الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن التشكيلي العراقي المعاصر - اسباب التقدم وسمات النضج والتميز

تحسين الناشئ

2015 / 7 / 13
الادب والفن


امتلك الفن التشكيلي العراقي المعاصر منذ بداية انطلاقته بعد الحرب العالمية الاولى ، مقومات نهضته وتقدمه ، كما امتلك القدرة على التجاوب مع المعطيات الغزيرة للحياة المعاصرة التي افرزها القرن العشرين خصوصا تلك المتعلقة بسبل الثقافة والتحضر ، لذا عُرفت الحركة التشكيلية العراقية المعاصرة بتميزها ونضجها وتقدمها الواضح بين فنون العالم ، فأكتسبت اهمية وصيتا لاينازعها عليه الا القليل من حركات التشكيل الفنية في العالم المتقدم ، لاسيما وان هذه الحركة لم تغترب او تنعزل في يوم ما عن مثيلاتها في المنطقة العربية ، ولم تنأى بأطرها العديدة والواضحة بعيدا عن حدود تركيبتها وهويتها الشرقية - العربية فصارت مدار بحث ودراسة مستمرة من قبل الباحثين والدارسين في هذا المجال لأستقصاء اسباب هذا التقدم والتميز .

هنالك ثمة مسالة هامة يمكن ملاحظتها بوضوح في هذا المجال وهي ان الفنان العراقي لم ينسلخ يوما ما عن واقعه ومحيطه ولم يبتعد عن افاق انتمائه التاريخي والروحي ، بل كان دائم المتابعة والرصد للوقوف على محركات ذلك الواقع وعلى مكنونات بيئته وعناصر محيطه ليستمد منها مقومات فنه ضمن معايير خاصة ، فكان سعيه مستمرا على استلهام صور ومفردات ذلك المحيط لتوظيفها جماليا ضمن منهجه الخاص ووفق رؤيته الذاتية . بمعنى اخر ان الفن العراقي يتسم بالأصالة لكونه يستمد اصوله ومفرداته من ثقافة وتقاليد الارض التي نشأ عليها ، ولهذا السبب ايضا فأنه واضح الملامح والهوية .

المنطلق الاخر الذي انطلق منه الفنان العراقي المعاصر ، هو اقدامه على استدعاء موروث بلده الزاخر والرصين ، مما خزنته العصور السابقة من عطاءات الحضارات العريقة التي قامت على ارض الرافدين ، فأستلهم من ذلك الموروث قيما جمالية جديدة راحت تعينه على تحقيق المنجز المطلوب .
اما ابرز الخصائص والسمات التي صارت لصيقة هذا الفن ، والتي أقترن بها وتبوأ من خلالها مرتبته المتقدمة بين فنون بلدان الشرق الادنى والبلاد العربية على السواء ، فيمكن تحديدها وايجازها بالنقاط التالية :

1. وضوح الرؤية الفنية- الجمالية وثباتها ، وذلك يعني الانحياز نحو المنحى الارادي في عملية الخلق الفني بمجمل مراحلها ، تواصلا مع ايجاد ثيمة تكرر نفسها زمنيا في كل انجاز وتتعزز بنفسانية الفنان ذاته ، والرؤية لاتعني البحث عن مواطن الجمال في الاشياء ، فالجمال بحد ذاته لايمكن قياسه (حسب رأي كروتشه) ، انما الرؤية تعني تقديم بحث جمالي من خلال الانجاز الفني (العملية الابداعية) ، ان وضوح الرؤية وثباتها معناه الارتكاز على منهج مدروس وهذا يؤدي الى بناء العمل الفني الحداثوي وفق اسس فنية وفكرية صحيحة ومتقدمة .

2. نضج الاداء ، والتقنية العالية في صياغة الاشكال وبنائها ، نتيجة لعمق التجربة وتراكم الخبرات ، وبسبب تنامي موهبة الفنان العراقي وبحثه الطويل والمستمر عن منابع التأثير البصري والجمالي ، الذي يتوضح عبر صيغه الجمالية المعبرة المشبعة بالفيض الحسي .

3. تنوع الاساليب وتطورها ، والسعي الدائم لتقديم الابتكارات الذكية التي تخدم المنهج ، والتي تتمحور ضمن أُطر صحيحة تقوم عليها التجربة الفنية . ان ذلك التنوع عائد الى حقائق حية ناتجة من متابعة الفنان العراقي واستيعابه وهضمه لكل بوادر التجديد في العالم المعاصر – خصوصا في ما يتعلق بالفن والادب والفلسفة والفكر الحداثوي . اضافة الى محرضات عملية الخلق الفني وهي الجوانب الاجتماعية والانسانية الحساسه غير التقليدية ، وما تتركه من اثر في روح الفنان واحاسيسه ، ان ضرورة التجديد تتفق وضرورة الانجاز وهي حالة من حالات الابداع المتصل بالوعي . فلتلك الاضافات التجديدية اهمية واضحة تبررها حاجة ملحة تتمثل بالعمل على تنمية وسائل التعبير لدى الفنان بما يتناسب والتغيرات المتحققة في حياتنا المعاصرة ، وهذا يدعو الى التجريب والفحص المتواصل ورصد الظواهر الفنية واختبارها بصورة مستمرة .

4. ثراء العمل الفني بالجوانب التعبيرية والرمزية – حتى في مجال التجريد – اذ ليس من المجدي التعبير عن لحظة السكون مثلما هو التعبير عن لحظة الحركة ، فالحياة متحركة وكل ما فيها متجدد ، وتوصيف حدث آني لايمكن ان يكون ابداعيا ومثمرا الا اذا امتلك صفة الاستمرارية الزمانية ، اي ان يكون مؤثرا في زمن لاحق ومتضمنا نفس الدلالة ، وان يكسر الحواجز التقليدية للرمز ، فالرموز لايمكن لها ان تتصف بالحيوية ما لم تتعدى افق صيرورتها . ولهذا السبب امتلكت النتاجات الفنية العراقية المعاصرة صفة الديمومة .

5. استلهام الموروث الحضاري العراقي الزاخر بالقيم الجمالية والفكرية والدلالات الرمزية العميقة . فأعمال الفن العراقي المعاصرة يمكن ان تحيلنا وجهة خاصة نلمس خلالها تقربا في المنحى والطابع مع بعض نماذج الفنون العراقية القديمة التي افرزتها حضارات قديمة هائلة العطاء ، تلك النماذج القديمة استطاعت ان تبلور نفسها ضمن افق خاص لتتمكن من الولوج الى عالمنا الحاضر بكل عنفوانها لتكون فاعلة من جديد في مدياتها الواسعة ، كأرث عميق له شأنه ، لم يستطع الفنان المعاصر من الانعتاق من تأثيراته الجمالية والفكرية القوية عليه ، فكان مستلهما لتلك الفنون الابداعية ، وكانت تلك الفنون ملهمة له على الدوام .

لقد توضح للفنان العراقي المعاصر ان قوانين الجمال الحديثة التي تربطها علاقات سببية لاتنفصل بحال من الاحوال عن سلطة الذهن الذي يدعمها ويبرر الاستجابة لها، كما ادرك الفنان العراقي ، ان الفن كقيمة ابداعية جمالية ، يرتبط في حقيقته ارتباطا وثيقا بالخبرات المكتسبة وبالحدس وبالقدرة على التأمل الواعي الصحيح . ان تجربة الفنان العراقي عموما تدعو الى (واقعية المضمون) لا الى واقعية الشكل ، فالاشكال عنده تتركب وتنحدر من مغزاها الضمني العام ، فتتحور وتتغير في سياقاتها الموضوعية متحولة الى صور رموزية لأشياء قائمة في محيطنا وفاعلة في حياتنا ، وذات صلة بمدركاتنا الاخذة في النماء ، لتصبح بذلك التحول اكثر فاعلية على استدراج عواطفنا ونزعاتنا الوجدانية ، واكثر قدرة على ايقاظ مشاعرنا المكبوتة واحساساتنا المغيبة ، جاعلا منها القيمة او الثيمة التي يتمحور حولها موضوعه .
اضافة لذك فان الفن العراقي المعاصر انطلق في مسيرته من اساس متين وقام من خلال بنية راسخة اتسعت مدياتها ورسخت اصولها على مدى اجيال متعاقبة ، فالوسط (البيئة) الذي نشأ فيه الفنان العراقي كان وسطا ثريا بالقيم الجمالية ، مليئا بالصور الحسية التي ترتبط مع بعضها بعلاقات جدلية ثابتة ومتحولة ، اضافة الى انتعاش ذلك الوسط بالنشاطات الانسانية التي يأتي في مقدمها الصنيع الفني الراقي المعبر عن مناخ ذلك الوسط الثري والغني الى حد كبير والذي يعمل على تحفيزه ويدفع به للممارسة الفنية ، فهذا الوسط مزدان بالمواد والاشكال والافكار والموضوعات والمتغيرات والصراعات ، الى غير ذلك من العوامل التي تستفز قريحة الفنان .
لقد نشأ الفنان العراقي ضمن بيئة غنية بالمعطيات الجمالية والفكرية ، بيئة لم تكن نمطية قطعا، ولم يحكمها قانون الجمود والركود ، بل هي عالم متحرك حيوي تتنافس فيه الابتكارات والرؤى ، وتغذي اجواءه نماذج فريدة من موروث حضاري متين متعدد الجوانب ، اصبح حافزا مستمرا في استمالة الفنان نحو وجهة خاصة تميزه وتغني عطاءه ، فكان لذلك الموروث دور مهم في تحفيز جانبي التأثر والابتكار .

ان بغداد التي استمرت زمنا طويلا عاصمة للاسلام كانت قد تركت ارثا كبيرا من فنون الرسم والزخرفة والمنمنمات والخط العربي والفسيفساء والنقش وغيرها ، كان اهمه ذلك الذي توضح بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين مما اعطى سمة متميزة لأسلوب فني خاص ومبتكر –في الرسم بالتحديد – أُسست في ضوئه مدرسة فنية عراقية في الرسم ، اُطلق عليها اسم (مدرسة بغداد للتصوير) وهي مدرسة ذات اصول وقواعد جمالية خاصة سادت وتطورت وخلّفت فنا جديدا اصيلا يعد اليوم في طليعة الفنون العالمية . ولعل ابرز نتاجات تلك المدرسة العربية البغدادية يتمثل باعمال رسام بغداد الاول ابان ذلك العصر (يحي بن محمود الواسطي) ، لقد اثّرت مدرسة بغداد للرسم ونهجها الواقعي بالرسامين العراقيين المحدثين فأستلهموا رموزها واشكالها واستفادوا من معالجتها للون والخط والفضاء، واستوقفتهم بساطتها ورقة اسلوبها وجمالية تكويناتها واجواؤها الشرقية الجميلة فأسسوا على ضوئها مناهجا للرسم العراقي المستند الى مقومات البيئة العراقية العربية والى موضوعاتها الفولكلورية وموروثها الجميل .

ان هذا التأسيس الذي كان الدعامة الاولى والكبرى في التشكيل العراقي المعاصر لم يأت بمعزل عن تلك التراكمات الابداعية الغزيرة التي ورثتها الاجيال الفنية عن بعضها بعضا عبر العصور، فالواسطي استفاد على سبيل المثال من الفنون الاسلامية السابقة، فدرسها وتتبع مزاياها وتأثر بمنمنماتها وبطابعها الخاص السلس وبأجوائها العربية الشرقية ، وخرج منها بمحصلة جديدة سجلت له . فما توصل اليه الواسطي كان مؤسسا على تراث سابق .

واذا كانت – مدرسة بغداد للرسم – قد اثّرت في نهج واساليب بعض الفنانين المعاصرين وكانت حافزا ودافعا لهم للعمل المبدع ، فأن بعضهم الاخر تأثر بفنون السومريين والاكديين والاشوريين والبابليين واستعاروا منها بعض اشكالها وانماطها وطوروها بما يُلائم متطلبات الحداثة وضروراتها . ان تأثر الفنان العراقي المعاصر بفنون اسلافه له اسبابه الطبيعية ومبرراته المتعددة ، ذلك انه وجد فيها من الخصائص والسمات الجمالية ماجعلها مؤهلة لأن توظف توظيفا جديدا وواسعا في اعماله الفنية الحديثة . ان السمات التي تميز بها الفن التشكيلي العراقي المعاصر هي خلاصة وعي تام لأهمية الفن وضرورته ، فوظيفة الفن في هذا العصر ارتبطت بمفاهيم محددة غير منفصلة عن حاجة الانسان الى التشبع بالقيم الجمالية الخالصة ، وحاجته الى صيغ تعبير منظمة وذكية ، صيغ تعبير غير مباشرة يمكن ان تكون وسائل راقية في تأشير المظاهر الهامة في حياته وتجسيدها ، وان تحيل افكاره ورؤاه ومشاعره الى خطاب جمالي مقروء ومؤثر .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا