الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقاء ابليس 01

رياض محمد رياض

2015 / 7 / 9
الادب والفن


كان قد جهز كل شيء ، كثيرون فعلوا هذا ونجحوا ، بالتأكيد لن يفشل إنها تجربة قاسية ، لكنها فعالة ثم إن كل نتائجها مرجوة ، إن سقط فمات فهذا هو المطلوب و إن تحملته الحبال الغليظة وشنقته فهذه طريقة موت أخرى ، وإن أتاه الشيطان في اللحظات الأخيرة فسيعقد معه الصفقة وهذا هو المطلب الحقيقي من وراء هذه التجربة .
كان الكابوس المفزع لهذه التجربة في نظره هو أن يسقط ولا يموت ، فقط تتحطم عظامه ويصاب بشلل ثم صمم ثم سرطان أو إيدز مع عمى تام و يعيش بقية حياته عاجزاً كليلاً ليموت في النهاية ميتة الكلاب ، من أجل ألا يحدث هذا اختار هذا المبنى، مبنى شركة لا يعرف نشاطها ،لكنه يعرف أنها تتألف من ستة وعشرون طابقاً ، من المستحيل أن يسقط من هذا الإرتفاع ولا يموت ، كان فؤاد قد أعد له كل شيء الحبال و الأربطة الحمراء و البخور ، و كل المتطلبات التي ذُكرت في هذا الكتاب اللعين الموضوع في جراب أسود هناك بجوار الحاجيات الأخرى اللازمة لهذه التجربة .
أمسك بالطبشور و بدأ في رسم الأشكال - التي وردت في الكتاب - على أرضية سطوح مبنى الشركة ، من غير المسموح أن يتواجد أحد هنا ، لكن فؤاد هو أحد حراس الأمن و قد سهل له هذه العقبة ، عليه الآن أن ينتظر غروب الشمس ، ثم يقفز و الشمس في الرمق الأخير ، هكذا قال الكتاب " لأن الشمس تشرق وتغرب بين قرني الشيطان " ، لكن كيف سيأتي الشيطان والشمس هناك تغرب بين قرنيه ، مازال يشك في فؤاد .
يشعر أن كل هذا خدعة ، المكتبة التي ورثها فؤاد عن جده ، وقرأها أبوه ثم جن ، يشك أساسا في أن الرجل الذي زاره مع فؤاد في العباسية هو والد فؤاد ، حتى الرجال الذين اجتمعوا معه عن طريق فؤاد يشعر أنهم لصوص و مخادعين ، الذي يدفعه للشعور بهذا هو أن كل حركة كان يتحركها فؤاد كانت بمقابل مادي ، كل نصيحة ، كل إجتماع مع غرباء و كل كتاب كان يعيره له ليقرأه و حتى البخور و الطبشور .
لماذا اختار هذه الطريقة لإتمام التجربة ؟ لا يدري ، هناك من اختاروا النيران و آخرون فضلوا أمواج المياه ، لكنه أراد القفز من مبنى مرتفع ، لقد تناقش مع فؤاد في هذا الموضوع و حاول فؤاد منعه من هذا الطيش :
- " كيف تقفز يا مجنون من ارتفاع ستة وعشرين طابقا وتنجو ؟! "
- " و من قال أنني أريد أن أنجو ؟ "
- " ألا تريد مقابلة الشيطان ؟ "
- " بلى . "
- " حسنا ، دع له فرصة الإلتقاء بك ، انظر ، ما رأيك في الموت بالغاز ؟ "
- " الغاز ! كيف ؟ "
- " اجلس في غرفة مغلقة جيدا ، و افتح أنبوبة الغاز و مُت ببطء حتى يتمكن الشيطان من الحضور و إنقاذك ومن ثم عقد الصفقة . "
- " لكن هناك بخور ، ستشتعل النيران في الغرفة . "
- " و ما يضيرك ؟ ستشتعل النيران وتموت أو يخنقك الغاز وتموت ."
من سمات فؤاد كما هو واضح الإنفعال أثناء الحديث و انطلاق الرذاذ من فيه كالرصاص في وجه محدثه ، بجسده الضخم و رذاذه القوي كان يقنع محدثه بأي رأي ، لذا صمت مجدي و قال "سأفكر" و فكر في كل شيء إلا أن يموت مختنقا بالغاز ، و توصل لهذا الوضع الحالي الشنق على قمة مبنى مرتفع ، إذا تحملته الحبال فسيموت مشنوقا و إن سقط ولم تتحمله الحبال فلن ينجو بالتأكيد مع كل هذا الإرتفاع ، و إن حضر الشيطان لينقذه فسيعقد معه الصفقة .
كان متولي – و هو أحد الذين نصحه فؤاد بالجلوس و الحديث معهم – واحدا من الذين أتموا الصفقة على خير وجه ، قارب صغير و التوغل بعيدا عن رؤية المارة وفي وسط النيل ينتظر بقاربه شروق الشمس فضل الشروق على الغروب لأن وقت الغروب يتوافد فيه المتطفلون على النيل أكثر ، الطبشور الأزرق يخط به الرسومات على أرضية القارب الخشبية البيضاء ، البخور تلهبه النيران فتفوح رائحته القوية ، الأربطة الحمراء يربطها في الأماكن الحيوية من جسده تماما كما نص الكتاب اللعين الموضوع في جراب أسود هناك بجوار شبكة الصيد ، قرص الشمس يبدأ في الظهور و متولي يستعد للغرق ، الصخرة المربوطة بالحبل الغليظ يرميها إلى النهر بعد أن يوثق الحبل بقدمه وتبدأ رحلة الهبوط السريع لقاع النهر ، كان نبض الرجل يتسارع ، ضربات قلبه تحولت من دقات إلى صرخات تصم أذانه ، الصوت أسفل المياه يختلف و الرؤية أيضا ، ما هذا الشيء الأسود القادم هناك؟ هذا المكان لا يشتهر بوجود التماسيح ، يشعر الرجل بصدره ينفجر و شيء ما يهزه بعنف ، هذا الشيء الأسود القادم من بعيد منهمك في حل الوثاق الذي يربطه بالصخرة ،وفي هذه الحالة القريبة من الغشيان و الهذيان تمت الصفقة ، يقول متولي وهو يدفع لمجدي بكوب الشاي الدافيء اللذيذ :
- " أقسم لك يا أستاذ مجدي أن الأمر لم يستغرق خمس دقائق ، كان سريعا بدرجة لم أتخيلها ."
ينظر مجدي إلى هذا الصياد الكاذب غالبا و يرشف الشاي ثم
- " و كيف دارت الصفقة يا متولي ؟ "
يقول متولي في سرعة وكأن سرعة الإجابة تجعلها صادقة :
- " قايضني الشيطان ، ما أريد مقابل ما يريد . "
- " كيف؟ "
- " في البداية قال لي - إنك تموت سأمنحك البقاء و النجاة من الغرق على أن تفعل ما أريد - ، و وافقت بعد أن عرضت عليه طلبي و الذي وافق عليه بدوره ."
- " وماذاكان طلبك ؟ وما الذي كان يريده منك ؟ "
- " كان طلبي الضمان و ما أراده لا أستطيع البوح به فعلى هذا اتفقنا الجزء الخاص بي في الصفقة أستطيع أن أذيعه لمن أ ريد أما الجزء الخاص به فهذا سيظل سرا وهكذا هو يستطيع أن يقول ماذا أراد مني أما ما طلبته منه فلا يستطيع أن يبوح به لأحد ."
كانت طريقة متولي في الحديث آسرة ، صوته هادئ جذاب ، عميق متسارع يعلو مع الحدث ثم يخبو و يخفت في النهاية و أحيانا يتراجع كموج البحر ينطلق من بعيد قادما سريعا ثائرا متوعدا ثم يأتي للشاطئ لينصهر بين الرمال ، لتنصهر الكلمات في نفس محدثه ، ثم يعود الموج متقهقرا في خفوت ليتلاشى هناك ، لتتلاشى الكلمات مع صدى حديثه ، لا يستطيع أن يمسك مجدي بكلماته ، لا يستطيع مقاضاته عليها إن هو أخطأ ، كالموج يتلاشى على الشاطئ لكنه يترك أثرا خفيفا على الرمال ، أثرا خفيفا في صدر مجدي أثرا خفيفا يتراكم ليصير كالحقيقة ، كلمات متولي لا يمكن سبر غورها ، حديثه عن الشيطان ، وصفه لتجربة موت ، عقده لصفقة محرمة ، كلها أشياء تدفع للفضول و الإنصات حتى و لو كانت ملفقة .
في استمتاع داعب غرائز الفضول لدى مجدي تواطأ سمعه مع كلمات مجدي وهادنها ، حديثه يمده بالدفء المعنوي وكوب الشاي في يده يمده بالدفء المادي و الهواء يزمجر خارج الكوخ وأمامه يرى مياه النيل تجري نحو البحر الأبيض في إصرار صامت كأنها تتعبد . هل من الممكن أن يجري تجربته ويقابل الشيطان ، و يطلب ما يريد ؟
- " و هل صدقت الشيطان في أنه لن يبوح لأحد بسرك هذا ؟ "
- " و ما الذي يدعوه إلى الكذب ؟! لن يفعل سوى ما اتفقنا عليه و من يخالف فاللعنة تلحق بمن يخرق الوعد ."
- " و ما يضيره فاللعنات لا تفارقه ، ثم هذه الصفقة اللعنات تلاحق فيها كلا الطرفين ، هكذا يحذر الكتاب ."
قالها مجدي و هو يضع الكوب الفارغ على المنضدة العتيقة بينهما ، ثم صمتا ، مجدي ينظر إلى أرضية الكوخ و متولي يشبك أصابعه فوق المنضدة حول الكوب أمامه و يشعر أن الحديث قد انفرط عقده ، مجدي يداعب ألواح الخشب التي صنعت منها هذه الأرضية بطرف حذاءه ، متولي ينظر من باب الكوخ إلى الخارج ، مجدي ينهض يقف أمام نافذة الكوخ ، مصباح يُنار بالكيروسين معلق بجوار النافذة السناج يغطي معظم أجزاء زجاجه ، البرد والمطر بالخارج والشعلة الصغيرة المضاءة في المصباح و الكسل الذي بدأ يزحف نحو عقل مجدي ، في جيب معطفه مفكرته و القلم الرصاص لكنه لا ينوي أن يدون شيئا مما سمع ، إنه الخمول .
حتى إن عقد الصفقة مع الشيطان فماذا يطلب ؟ ربما المعرفة ، نعم إنها الشيء الوحيد الذي يبحث عنه طوال حياته ، المعرفة ، كشف الغموض، هذا ما يريده ، لكن هل الشيطان يمتلكها ، أي معرفة تلك التي يعرفها شيطان أحمق ؟ "سيعطيك ما تريد لا تقلق " . قالها متولي وكأنه سمع مادار بخلد مجدي قالها وهو يهز رأسه واثقا فيما يقول ، فرد عليه مجدي " لست قلقا " ثم عاد و صمت ، شعر أنه تسرع في القول ، تكلم لسانه و كذّبته باقي حواسه ، بالفعل هو قلق ، لا يمر يوم إلا والقلق يتزايد معه ، ينهشه كثعبان ، ينهش أفكاره في مهدها .
- " ماذا تعني بأن طلبك كان الضمان ؟ "
- " طلبي كان الضمان ، ضمان البُعد عما لا أريد ، ضمان أن أجد في الصباح رزقي ، ضمان ألا أفقر يوما ، ضمان ألا أمرض يوما ، ضمان أن أعيش سعيدا ، ضمان كل ما أخشى فواته ، هذا كان طلبي ."
- " لكنها أشياء لم يختص بها إبليس ، إنها أشياء خاصة لله سبحانه وتعالى ، إنك بهذا خرجت من العبودية لله ووقعت في تأليه إبليس ."
- " لا تكبر الموضوع ، كل ما هنالك أن الرجل يملك ما أريد و أنا أملك ما يريد و تقايضنا و انتهينا ."
- " لا أعتقد أن إبليس يملك ما تريد ، لقد خدعك ."
بعد هذه الجملة وجد مجدي متولي ينظر إليه في كره ، لماذا يسحقني بعينيه بكل هذا الغضب ، إذن لقد خدعه فعلا ، لطالما شككت فيما موجود في هذا الكتاب ، أخشى أن يكون إبليس قد خدع الجميع وهم يخشون التلفظ بهذا بل يسعون إلى الإيقاع بي معهم ، ربما كانت طائفة ما أسسها مؤلف هذا الكتاب و الذي لم يذكر أحد اسمه و لم يُكتب على الغلاف ، هذا الكتاب الذي كُتب في القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي يثير ريبتي ، ما الذي حدث في القرن السابع الهجري يستدعي كتابة مثل هذا الكتاب و تكوين جماعة على صلة بالشيطان و ما الأعمال التي كانت موكولة إليهم؟؟ هذا على فرض أن هناك شيئا ما غامضا يحيط بهذا الكتاب .
- " بالعكس ، إنني لم أمرض و لم أتألم جوعا منذ قابلت الشيطان وعقدت معه صفقتي ، ثم إن مستقبلي لا يمكن أن يسوء ."
- " إنني لا أومن بقوة الشيطان ، ما أومن به أن مستقبلك فعل يومك ، افعل حسنا تجد في الغد الحسن أو افعل سيئا لتجد في الغد ما هو أسوأ."
و صمت الاثنان .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إبراهيم السمان يخوض أولى بطولاته المطلقة بـ فيلم مخ فى التلا


.. VODCAST الميادين | أحمد قعبور - فنان لبناني | 2024-05-07




.. برنار بيفو أيقونة الأدب الفرنسي رحل تاركًا بصمة ثقافية في لب


.. فيلم سينمائي عن قصة القرصان الجزائري حمزة بن دلاج




.. هدف عالمي من رضا سليم وجمهور الأهلي لا يتوقف عن الغناء وصمت