الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كريم راهي .. عرفته في أبي غريب

باسم فرات

2015 / 7 / 5
الادب والفن


هذا اليوم كان ملئًا بالنشاط، صحوت فجرًا وذهبت مع جماعة من أدباء كربلاء وشعرائها إلى بغداد لحضور فعالية احتجاجية في شارع المتنبي ضد الاعتداء الذي تعرض له الاتحاد العام لأدباء وكتاب العراق المقر العام. التقيت بشخصيات عديدة ولكني سأركّز في خاتمة اليوم والتي أراها تحمل مفارقة تستحق التدوين والبوح؛ هذه المفارقة تجعل ما نقرأه في الكتب ونشاهده في الشاشتين الكبيرة والصغيرة ليس من نسج الخيال فالواقع يفيض بقصص أغرب وأكثر مفارقة ودهشة.
بعد أن تسكعت في أزقة مدينتي القديمة، ولاسيما الأقرب إلى نفسي من هذه الأزقة التي سقت خيالاتي بما لذّ وطاب لمحروم من كل شيء أن يتخيله ويتمناه؛ توجهت مرة أخرى إلى شارع صاحب الزمان وقضيت وقتًا مع صديقي العطّار، ثم قطعت ساحة الحرمين وأنا مستاء من كثرة الجنائز، فقتلى العنف والحروب وضحايا "داعش" وسواها لطَخوا جدران المدينة بالسواد، شباب بعمر الورد في الأغلب الأعم، بعضهم لم يتزوجوا، غدت صور الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) تعيد حزنها وفجائعيتها.
اشتريت قنينة ماء لأطفيء لهيب الصحراء والحزن، وتوجهت إلى شارع الإمام علي، بعد خمسين مترًا التقيت بصديق قديم وجار عتيق لنا، كنا التقينا مرات عدة لكنه لم يعرفني، هذه المرة عرفني فتحدثنا وسألته هل يتذكر صداقتنا قبل خروجي من العراق؟ أجابني بالنفي القاطع. لم أحزن فأنا أتفهمه تمامًا، مثلما أتفهم كثيرين لا يتذكروني، أنا مبتلى بالتذكر، ذاكرتي الباشطة تثقلني كثيرًا.
أخبرته عن مرحلة الثمانينيات وزياراتي المستمرة لهم أي هو وجَمَاعة من الأقارب والأصدقاء إلى السجن الخاص، "سجن أبو غريب، الأحكام الخاصة" ويعني الخاص بالسياسيين والمعارضين لنظام صدام حسين، لم يتذكر شيئًا، ونحن نتحدث أو بالأحرى محاولاتي لذكر حتى الجزيئيات مثل تهريبي للكتب والمجلات التي كانت ممنوعة عنهم حتى لو كانت من إصدارات دار الشؤون الثقافية، لا أدري كيف ذكر اسم الصديق الشاعر كريم راهي، إذ سألني هل التقيت به في بغداد؟ أجبته لم التق به في زيارتي هذه بعد ولست أعلم هل هو في العراق أم في السويد؟ لكن كلامه قادني لسؤاله ذلك السؤال الذي كثيرًا ما تمنيت أن أعرف إجابةً عنه ، ألا وهو: هل تعرف أين الشاعر الذي كان معكم في المعتقل، أنه من الكوفة؟ كانت إجابةً مفتاحًا بل إجابةً للسؤال الذي بقي يراودني سنوات طويلة.
لم يكن في مجموعتنا شاعر من الكوفة سوى "كريم راهي" بمثل هذا أجابني، صرخت هل ما تقوله حقًّا؟ هو إذن كريم الشاعر الذي أهداني قصيدة قبل ثلاثين سنة بخطّ يده وفيها كلمة بقيت تحفر عميقًا في ذاكرتي أنها كلمة "الشبك" ومدلولاتها لسجين سياسي، كريم من الكوفة الشاعر الذي كان يحتفي بي كلما أزورهم وأنا ابن السابعة عشرة من عمري، وعاملني بمحبة رائعة، حتى إنني كلما أتذكره أتساءل مع نفسي: هل رأى فيّ هوسًا بالشعر لدرجة أني سأكُرّس حياتي للشعر والمعرفة؟ لا أنكر أني مُهَوَّسٌ جدًّا لدرجة حتى بعض مجايليّ ممن يكبرني سنًّا اعترفوا بأني الأكثر منهم هوسًا بالشعر، وبعضهم راح ينصحني أن أعيش حياتي بشكل طبيعي لأحقق التوازن المطلوب بحسب رأيهم.
