الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جرعة الاتحاد الأوربي كعلاج سريع للجمهورية المريضة

آزاد أحمد علي

2005 / 10 / 9
العولمة وتطورات العالم المعاصر


عندما استقدم خلفاء بني العباس الترك إلى ثغور الدولة الإسلامية على مشارف الأناضول الغربي لتعزيز جبهات القتال، لم يكن في تصورهم أن هذه الهجرات ستغير مسار التاريخ، وخاصة تاريخ المشرق وأوربا. لقد جاءت معركة ملاذ كرد عام 1071م نقطة للتحول الكبير في هذا السياق بعدما انهزمت جيوش بيزنطة، وتتالت إثرها هجرات وغزوات الترك من الشرق نحو الغرب، وعلى الرغم من هذا التحول لم يكن يتصور أحد ـ حتى في سياق الخيال ـ أن أربعمائة خيمة تشكل قوام قبيلة بني عثمان في القرن الثاني عشر الميلادي ستؤسس للإمبراطورية الأكبر في القرون الوسطى، إذ أن نشوء وتطور الإمارة العثمانية في الأناضول الغربي شكلت ظاهرة تاريخية غير مألوفة بل استثنائية، فما زال ينظر عدد من المؤرخين بعين الشك والريبة إلى حقيقة العوامل المحفزة التي أدت إلى نشوء هذه الإمبراطورية ـ اللغز, على اعتبار أن مملكة العثمانيين الصغيرة هذه كانت واحدة من بين ستة عشر دويلة وامارة تركية وتركمانية وكردية وأرمنية في آسيا الصغرى، لكن قدر لها فقط أن تتحول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف، كثمرة غير ناضجة لحقبة تاريخية ملتبسة ولأزمة حضارية عصفت بالبشرية لحظة نمو وتطور هذه الإمارة ـ اللغز، وهذا ما لا ينفيه المؤرخين الأتراك أنفسهم، وقد عبر عن ذلك محمد فؤاد كوبريلي: (نعتبر ظهور الدولة العثمانية مشكلة من مشكلات تاريخ العصور الوسطى) ـ قيام الدولة العثمانية ص 29 ـ ويبدو أن الجمهورية التركية المعاصرة ما زالت تحتفظ في أحشائها مشكلة العصور الوسطى نفسها، أي مازالت تعاني من إشكالية الوجود ومعضلة الهوية والانتماء العضوي المنسجم إلى الزمان والمكان والفضاء السياسي المعاصر والمخيم على المرحلة التاريخية.
فعلى الرغم من أن عمر المشكلة ـ الإمبراطورية قارب ستمائة عام إلا أنها كانت سببا في تفكك الإمبراطورية، هذه الإمبراطورية التي تناثرت كالهشيم بالأعجوبة نفسها التي تشكلت وتطورت بها، فبعد الحرب العالمية الأولى اندهش المنتصرون من ذوبان الإمبراطورية واختفاءها لدرجة لم يبق منها سوى عدة ولايات تركية في غرب ووسط الأناضول.
فواجه المنتصرون الأوربيون حينئذ ظاهرة سياسية استثنائية تتلخص في كيفية اختزال الإمبراطورية العثمانية إلى دويلة صغيرة وسط الأناضول ؟! وذلك في حال تطبيق بنود معاهدة سيفر وإنشاء دولة كردية في جنوب شرق الأناضول وأخرى أرمنية في شمال غربها، إضافة إلى ضم المدن اليونانية على سواحل بحر ايجة إلى اليونان.
أمام هذا الإشكال السياسي والتاريخي الجديد ونتيجة لتضافر جملة من العوامل والظروف الموضوعية، كظهور الاتحاد السوفيتي بقوتها الأيديولوجية الجديدة وتحت تأثير مخطط إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وكذلك بفضل استغلال عواطف الجماهير الكردية لدعم أتاتورك وزجها في معركته ضد اليونان والقوى المنتصرة والتي سميت بمعركة "الاستقلال"، لكل ذلك أعادت تركيا تشكيل ملامحها المعاصرة على أساس أيديولوجيا قومية ـ أتاتوركية مستنفرة، في محاولة جديدة لتجاوز الإشكالية التركية ـ التاريخية في غرب الأناضول، وكأفق عملي للتأسيس لأمة تركية عصرية تتجه إلى الغرب وتستقوي بالمنتصر لإعادة بناء دولة قومية جديدة تسدل الستار على ماضيها السياسي الثقيل.
واليوم وبعد مرور أكثر من ثمانين عام على نشوء الجمهورية التركية المعاصرة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، مازالت مسألة الهوية وقضية الانتماء الإشكالي إلى المكان ـ القارة تتحكم بالسياسات التركية وتفعل فعلها في مجمل توجهاتها، ويبدو أن التحالف التركي ـ الأمريكي ونزعة تخطي البوسفور نحو أوربا وتجاوز الوضعية الجغرافية ـ الثقافية والأثنية القائمة في تركيا المعاصرة هي مازالت امتداد لمشكلة الوجود التركي الملتبس برمته، والتي تتمظهر في حالة الهروب المستمر من استحقاقات التاريخ والجغرافيا والثقافة.
إن التخبط السياسي للقوى السياسية والعسكرية التركية طوال السنوات والعقود الماضية وهيمنة ما هو عسكري على ما هو مدني، وما هو أيديولوجي ديني على النزعات الليبرالية العلمانية يشكل في الواقع ترجمة للأزمة البنيوية للمجتمع والحكم التركي معا،ً فهذه الأزمة مازالت مسيطرة على مسارات ومعالم السياسات التركية المتأرجحة بين الانتماء الإسلامي والشرق أوسطي والأوربي ـ الأطلسي مروراً بالتحالف مع أمريكا وإسرائيل، وتفعل فعلها المباشر في بناءها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فليس سراً أن الشعب التركي هو شعب موغل في آسيويته، بل ينتمي تاريخيا إلى الوسط غير الحضري من آسيا الوسطى، وهو مجبول تاريخياً بأيديولوجيا دينية جهادية مؤسسة أصلاً على ثقافة الغزو القبيلة ـ الرعوية.
فكيف ستنجح تركيا المعاصرة في سعيها لتجاوز هذه الحقائق التاريخية وبالتالي واقعها الجيوسياسي المعقد؟ وعلى الرغم من أن خياراتها السياسية متعددة إلا أنها مازالت مصرة على اختيار طريق أوربا السريع ، بقيادة قواها السياسية النمطية، التي تفضل الهروب نحو أحضان أوربا الباردة؟
ويبدو للمحلل بمنظار المنهجية التاريخية إن تركيا المعاصرة بحكومتها الإسلامية وعمودها الفقري العسكري تتجه اليوم لتدك أسوار فيينا من جديد وتقرع بوابة بروكسل لدخول الاتحاد الأوربي ليس كقناعة سياسية بقدر ما هو حل مؤقت لإشكال وجودها وانتماءها التاريخي الملتبس إلى المكان ـ المضيق بين آسيا وأوربا، وكمخرج سريع من واقعها الجيوسياسي والقومي والاجتماعي المركب، وهي إن نجحت في ذلك فلا توفر حلولا بقدر ما ترحل مشاكلها الاقتصادية والسياسية والثقافية والديموغرافية إلى البيت الأوربي الكبير الذي سيترهل بدوره بأحمال تركيا وأوزارها.
وإذا كان بعض ساسة أوربا يتجاهلون عمدا هذه الوقائع فبالتأكيد أن الأنتلجنسيا الأوربية ومفكريها يدركون هذه الحقيقة، وما الموقف السياسي الفرنسي إلا صدى خافت لهذه القنا عات الفكرية، وقد انعكست وترجمت مؤخرا هذه المواقف المتحفظة من "أوربية تركيا" عبر نتائج الانتخابات الألمانية.
إزاء التردد الأوربي المرتقب في ضم تركيا، يمكن لتركيا اليوم أن تركن إلى واقعها، والاقتناع بانتماءاتها الجغرافية والثقافية، عبر قراءة واقعها بصدق وشفافية، ومعرفة حقيقة أن تركيا المعاصرة مازالت تحتفظ في جنينها بكل ذلك التاريخ الحضاري المشرقي وكل التراكمات الثقافية والسياسية للشعوب الشرق أوسطية، وهي لا بد أن تصوغ هويتها على أساس الجغرافية التاريخية، والإقرار بالتعددية القومية والدينية والطائفية والثقافية في بلادها، والسعي للتأسيس لوعي سياسي مطابق وجديد متصالح مع هذا الواقع والمحيط الغني. ولعل من أهم العوامل المعرقلة لدخول تركيا إلى البيت الأوربي هو الثنائية القومية التي ستبطئ سرعة حركتها نحو أوربا، فالقسم الكوردي من تركيا عميق الجذور في ترابطه مع محيطه الآسيوي الكردستاني والعربي والفارسي.
فالمخرج السياسي لواقع تركيا المعقد لا يكمن بالضرورة في السير خلف سراب الاتحاد الأوربي بوصفه العلاج الشافي لأمراض الجمهورية المزمنة، وانما الدواء والحل الاستراتيجي سيكون في الركون إلى هذا الواقع والتعرف على تفاصيله والإقرار بحقيقة أن تركيا مكونة بشكل رئيسي من شعبين آسيويين عريقين هما الشعب التركي والشعب الكوردي، ويستحسن تأمين صيغة اتحادية تجمعهما في إطار جمهورية ديمقراطية علمانية آسيوية ذات هوية إسلامية استقطابية واضحة المعالم.
فهذا التلهف والسباق الماراتوني نحو الاندماج الافتراضي مع المنظومة السياسية والاقتصادية للقارة الزرقاء عبر منظمة الاتحاد الأوربي، ليس بالضرورة أن يكون العلاج الشافي للجمهورية المريضة وأن تزيد من مناعتها السياسية على تخوم الألفية الجديدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريفايفل: ألبوم جديد يسعى إلى السعادة • فرانس 24 / FRANCE 24


.. كأس أمم أوروبا: منتخب البرتغال يفتتح منافساته بمواجهة مع تشي




.. كأس أمم أوروبا: منتخب سلوفاكيا يحقق انتصارا مفاجئا على نظيره


.. كأس أمم أوروبا: رومانيا تسحق أوكرانيا بثلاثية نظيفة




.. شاهد كيف أدى قرار عائلة إلى إنقاذ طفل حديث الولادة