الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مَن هو العراقي؟

أحمد القاسمي
(Ahmed Alqassimi)

2015 / 6 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


مَن هو العراقي؟
أحمد القاسمي
لم يتم طرح هذا السؤال من قبل بصورة جدية، كما لم يحظ ببحوث أكاديمية رصينة أو حزبية أو حتى إعلامية. بدايةً فإن تعريفا لما يمكن أن يشكّل خصائص موجودة حقا في هوية المواطن العراقي، لم يكن منسجما مع إيديولوجيات الساسة العروبيين غداة تأسيس العراق الحديث. كما أن توسيعا لأطر الهوية العراقية يتناسب مع عامل توحيد الولايات الثلاث كان سيطيح ببنى سيطرة ونفوذ عتيقة كانت سائدة قبل تأسيس الدولة العراقية في العاصمة بغداد. ولتجنّب نقاشات صريحة ومنصفة تستهدف العثور على إجابة مرضية لهذا السؤال عمدت الحكومات العراقية المتعاقبة إلى فرض هوية تتألف من خلطة مستعجلة لم تكن ملائمة لمفهوم دولة المواطنة الحديثة.
خصائص تلك الهوية العراقية اعتبرت أن العراق بلد عربي ولكنه يمتلك في ذات الوقت "هوية عراقية". ورغم الاعتراف بحدود العراق وطبيعة سكانه بصورة عامة، إلا أن وشائج الارتباط المعلنة بما هو خارج حدود العراق في الخطاب الرسمي، حتى وإن كانت مجرد خطاب تعبوي دعائي، ساهمت في إضعاف قوة الهوية العراقية لدى المواطنين العراقيين. فمن جهة كانت شرائح بعينها تؤمن بأن الهوية العراقية هي جزء من كل يقع خارج حدود العراق، ومن جهة أخرى اعتبرت شرائح عراقية أخرى أن ذلك الامتداد المتخيل سيهدد وجودها وثقلها في العراق. لقد رفضت الهوية العراقية الرسمية طوال القرن العشرين أي نموذج يتعارض مع عروبة العراق أو الانتماءات العروبية خارج حدوده. بل أن حرب العراق ضد إيران أو حرب احتلال الكويت كانتا، في جزء منهما، تعبيرا عن غياب مفهوم متماسك لحدود العراق أو تعريف مَن هو المواطن العراقي.
الدعائم النظرية لتلك الهوية اعتمدت على تصريحات سياسية استعراضية مستقاة من نُتف تاريخية عشوائية ومما علق في الذاكرة من حصص مادة التاريخ المدرسية، وعلى قصائد حماسية، تقترب من العنصرية أو المبالغة السمجة في تمجيدها للوطن "ولفرادته وأفضليته"، إضافة إلى خطابات إعلامية شوفينية أو ساذجة وسخيفة. من مظاهر الخلط في الهوية العراقية عدم تحديد نقاط الالتقاء والتمايز بين مفهومي العراق كبلد وريث لحضارات العراق القديم في سومر وبابل وآشور، وبين العراق كبلد نشأ بعد الفتح الإسلامي. ورغم أن هذا الموضوع شائك بالفعل، إلا أنه كان من الممكن نظريا تشجيع إجراء ونشر دراسات أكاديمية تتضمن دراسة للآثار العراقية وللغات العراقية القديمة في كل مناطق العراق وعلاقتها بالعراق الإسلامي ومظاهر وجودها التي لا زالت قائمة في العراق الحديث. وكذلك دراسة العراق الإسلامي وفق نظرة جديدة تربط بينه وبين العراق ما قبل الإسلام، وإعادة تفسير الكثير من الخلافات الدينية التاريخية باعتبارها مظاهر للصراع على القوة والسلطة في مرحلة تاريخية ما، وليست انقساما عابرا للتاريخ.
كانت الهوية العراقية أثناء القرن العشرين تعترف بوجود مكونات الكرد أو التركمان أو المسيحيين الآشوريين، إلا أنها كانت تصوّرهم راضين تماما عن التوجهات العروبية. كما صوّرَت غير المسلمين من العراقيين وكأنهم منسجمون تماما مع القيم الإسلامية وتغافلت عن خصوصياتهم. أما الاختلافات الطائفية بين الشيعة والسنة فتم إنكار وجودها أو التهوين منها كثيرا باعتبارها سائرة في طريق الزوال، فقط لأن المناهج المدرسية تتجاهلها. لم يتم أخذ الاعتراضات والشكاوى من عدم القدرة على التماهي مع الهوية العراقية القسرية أو السعي لإدخال تعديلات عليها من فئات رئيسية في البلد الجديد بنظر الاعتبار. سواء كانت تلك الاعتراضات على الصياغة الدستورية في البلد الجديد أو خط الدولة السياسي العام في تولي مسؤولية حكم المواطنين العراقيين باعتبارها ممثلة لهم ومعبرة عن إراداتهم. لقد كان الخطاب الرسمي المعلن بالسمو فوق الاختلافات الطائفية في العراق في الهوية العراقية الرسمية مفيدا، إلا أنه لم يكن متوازيا مع مساواة وتمثيل حقيقيين. وعندما طالب العراقيون الكرد أو المسيحيون أو التركمان أو الصابئة أو الأيزيديين أو اليهود بمساحة ما في الهوية العراقية تمت مواجهتهم بتهم التخوين، أو بالسعي لإذابتهم أو حشرهم في النموذج الرسمي للهوية العراقية. لذا لم تجر أي محاولات رسمية جادة ولا بحوث أكاديمية لتفهم أسباب الإحباط أو التمردات العنيفة ضد الدولة العراقية الحديثة، بل جرت شيطنتها وقمعها بالقوة، أو تجاهلها حيثما كانت سلمية.
لم يدرك سياسيو العراق الحديث ضرورة خلق مفهوم مواطنة عراقية جامعة تتسع للتعدد القومي والمذهبي والديني في العراق، لأن الخوض في هذا الموضوع المتشعب كان فوق قدراتهم الفكرية من جهة، كما إنه كان مخالفا لتصوراتهم لهوية العراق الحديث من جهة أخرى. لقد أخفق سياسيو ومثقفو العراق في إدراك أهمية الجانب النظري المفهومي للدولة ودورها المعنوي في دعم الركائز القانونية وتقوية ثقافة العيش المشترك المتسامحة في العراق لأجل خلق هوية عراقية رحبة يتماهى معها المواطنون العراقيون. ورغم أن هذه التعريفات النظرية للهوية لا تدخل في العمل اليومي للسياسيين في العادة، إلا أن ظروف تأسيس بلد مثل العراق وظهور التنافس بين رؤى مختلفة للهوية العراقية في وقت مبكر كانت تحتّم التفات السياسيين والمثقفين لضرورة صياغة هوية عراقية جامعة تحظى بأكبر نسبة من المؤمنين بها. هذا القمع لم يسهم في إفساد العلاقة بين المجتمع والدولة وتقوية الهويات الفرعية على حساب الهوية العراقية الرئيسية فقط، بل فوّت أيضا على الهوية العراقية فرصا من التغيير والتعديل المستمرين لخلق انسجام وتناغم أكبر بين المكونات البشرية العراقية. لم تقم الحكومات العراقية المتعاقبة بدمج مكونات الشعب العراقي لا مجتمعيا ولا ثقافيا. لقد فشلت حتى في إنشاء شبكة طرق ملائمة تربط بين المحافظات العراقية وتسّهل تعارف العراقيين واندماجهم. ولم تشجع العراقيين على الانتقال داخل أنحاء العراق لأغراض السياحة والتعارف أو لأسباب وظيفية، بل قامت بدلا من ذلك بحصر وجود كل دوائر الدولة الهامة والمستشفيات ومراكز الفنون والمتاحف والنشاطات الثقافية في العاصمة بغداد وحوّلت المحافظات العراقية إلى توابع هامشية نائية تفتقر إلى أي تأثير، وتدور في فلك العاصمة فقط. لقد اختنقت الهوية العراقية التي فُرضَت من أعلى بتناقضاتها وكانت السبب في تشرذم العراقيين، رغم أن تأسيس العراق الحديث كان مشروعا طموحا وحّد ولايات ضعيفة ومُقسَّمَة.
أصبحت الإشارة إلى قوة الحركات الإسلاموية السياسية المذهبية سائدة حاليا باعتبارها كسبت الصراع مع الهوية الوطنية العراقية، لكن ما لا يتم التطرّق إليه كثيرا هو ضعف وهشاشة الهوية الوطنية التي كانت سائدة قبل بزوغ هذه الحركات الإسلاموية النكوصية. لقد هُزمَت الهوية العراقية الحديثة مع أول مواجهة حقيقية، لأن القوة التي ظهرت فيها الأحزاب الإسلاموية سواء الإرهابية، أو الحاكمة التي تلجأ لإقصاء الآخرين المختلفين، هي تعبير جلي عن ضعف نموذج تلك الهوية. فلو كانت لدينا هوية عراقية قوية كفاية، لما تمكّن تنظيم داعش من كسب متعاطفين كثيرين، ولاتبعت الحكومات العراقية أساليب أفضل بالتعامل مع الإرهاب وتطويقه، دون اللجوء لاتهامات تعميمية لأبناء مكون بأكلمه.