كريم راهي صديقي على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" منذ شهر شباط عام 2010 وأنا أعلم أنه من الكوفة وكان سجينًا سياسيًّا، ولكن لم يخطر في بالي أن أسأله هل هو: كريم الشاعر الكوفيّ؟ أو بشكل أدقّ: هل يعرف كريم الشاعر الكوفيّ؟ بل من المفارقات كنت أنسى أمر ،كريم الشاعر الكوفيّ صاحب قصيدة الشبك، حين أتواصل مع الصديق الشاعر كريم راهي أو التقيه، أي مفارقة هذه التي تجعلني أتوق لمعرفة أخبار شخص تعرفت إليه في أحد أشهر المعتقلات التي تعجّ بها بلادي، و كان كاسمه كريمًا معي محتفيًا بموهبتي الشعرية المتواضعة وأنا في أول خطوة لي لم اجتزها بعد.
تذكرت تلك ا لفترة وأنا أزورهم مرة كل أسبوعين، بحسب نظام الزيارات المعمول به للسجناء السياسيين؛ كنا نتعرض لمعاملة ليست طيبة من قبل حرس السجن، لكن دخولنا عليهم يجعلنا ننسى تلك المعاملة، فالمعنويات العالية التي كانوا يتمتعون بها والابتسامة الممزوجة بالكبرياء والأمل التي لم تكن تفارق وجوههم، تمنحني إصرارًا أن أزورهم في كل مرة مسموح بها إن لم تضطرني الظروف للبقاء في كربلاء.
بعد لقاءات عديدة وقبل خروجه من المعتقل بستة أشهر تقريبًا كان قد كتب تلك القصيدة التي أهداني نسخة منها بخط يده، هذه القصيدة التي جعلته يسكن ذاكرتي متمنيًا أن يأتي اليوم الذي التقيه فيه، والتقيته مرات عدة وأنا أجهل أنه هو كريم راهي نفسه أو أن كريم راهي هو نفسه كريم الكوفي الذي كان يعاملني بندية وليس فوقية، لم أشعر وأنا ابن السابعة عشرة ثم الثامنة عشرة وعبر سنتين من لقاءاتي به في المعتقل، أن تعامل معي بحس الأستاذ أو الصديق الأكبر سنًّا.
لكن من المفارقات العجيبة أن لقائي الأول به وأنا بطبيعة الحال أجهل أنه (كريم الكوفي) كان وعلى الرغم مما حوى من كرمه المعهود لكن اختلفنا وإن بصمت فيما يخص العراق وعروبته، وهي مسألة شائكة لا يمكن أن يقتنع بما أعرضه إلاّ متبحر بتاريخ العراق وتنوعه ومراحله التاريخية وتاريخ أقلياته ومقارنة الوجود الحضاري والثقافي والكثافة السكانية لأقلياته بأكثريته العربية ومنجزها الأضخم في تاريخ البلاد إلى حدّ صبغه بهوية عربية ابتدعها أهل العراق ابتداءً من أولى النقوش العربية المكتوبة بخط المسند في أور ونفر وأبو الصلابيخ والتي يعود أقدمها إلى القرن التاسع قبل الميلاد، مرورًا باختراع الأبجدية العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها وليس انتهاء بتعميم اللهجة العراقية لهجة أل التعريف والهمزة لتكون اللغة العربية الكتابية لكل العرب، لأن أكثر المتضررين من نفي وحدة التراب العراقي وعروبته، هم أقلياته لاسيما التي تخلو من التدوين والمنجز الثقافي الحضاري المدني الاجتماعي.
إذًا كريم الكوفي الشاعر الذي تعرفت إليه في معتقل أبي غريب في منتصف الثمانينيات هو الشاعر كريم راهي نفسه، ولم أعرف هذه الحقيقة إلاّ يوم الجمعة الثالث من تموز 2015 وتأكدتُ منها حين كتبت له فأكّدَ لي الأمر بنفسه مع إرسال قصيدته، معبرًا عن رغبته وفرحه أن أدوّن هذه المفارقة حين أخبرته أنني سأدونها لأنها تستحق التدوين والنشر.

أرفق قصيدة الشاعر كريم راهي التي كانت سببًا من أسباب تذكري الدائم له وبحثي عنه:

إلى (س.م)

كنتُ، مقتبلَ الليلِ، في الدربِ لك
حين أوقفني عند ممشى الحديقة
حارسُ الباب: "قف!"..
كدتُ أن أستدير
غير أنّ الخفير
حين أبصر وجهيَ عبر الشبك
والخطى المستتبات، فكّر: إنّ النهارَ حقيقة..
تتجاوزُ معنى التعاقبِ، واللحظةَ المتخطّاة، إنّ المصير
ليس غدّارة الوهمِ في يدهِ، والرصاصاتِ، والغُلّ
أدركَ أنّا سواءٌ، ومابيننا كان محض شبك
ليس يدرأ عينيّ أن تُبصراك.
كنتُ، مقتبل الليل أقفو خُطاك
حين أوقفني حارسُ الباب:"قِف!"
وتوسّلَ:"خُذني معك!"
كريم راهي/ سجن الأحكام الخاصّة في أبي غريب
22/8/1985








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا