الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رامبرانت الهولندي المدهش

فيء ناصر

2015 / 7 / 7
الادب والفن


حين توجهت الى الناشنول كالري في ظهيرة يومٌ شتوي رائق لزيارة معرض ( أعمال رامبرنت الأخيرة/ Rembrandt the late works) لم يخطر في بالي إني سأنفق ساعة من الوقت وقوفاً في الطابور الطويل من الزائرين المـتأنقين الذين يرومون مشاهدة المعرض، رغم غلاء سعر بطاقة الدخول، هؤلاء الناس بمختلف أعمارهم وميولهم الثقافية يمثلون مجتمعاً، الفن جزء أساسي من بنيته وليس طارئ عليه أو مكمل له أو نخبوي.
إشتهر رامبرنت بلوحاته الذاتية self-portraits حيث رسم ثمانين لوحة لنفسه، أرّختْ بدقة لحياته وتقلباته النفسية، أفراحه وأحزانه. في قاعة الكالري الأولى المخصصة للوحاته الذاتية، نرى رجلاً تخفي ملامحه أكثر مما تُظهر، كأنها تصرخ به كي يدوّنها بفرشاته : وجهٌ يخيم عليه الحرمان، أنف مميز يميل الى العرض، شعر مجعد وعينان تعكسان حكمة ومعرفة لا تنتمي لزمن معين، كأنهما واعيتان لكل العيون التي ستتفرس فيهما مستقبلاً. آخر لوحة رسمها لنفسه عام وفاته 1669، والتي تظهره بوجه واهن وغير مكترث منحوت بدقة بالألوان يرتدي رداءاً أحمراً قانياً وقبعة فرنسية للرأس، يداه مرتخيتان تعلنان عن إنهيار وإستسلام تام للمصير، لكن رامبرنت الذي غادر عالمنا قبل أربعة قرون أسرني بنظرته الثابتة الثاقبة كأنه خصني بها وحدي وسبر أغواري وحدثني بلغة تعبر الأجيال والسنوات .
أكثر من تسعين عملاً فنياً بين لوحات تتباين في حجومها وتخطيطات، تستعرض الخمسة عشر سنة الأخيرة من حياة هذا الهولندي المدهش، كأن هذا المعرض يقول لنا بملء الفم إن الأعمال الفنية الكلاسكية لا تعني أبداً إنها قديمة أو إُستُهلكتْ فنياً ونسيّها الجمهور.
حساسية مفرطة للضوء
رامبرنت المجدد بتعامله وتلاعبه بحساسية اللون للضوء والظل، للوصول الى أقصى إمكانيات التعبير الفني. تفصح ضربات فرشاته وتخطيطاته أيضاً عن حساسية إنسانية عميقة مزمنة ومقدرة تنويرية على شحن لوحاته التصويرية بعواطف حقيقية جياشة. عبقرية رامبرنت الفنية قادته الى مزيد من التحرر الفكري والروحي من الأنماط والأساليب الفنية التي سادت عصره، والى المزيد من الإبتكار في الرسم والتصوير والتخطيط والتجريب في إستخدام اللون وكثافته والضوء والظل والانعكاس في خلق الفضاء التصويري، ولم يكف عن إستبطان الألوان وخصائصها للحصول على التأثيرات المبتغاة بذكاء فني حاد وأصالة متفردة فقط، بل إمتاز هذا العبقري الهولندي أيضاً بفطنته وفرادة عينه الحميمية الرائية التي إستوعبت عصره إنسانياً وفنياً.
ولد رامبرنت في مدينة لايدن الهولنددية عام 1606 وتوفي في أمستردام عام 1669، عاش في العشرين سنة الأخيرة من حياته إضطرابات وفواجع بلا نهاية فقد ماتت زوجته ساسكيا Saskia عام 1642 وقبل ذلك فقد ثلاثة أطفال، أعلن إفلاسه عام 1652 وباع بيته ولوحاته ومقتنياته الفنية لكي يسدد ديونه، عام 1662 رفضت بلدية أمستردام، بعد أن تعاقدت معه لوحته الشهيرة مؤامرة كلاديوس سيفيليس The Conspiracy of Claudius Civilis التي تعرض في هذا المعرض. ماتت عشيقته وملهمته ومربية إبنه هندريكي ستوفلس Hendrickje Stoffels عام 1663، وفقد إبنه المدلل تيتوس Titusعام 1668. خلال هذه الفترة ايضاً كان رامبرنت يكافح فنياً لإبتكار طرق جديدة في الرسم والتخطيط ويبدو إن فرشاته الحادة وإسلوبه في ترك نتوءات لونية بارزة ، سواء بإستخدام السكين او باستخدام ضربات فرشاة عريضة لم يحظ بقبول من الأوساط الفنية والشعبية في ذلك الوقت. ويبدو جلياً أيضاً إن رامبرنت رفض الرسم بطريقة تدر عليه ربحاً تجارياً والحياد عن إسلوبه التجديدي، وظل يبدع روائعه التي ستبقى جديدة وحيّة على مر الأزمان.
فان كوخ ولوحة رامبرنت
لوحة العروس اليهودية Jewish Bride 1665 التي ضمتها قاعة المعرض الثالثة المخصصة للوحات رامبرنت ذات الثيمة الإنجيلية، عندما وقف فان كوخ أمام هذه اللوحة قال " يسعدني أن أستبدل عشر سنوات من حياتي كي أجلس مقابل هذه اللوحة لمدة إسبوعين ولا آكل سوى كسرة خبز يابس"، نعم فهذه اللوحة لا تعطي مفاتحيها للمتفرج بسهولة، الزوج وهو يضع يده بحنان بالغ يقترب من الألم على صدر زوجته، لكن الزوجة تبدو ذاهلة تزم شفتيها بشكل ملتبس، مزيج من الطمانينة وعدم الإكتراث، تضع أصابع متراخية على يد زوجها، ملابس باذخة ومجوهرات لكن بؤرة الضوء في هذه اللوحة هي في أيدي الزوجين .
سيسترق المتفرج النظر حينما يواجه لوحة إمراة تستحم في نهر A Woman Bathing in a Stream عام 1654 لكن هذه المرأة التي ترفع ثيابها ستتجاهلنا تماماً وتظل تحدق في الماء الذي يغمر ساقيها. في لوحة لوكريشا Lucretia 1664، يظهر جلياً نزوع رامبرنت نحو الجانب السوادي للميثولوجيا فهو يرسم هذه المرأة وحيدة منزوية تحدق في الخنجر الذي تحمله بعناء وعناية، والذي ستنهي حياتها به، لوحة مليئة بالرثاء المفرط لكنها على قدر عالٍ من التقنية في التناغم بين قوام المرأة وثيابها الباذخة.
ورغم إن رامبرنت إستخدم في أعماله الأخيرة تقنيات فنية متعددة كان قد بدأ إستخدامها في أعماله المبكرة مثل الخطوط القوية المخدشة وإبراز اللون كأنه رطب لم يجف بعد والرسم بإستخدام السكين التي تخلط الألوان مباشرة على الكنفاس. إسلوبه الثوري المتجدد هذا لم ينتقص من الطرواة والحنان اللذين رسم بهما رامبرنت إبنه تيتوس على منضدته Titus at his Desk 1655.
يظهرْ رامبرنت في هذا المعرض عدم تراجع عبقريته بتقدمه بالعمر وبسلسلة خيباته وفواجعه، بل على العكس فقد وظف خطوط قريبة ناتئة اللون في لوحاته وإستعرض بجدارة تقنياته الفنية التي ستجعل الزائرين والمهتمين بمجال الفن يستغرقون طويلاً في هذه اللوحات التي ستأسر الناس في كل زمان ومكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رامبرانت الهولندي برؤية الفنان فيء ناصر
سامح ابراهيم حمادي ( 2015 / 7 / 8 - 06:41 )
السلام عليك سيدي الفاضل

مقالك هذا دفعني لقراءة ما سبقه من مقالات تشكر على طريقة العرض بأسلوب الفنان القدير
سيكون مادة غنية لطلابي ليقرؤوا في محور الفن ، ممنون لشخصك الفاضل عليها

تقضل خالص الشكر والتقدير

اخر الافلام

.. كيف نجح الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن طوال نصف قرن في تخليد


.. عمرو يوسف: أحمد فهمي قدم شخصيته بشكل مميز واتمني يشارك في ا




.. رحيل -مهندس الكلمة-.. الشاعر السعودي الأمير بدر بن عبد المحس


.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام




.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد