الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل أنعشت ثورات الربيع العربي الإرهاب؟ ( 2 2 )

سعد محمد رحيم

2015 / 7 / 1
مواضيع وابحاث سياسية


هناك من يقرأ ظاهرتي الربيع العربي والإرهاب في ضوء نظرية المؤامرة؛ المؤامرة التي لا ينفك الغرب الرأسمالي/ الإمبريالي من حبكها وتنفيذها للحيلولة دون نهوض العرب. وهناك من يراهما نتاجين طبيعيين لمجمل الأمراض الاجتماعية والسياسية التي عششت في الجسم العربي منذ عهد الديكتاتوريات العسكرية، والأنظمة العائلية الاستبدادية. وها هو الباحث المستعرب الهولندي موريس برخر يقر بأن تقاطع التيارين الليبرالي والإسلامي في الساحة السياسية العربية هو الذي أفرز الظاهرتين آنفتي الذكر.. يقول: "إفرازات هذا التقاطع تتمثل في الربيع العربي، وداعش، اللذان هما وجهان لعملة واحدة"، ويرجعهما معاً لحقيقة غياب العدالة. رائياً في الصراعات الدينية "صراعات اقتصادية وطبقية واجتماعية وسياسية مغلّفة بغلاف ديني، لأن الغلاف الديني يعطي نتائج أفضل" من وجهة نظره. وهناك من يفسِّر الأمر على وفق قوانين السوق الرأسمالية في مرحلة العولمة، وتحت ضغط دافع الربح الذي يطيح بأي وازع أخلاقي، حيث الغرب ( برأي هؤلاء ) يفكِّر بمنطق أنه طالما أن الفوضى الجارية لا تبلغ درجة الخطر المقلقة على المصالح الغربية، وطالما أن سوق السلاح تزدهر، وأن النفط يتدفق إلى حيث يحتاجونه بأسعار مناسبة تماماً. وطالما أن الصراعات الداخلية الدامية تضعف قوة العرب، وتجعل من إسرائيل آمنة أكثر. وإذن ليس من ( مصلحتنا ) وقف انهيارهم، وسيول دمائهم، وصراعاتهم الأهلية الغبية. وهناك من يتحدث عن العامل الثقافي، ودور الشيوخ الطائفيين في التحريض على إقصاء الآخر وقتله.
نعرف أن العامل الثقافي ليس هو كل شيء في نمو الإرهاب وانتشاره، لكن لا يمكن استبعاده في أية مقاربة تحليلية لهذه الظاهرة.. إن العقائد المتطرفة كي تفعل فعلها في النفوس ولكي تكون دافعاً للسلوك العنيف والممارسات العدوانية ضد الآخر المختلف، تكون بحاجة إلى شروط واقعية مغذّية وداعمة. عندها فقط، ومن خلال تكييف سياسي مؤسساتي تتحول تلك العقائد الدينية إلى إيديولوجيات سياسية. فانتشار الإرهاب هو ناتج تسمم الوعي.. الوعي الذي يُخطئ الواقع والزمان، حيث يغدو المنطق فيه أعورَ، والذاكرة مشروخة، وحس الواقع والتاريخ واهناً وملتبساً، والمستقبل لا صلة له بالزمان المعيش، والمكان جسرَ عبور محض إلى الموت والعدم.
بيئة المجتمعات المعاصرة تواصلية ـ إعلامية بامتياز، وهي التي أتاحت الوسائل وآليات النشاط الجماعي المنظّم وقواعده العملية واللوجستية لانطلاق الانتفاضات الشعبية في بعض أجزاء العالم العربي. فمن غير الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، وقنوات الإعلام، التلفزيونية بخاصة، المواكبة للحدث في لحظة حصوله، ما كان بالإمكان الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية بالسرعة والبراعة التي تمت بها. وهي البيئة نفسها التي ساعدت الجماعات السلفية العنفية في التواصل والتنظيم والدعاية والتجييش، وجعلت من تعولم الإرهاب حقيقة صارخة ومرعبة على الأرض. فأولئك الذين يؤمنون ويروِّجون لأكثر الأفكار غرابة وتخلفاً ولا إنسانية ولا عقلانية يستخدمون بعقلانية وذكاء، يُحسدون عليهما، آخر مبتكرات التقنيات الحديثة في الإيذاء والقتل والترويع.
لا يقتصر الإرهاب على عمليات الجلد والقتل، بل يتعداه إلى ذلك النوع من العنف الرمزي والمعنوي، حيث تفرض مجموعة معينة نمطها السلوكي وقيمها على المجتمع برمته، بالتهديد والوعيد قبل الترغيب، باعتقاد أنهما من مصدر إلهي، وأن أي تأويل آخر للنص الإلهي غير تأويلها فاسد وباطل.. وحين تستغل سلطة ما، موقعها الوظيفي العام، لتحدد للآخرين ماذا يأكلون ويلبسون، وكيف يفكرون، وماذا يعملون، وبم يؤمنون، تكون قد مارست الإرهاب من حيث تعلم أو لا تعلم.
ليس الإرهابيون جميعاً مدفوعين بالأسباب نفسها.. فهناك من تدفعه الموجِّهات الثقافية التي قولبت تفكيره، وهناك من يدفعه اليأس، وهناك من يدفعه البحث عن مكانة ودور وعمل حرم منها في ظل الأنظمة الاستبدادية العاجزة. فالحركات الإرهابية لا تستطيع، على نطاق ملموس، اختراق المجتمعات التي تعيش في أوضاع سوية، حيث يتوافر الحد المناسب الضروري من الحريات وحقوق الإنسان وفرص العمل والرفاه الاجتماعي، فضلاً عن حياة سياسية ذات طابع وتقاليد ديمقراطيين حقيقيين.
والسؤال الآن هو؛ من أجل ماذا خرجت الملايين في تظاهرات سلمية بدءاً من العام 2011 في تونس ومن ثم في مصر قبل أن تنتقل الشرارة إلى أمكنة أخرى اتخذت فيها الانتفاضات طابعاً عنفياً دموياً؟. أهو التوق إلى الحرية والحياة السياسية الديمقراطية، أم هو شيء آخر؟.
يقول جون آر برادلي مؤلف كتاب ( ما بعد الربيع العربي ) بعد أن خبر تجربة الانتفاضات بشكل مباشر، والتقى الناس، وقرأ ما كتب عنها في الإعلام العربي والغربي، أن "الجموع العربية لم يكن همّها الرئيسي انعدام الحرية السياسية، وإنما انعدام الوظائف. لم يكن للتوق إلى الديمقراطية إلا وقع ضئيل حتى في تونس ومصر، وهما الدولتان الوحيدتان اللتان نجحتا ـ حتى كتابة هذه السطور ( 2012 ) في الإطاحة بحاكميهما الديكتاتوريين دون الحاجة إلى تدخل عسكري غربي". وقد لاحظ آر برادلي أن غالبية المسلمين يكنّون ازدراءً للإسلاميين المتطرفين. أما لماذا يفوز الإسلاميون في الانتخابات بعد رحيل الديكتاتوريات في البلدان العربية؟ فيُرجع علّتها إلى "أن ما بين 20 ـ 40 بالمائة فقط من إجمالي السكّان في الدول العربية يدلون بأصواتهم في الانتخابات المحلية والقومية". ولمّا كان مؤيدو الأحزاب الإسلامية "هم الأكثر تعصباً، ومن ثم فإنهم يخرجون بأعداد كبيرة من أجل التصويت، ولطالما كان الإسلاميون أكثر نجاحاً في دفع مؤيديهم للتصويت"، لذا سنجد "أنه ليس مستحيلاً على الإسلاميين مطلقاً لأن يضمنوا تأييد أغلبية في الأقلية".
نعرف أن التحوّل الديمقراطي، على المدى القصير، لا يمكنه حل مشكلتي الخبز والبطالة، حتى وإن كان يتم بسلاسة وكفاءة في التشريع والتنفيذ المؤسساتي. فكيف إذا ما طُبِّق في بلاد تخلو من التقاليد الديمقراطية، ويطغي فيها الجهل والأمية على نسبة واسعة من السكان، بعدما خضعت للاستبداد عقوداً، أو قروناً طويلة.
خلقت الأنظمة العربية بيئة مشجعة على العنف بأشكاله الحقيقية والرمزية والثقافية.. فبعد أن فرضت طوقاً أمنياً على البلاد جاعلاةً منها سجناً كبيراً، ليعيش المجتمع في شبه عزلة عن المجتمعات الأخرى، مما ولّد عنده الخوف من الآخر وزرع الشك بنوايا قوى حقيقية وافتراضية من ضمن ما يسمى بنظرية المؤامرة. من هنا أصبح الفرد في شك دائم، معتقداً، وفي الأحوال كلها، حتى الظاهرة والبسيطة منها، أن ثمة خفايا خطيرة، ومؤامرات تحبك في الظلام. وكانت للنبرة الخطابية الحماسية التي ميزت قنوات الإعلام المحتكرة للدولة، والثقافة الممجدة لتاريخ العنف أكثر بكثير من تمجيد تاريخ المنجز العلمي والثقافي والحضاري للأجداد، واتخاذ المواقف الانفعالية غير العقلانية كردود فعل على ممارسات الآخرين، دورها في خلق الشخصية الحماسية الانفعالية، والعدوانية. فلأنها تعجز عن تلبية حاجات السكان تعمد الأنظمة الاستبدادية إلى الاكتفاء بإدارة الأزمات بالشكل الذي لا يجعلها مستديمة ومسيطراً عليها. وفيما بعد لجأت تلك الأنظمة إلى خلق الأزمات، مع الخارج المجاور، وغير المجاور، أو مع قوى حقيقية أو افتراضية في الداخل.. كانت هذه كلها عوامل مساعدة لنمو الشخصية المرتابة، اليائسة، والميالة للعنف. فتفاقم الإرهاب دالة لهزيمة الدولة العربية الحديثة وهشاشة تكوينها.. لإخفاقها في جعل مواطنيها جزءاً من مشروع تنموي مركّب، وحياة سياسية معافاة.
المشكلة في حالات التغيير العربي أن ما تجري إزاحته من أنظمة تتبنى إيديولوجية شمولية، تُطرح، من قبل الأنظمة الجديدة، مقابلها، إيديولوجية شمولية أخرى لا تقل عن الأولى سوءاً.. فالمشكلات المتراكمة لا تخضع لقراءات تحليلية موضوعية خلاقة تُقترح لها الحلول الواقعية، بل تقدّم الحلول جاهزة، حتى وإن كانت شاحبة، غير منطقية، وغير ممكنة التطبيق. فالقوى الجديدة التي تتسلق سلم السلطة وتستحوذ على مراكز القرار لا تأتي ببرامج عمل واضحة، واقعية، وطموح بل تفكر بالاستحواذ على كعكة السلطة، وتصفية حساباتها مع القوى القديمة والثأر منها والانتقام من رموزها ومريديها، ( وبطبيعة الحال ليس بالطرق القانونية وإجراءاتها ). ويغيب عن بالها طرح بدائل جذابة تُظهر قبح ما كان قائماً وعجزه وسوئه.
إن أحزاباً شمولية عريقة، وإن كانت في المعارضة، وعانت من جور الأنظمة القمعية، لا تستطيع إلا أن تستنسخ ما قامت هي بمعارضته، فهي تزيح بالعنف أو بغيره نظاماً شمولياً استبدادياً فتسعى لإقامة، وهذه المرة بقيادتها، نظاماً شمولياً استبدادياً لا تختلف عن سابقتها.
ازدحمت الانتفاضات العربية بمفارقات تراجيكوميدية، منها أن الذين دعوا إليها وأشعلوا شرارتها وقاموا بها كانوا من اليساريين والليبراليين والعلمانيين عموماً، لكن الذين جنوا ثمارها فيما بعد هم جماعات الإسلام السياسي. وأن هذا الإسلام السياسي الماسك بدفة السلطة لتوِّه والذي يحاول الظهور بصورة المعتدل بحكم براغماتيته، وتكيّفه مع حقائق السياسة الإقليمية والدولية، هو نفسه يصبح عرضة للابتلاع من قبل إسلام سياسي آخر متطرف وعنيف، فاقد للحس التاريخي والسياسي السليم.
كان ما حصل مكلفاً جداً، لكنه كما أرى كان محتّماً أيضاً، فبعد أن كشفت الأنظمة الاستبدادية الشمولية عن عجزها وعدم قدرتها على تحقيق مطالب شعوبها، ولو بالحدود الدنيا المقبولة، في الحرية والعدالة والتنمية والتقدّم تآكلت أرضيتها الشعبية، ولم تعد قادرة على إدارة أزماتها التي افتعلتها إلى ما لا نهاية. بيد أن مرحلة ما بعد تلك الأنظمة لم تفرز حلولاً جدية، عملية، تؤسس لنظام ديمقراطي فعّال ومنتج، بل تمخضت عن تمزقات داخلية تهدد كيانات دولها بالتفتت. وقد يقول قائل أنه لولا تدخل القوى الخارجية في الشأن الداخلي لبلدان الثورات ربما لاتخذت الأحداث مساراً آخر، وقد يكون هذا صحيحاً نسبياً، لكنّنا موضوعياً لا نستطيع تجاهل التناقضات والصراعات المجتمعية المسببة للتوترات وعدم الاستقرار والتناحر والعنف والفوضى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح


.. طفل فلسطيني ولد في الحرب بغزة واستشهد فيها




.. متظاهرون يقطعون طريق -أيالون- في تل أبيب للمطالبة الحكومة بإ


.. الطيران الإسرائيلي يقصف محيط معبر رفح الحدودي




.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية