كثيفاً يشبه القلنسوة"، فهي قرود ذكية تتعلم بسرعة، وتندغم في البيئة المكانية من جديد، وتتفاعل معها، لكن هذا التفاعل لا يمنعها من ارتكاب بعض الأخطاء التي قد تودي بحياتها لأنها قد تذهب إلى الخطر بقدميها بسبب تدجينها وأسرها مدة طويلة من الزمن بعيداً مسقط رأسها ومأواها الطبيعي.

اللغة البصرية
إن منْ يشاهد هذا الفيلم لابد أن ينحني إعجاباً لكل طاقمه. وقد يستغرب المتلقي كيف تمكن المصورون من تصوير هذا الكم الهائل من اللقطات والمشاهد المدهشة التي تحبس الأنفاس؟ والجواب ببساطة شديدة أن الطاقم برمته قد انغمس في العمل على مدى عامين كاملين من البحث العلمي والكتابة وتطوير الأفكار، بل أن المصورين وبعض التقنيين قد أمضوا تسعة أشهر كي يتأقلموا مع الحيوانات الرئيسة التي يحتاجون تصويرها، هذا ناهيك عن مفاجآت التصوير والغواية الكامنة وراء المصادفات التي لا تنتهي لأنهم اقتحموا كوكباً أخضر بالكامل يحتوي على "40.000" نوع من النباتات و "5000" نوع من الحيوانات، و "2.5" مليون حشرة. أما الجمال الذي تنطوي عليه هذه الحيوانات والحشرات والنباتات فهي قصة ثانية لأنها تحتاج لوحدها إلى مقال منفصل يتمحور على قدرة المصورعين البارعين في الإمساك باللقطات الجمالية المدهشة والصادمة في آنٍ معا.
ربما يكمن قسط غير قليل من جمال الفيلم في اللقطات المدهشة لهذا الكم الكبير من الحيوانات وخاصة القرود والنمور والدببة والقُضاعات والنسور والدلافين النهرية والتماسيح والكائنات المُدرّعة والأفاعي العصّارة والطائر الطنان، والببغاوات الملونة، والجنادب، والعصافير، والعنادل. أما الأشجار الباسقة، المثمرة، المكتظة الأغصان فتحتاج وحدها إلى دراسة منفصلة كي تغطي فقط الجوانب الجمالية الكامنة فيها. ربما تكون الجنة أو الفردوس المفقود هي الكلمة الوحيدة التي تستوعب هذا الجمال النوعي المدهش المخبّأ في الغابات الأمازونية الحالمة.
ليس غريباً على المخرج الفرنسي تييري راغوبير أن ينجز فيلماً بهذا الإتقان الكبير، فقد سبق له أن حقق فيلم "الكوكب الأبيض" الذي رصد طبيعة الحياة في القطب المنجمد حاصداً العديد من الجوائز العالمية. وفي الختام لابد من القول إن هذا الفيلم الوثائقي يلامس القلب والعقل في آنٍ معا. كما يمنح المتلقي العضوي مساحة كبيرة من التأمل والاستغراق في هذا المنجم البصري الذي لا ينضب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حياة كريمة.. مهمة تغيير ثقافة العمل الأهلى في مصر


.. شابة يمنية تتحدى الحرب واللجوء بالموسيقى




.. انتظروا مسابقة #فنى_مبتكر أكبر مسابقة في مصر لطلاب المدارس ا


.. الفيلم الأردني -إن شاء الله ولد-.. قصة حقيقية!| #الصباح




.. انتظروا الموسم الرابع لمسابقة -فنى مبتكر- أكبر مسابقة في مصر