لقد آن الأوان والعراق يمر بهذه الظروف أولا لإعادة طرح سؤال "من هو العراقي" بهدف عرض هوية وطنية مدنية جديدة جامعة للعراقيين، ثم عرض أكبر عدد ممكن من الإجابات عليه ثانيا. ولن تكون هناك أي إجابة مرضية للجميع، كما في أي مجتمع ديمقراطي، لكن على الأقل سيكون هناك اتفاق على جملة أساسية من الأمور التي ستساعد العراق على الخروج من مأزقه الحالي وتحفظ عيشا مشتركا في إطار دولة موحدة صار عمره أكثر من قرن من الزمان.
ولكي لا يكون كل ما ذكرته آنفا مجرد توجيه سهام النقد السلبي، سأقوم بمحاولة متهورة في الأسطر التالية وأعرض ملامح بعض ما أعتبره خصائص أساسية في أي نموذج جديد لهوية عراقية متماسكة وتحظى بقبول أكبر. وبالتأكيد فإن الأسطر التالية ليست صياغة قانونية مقترحة، بل هي أفكار أردت من ورائها إثارة النقاش مجددا حول هذا الموضوع.
العراق هو دولة حديثة، تأسست بعد انهيار الدولة العثمانية، ويتألف منطقتين رئيسيتين تنطقان بالعربية والكردية. كما أن هناك لغات أخرى في العراق مثل التركمانية أو الآشورية. هذه الأرض التي هي وطن المواطنين العراقيين شهدت أحداثا تاريخية عظيمة تستحق الفخر سواء في العهود القديمة أو في العهود الإسلامية، لكن العراق الحديث، الذي هو دولة لكل مواطنيه، لا يقيّم المواطنين اليوم إلا على أساس مواطنتهم. العراقي هو ببساطة مَن يحمل الجنسية العراقية التي تعني إنه مرتبط بعقد اجتماعي مع دولة ديمقراطية محايدة دينيا وطائفيا تحفظ له كرامته الإنسانية وتساعده في تأمين عيش كريم. هذه الدولة هي التي تستحق منه التضحية بحياته لأجلها عندما تدهم العراق المخاطر، كما أنها الدولة التي تتيح له تنمية مواهبة بما فيه خيره وخير مجتمعه الذي يعيش فيه. إذ لا يجوز خوض حروب دفاعية وتبريرها بأسباب دينية أو طائفية أو عرقية، بل باسم الدفاع عن المجتمع والدولة العراقية. الدولة العراقية تدعم كل جهود قراءة التاريخ لتعضيد العيش المشترك للعراقيين اليوم، ولكنها يجب أن تمنع قانونيا أي محاولة لإثارة الفتنة المجتمعية من خلال قراءات أو تأويلات مستقاة، أو منتقاة، من ذلك التاريخ.
يجب منع أي حزب ينشأ على أساس طائفي، لأن الاتكاء على الطائفية لن يُنتج سوى سياسيين طائفيين يستغلون الطائفية مطية لتحقيق أهدافهم الخاصة وإثارة النعرات الطائفية بين المواطنين العراقيين، كما أن تجربتنا في العقد الماضي أثبتت أن تلك الأحزاب الطائفية ساهمت في تعميق جراح وآلام العراقيين جميعا دون استثناء. يمكن تشكيل أحزاب سياسية على أساس قيم الدين الإسلامي السمحة والإنسانية ولكن الانتماء إليها يجب أن يكون متاحا لغير المسلمين أيضا، كما يمكن الاتكاء على القيم المسيحية المتسامحة، التي تشكّل أحد روافد الهوية العراقية، لتشكيل أحزاب سياسية يُسمح للمسلمين وغيرهم بالانتماء إليها أيضا. فئات الشعب العراقي المختلفة بأديانها وثقافاتها وعاداتها وفنونها هي عناصر تؤلف بمجموعها ما يمكن أن يُعدّ الهوية العراقية. أي إضافة فكرية تستهدف تقوية الهوية العراقية وتقوّي العيش المشترك وتخلق ثقافة عراقية جامعة مميزة مرحّب بها وعلى الدولة دعم كل النتاجات الفكرية والأدبية والفنية، وكذلك المبادرات الاجتماعية ونشاطات المجتمع المدني العراقي التي تسعى لتحقيق هذا الهدف.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل