الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب اكتوبر من منظور نظرية الحرب المحدودة

عمر يحي احمد

2015 / 7 / 14
مواضيع وابحاث سياسية


المقدمة

ظهرت هذه النظرية في الخمسينيات، حينما اتضح أنه يمكن أن يصل العالم إلى حافة الحرب النووية، إما عن طريق الخطأ أو الاندفاع إليها بسبب وجود تهديد ضد المصالح القومية لدولة ما، ولتلافي حدوث ذلك ظهرت هذه النظرية التي تدعو إلى تقليص العنف إلى حجم مناسب في مسرح مناسب ، تمثل نظرية الحرب المحدودة مفهوم إستراتيجي من صنع الولايات المتحدة، وقد هاجَم الاتحاد السوفيتي هذا النوعَ من الحروب على المستوى الدعائي والعلمي لكن واقع الحال يكشف تأييده الضمني لها، ويرى أنَّه أجبر الولايات المتحدة على اتِّخاذ هذا النهج الإستراتيجي بسبب التغير الكيفي في قوته العسكريَّة المتزايدة.

يجئ هذا البحث بعنوان نظرية الحرب المحدودة وتطبيقاتها العملية يتناول الموضوع في محورين ، الأور إطار نظري عن مفهوم النظرية وعناصرها الرئيسية ، فيما يتناول المحور الثاني الجانب التطبيقي بالتطبيق علي حرب اكتوبر التي إندلعت بين مصر واسرائيل ، فكيف تم تطبيق نظرية الحرب المحدودة في حرب أكتوبر ؟ .
.
المحور الأول : الإطار النظري لنظرية الحرب المحدودة
اولاً : مفهوم الحرب المحدودة :
تركز معظم تعريفات الحرب المحدودة على الضوابط التي يدخل المشتركون الحرب عبرها ولهذا فإنه لكي تكون الحرب محدودةً يجب أن تُفرض هذه الضوابط على واحد أو أكثر من العَناصر الآتية: (هدف الحرب - الوسائل العسكريَّة المستخدَمة - الحدود الجغرافيَّة لمنطقة المعركة - الأهداف التي تهاجم - المشتركون في الحرب).

وليس من الضروري أن تكون الحرب المحدودة على نسق واحد دائمًا؛ إذ قد تكون محدودةً في جانب مُعين وغير محدودةٍ في الجانب الآخر؛ كأنْ تكون محدودةً بالنسبة لمنطقة جغرافية معينة وغير محدودةٍ بالنسبة لوسائل الحرب والأهداف المطلوب تدميرها، وقد يستخدم أحدُ الأطراف المتحاربة إمكانيَّاته الاقتصادية والعسكريَّة كاملة بالرغم من عدم كفايتها في تحقيق الأهداف التي تَرمِي إليها الدول وذلك لعدم التكافؤ بينها وبين الطَّرف الآخَر.

وتعتمد ضوابط الحرب المحدودة أساسًا على نمط التفاعُل بين القوى العظمى، ويقول بيرنارد بروديس في هذا الصَّدد: "لا يُطبق مفهوم الحرب المحدودة كقاعدةٍ على الصراعات التي تكون محدودةً بطبيعتها؛ أي: التي يفتقد فيها أحد الطرفين المحليين المتنازعين أو كلاهما القدرة على جعلها شاملة، لكن المقصود دومًا هو احتواء الدول العُظمَى في هذه الحرب؛ كالولايات المتحدة، أو الاتِّحاد السوفيتي، أو الصين الشيوعيَّة".

إلا أن من الأفضل أنْ يُطلق مفهوم الحرب المحدودة على أي حرب قررت فيها الأطراف المتصارعة سواء أكانت عظمَى أو صُغرَى أنْ تضع قيودًا على استخدامها، وسواء قرَّرت الأطراف المحليَّة بنفسها أو اقتنعت من قِبَلِ آخَرين بأنْ تضع هذه القيود في اعتبارها.

ثانياً : هدف الحرب المحدودة
هو تحييد مخاطر الحرب الشاملة بوضْع عدَّة اختيارات أمام الأطراف المتصارعة ، لكنَّ هذا الهدف بديل أساس عن الحرب الشاملة في العصر النووي، ودليلُ ذلك أنَّه منذُ الحرب العالميَّة الثانية اندَلعَتْ أكثرُ من خمسين حربًا محدودة في أجزاء متفرِّقة من العالم حاربت الأطراف المحليَّة مُعظَمَها وكانت القوى العُظمَى متورطة فيها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

وقد تكون الحرب محدودةً من جانب القُوى العُظمَى، لكنَّها قد لا تكون كذلك من جانب الأطراف المحليَّة، فحروب كوريا وفيتنام - على الرغم من التدخُّل العسكري المباشر للولايات المتحدة - كانت حروبًا محدودة من قبل القُوَى العظمى لكنَّها لم تكن كذلك من جانب الأطراف المشتركة فيها حيث كانت الحرب بالنسبة لها حربًا شاملة.

تؤثر نوع القيود والضوابط المفروضة على هذه الحرب وأنماط المفاوضات بين الأطراف المحليَّة ومشاكل إنهاء الحرب على محدوديَّة هذه الحرب أو اتِّساعها. أنَّ خوف القوى العظمى من اندلاع حرب نووية تهدد بإبادة كلِّ الأطراف المشتركة فيها أدى إلى تطوير نظرية عن الحرب المحدودة تضبطها وتُقيِّدها وتضع لها مُواصَفات مُعيَّنة تُراعِي فيها ما يترتَّب عليها من نتائج؛ ومن ثَمَّ تكون هناك فرصة أمامها لإيجاد مواقف تُبنَى على الحل الوسط في علاقتها السياسيَّة والإستراتيجيَّة،

ثالثاً : أسباب ودواعي الحرب المحدودة
قد تندلع الحرب المحدودة لمعاناة الدول الصغرى من نقص قُدراتها ووسائلها العسكرية أو الاقتصادية وعدم قُدرتها على تطويرها لحربٍ أكبر أو بسبب الخوف من انتقام العدوِّ الذي يملك قُدرات عسكريَّة أقوى، أو خوفًا من ردود الفعل من جانب الدول العُظمَى المؤيِّدة للعدو، أو للرغبة في الحِفاظ على التأييد السياسي والعسكري والاقتصادي من الدول الكبرى الحليفة، أو للخوف أيضًا من تصاعُد الحرب بأسلوبٍ من شأنه أنْ يجعل الدول العُظمَى تضعُ نهاية عسكريَّة سياسيَّة للصِّراع لا ترضاها الدول الصغرى أو لإثارة العدو وحفزه على الدخول في الحرب.

وقد تندلعُ الحرب المحدودة أيضًا بسبب عمليَّة اجتماعيَّة تفاعليَّة، يُدرِك فيها الطرفان المتحاربان - بوضع الضوابط اللازمة - أنَّ المصلحة تقتَضِي دخولهما في تفاعُل أو في اتِّصال حتى ولو كان ذلك في شَكل صراع عسكري، ويُسمِّي شيلنج هذه العمليَّة بالمفاوضات الضمنيَّة ، ويقصدُ بها إحدى الطرق التي تكون فيها العَمليَّات العسكريَّة وسيلة الاتِّصال بين الجانبين المتنازعين، إلا أنَّ ألكسندر جورج يرى أنَّ هذه الضوابط قد تُوضَع بدون مفاوضة وبدون أيِّ اتِّفاق ومن غير الظروف المشار إليها.
ولا تهدف الحرب المحدودة - على عكس الحرب الشاملة إلى تدمير واستسلام العدو، وإنما ضمان الأهداف السياسيَّة المحدودة.

رابعاً : أنماط التفاوض وفقاً بنظرية الحرب المحدودة
(أ) تفاوُض بين الطرفين المتنازعين.
(ب) تفاوُض بين الطرف الأول وحَلِيفه من الدول العظمى.
(جـ) تفاوُض بين الطرف الثاني وحليفه من الدول العُظمَى.
(د) تفاوض بين الطرف المحلي الأول والدولة العُظمَى الحليفة للطرف الثاني.
(هـ) تفاوض بين الطرف الثاني والدولة العُظمَى الحليفة للطرف الأول.
(و) تفاوض بين القوتين العظميَيْن الحليفتين للطرفين المتحاربين.

تقوم عملية التفاوض بصورة عامة في الحرب المحدودة علي المرتكزات الاتية :
1- أنَّ قدرة الدول المحلية المتصارعة على الكسب أو الخسارة في المفاوضات لا تتوقَّف فقط على دورها في هذه المفاوضات، بل على دور القُوَى العُظمَى أيضًا.
2- قد يُمارِس الطرف المحلي - بسبب تفوُّقه العسكري - ضبطًا كاملاً على المفاوضات إلا أنَّ الطرف المحلي الثاني قد يستعيضُ بضَعفِه بتهديد مصالح القُوَى العُظمَى.
3- هناك أنماطٌ مُتعدِّدة من علاقات التَّفاوُض كالتَّفاوُض على سلوك الحرب أو الطريقة التي يجبُ أنْ تجرى بها أو على وقف إطلاق النار أو الهدنة أو على أيِّ وسيلة أخرى لإنهاء الحرب، أو على التفاوض على سُلطة الأطراف المحليَّة في هذه العمليَّات.
4- تُساعِدُ علاقات التفاوض بين العناصر المحليَّة والقُوَى العُظمَى على الحِفاظ على محدوديَّة الحرب وخاصَّة في المواقف التي تفشَلُ فيها الأطراف المحليَّة في الوصول إلى اتِّفاق.
5- تقوم علاقات التَّفاوُض بين القوَّتين العظميَيْنِ المتورِّطتين في الحرب المحدودة على هدفين متعارضين:
أولهما: رغبة كلٍّ منهما في انتصار حَلِيفِه وعدم تعرُّضه لهزيمةٍ كاملةٍ على الأقل.
وثانيهما: إدراكهما الكامل لخطَرِ توسُّع الحرب، ولتحقيق الهدف الأوَّل تُؤيِّد الدولة العُظمَى حليفَها بالسلاح وبالمستشارين العسكريين وبالمعدَّات الجاهزة للقتال الفوري وبالمساعدات الاقتصاديَّة واستخدام التهديد السياسي.
6- تستطيعُ الأطراف المحليَّة المتصارعة المناورة في المفاوضات لضَمان الحل المناسب الذي ترضاه لجوانب مُعيَّنة فيها؛ وذلك لإدراكها خوفَ الدول العُظمَى من توسُّع الحرب، ويمكن للأطراف المحليَّة بهذه المناورة تجنُّب وتَفادِي ضُغوط القُوَى العُظمَى؛ ممَّا يجعَلُها تتمتَّع ببعض الحريَّة في القُدرة على الحركة التي تزيدُ من قُدرتها على التفاوُض.

خامساً : أنماط إنهاء الحرب المحدودة :
وهناك ثلاثةُ أنماطٍ لإنهاء الحرب:

الإنهاء الذاتي، والإنهاء المتفق عليه، والإنهاء المفروض، النمَط الأخير هو الذي يُفرَض من قِبَلِ القُوَى العُظمَى، أما النمط الأول فيحدُث إذا قرَّر أحدُ الطَّرفين إنهاءَ الحرب، أمَّا إذا قرَّر الطرفان إنهاء الحرب فهاهنا يكون الثاني، ويحدث النمط الأول إذا اعتقد أحدُ الطرفين أنَّه قد حقَّق أهدافَه المحدودة، أو لخوفه من الهزيمة الشاملة أو من التدخُّل المباشر للقُوَى العُظمَى أو من الحِلِّ الذي قد يُفرَض عليه، ويحدُث النَّمط الثاني من نفس العوامل أو من الخوف المتبادل من توسُّع الحرب.
تفرض الدول العُظمَى حُلولَها في النَّمط الثالث إذا فشلت الأطراف المحليَّة في إنهاء الحرب بطريقتها الخاصَّة؛ وذلك تجنُّبًا للمواجهة الشاملة بينها، أو تجنُّبًا لانتصار حليفها الكامل، ومن هنا تتَّفق الدول العُظمَى على أنَّ النتيجة التي وصَلتْ إليها الحرب هي أفضل ظرفٍ لبدْء المُفاوَضات بين الأطراف المحليَّة، ولا ننسى هنا أنَّ النجاح العسكريَّ في ميدان القتال يترُك تأثيرَه الواضح في مواقف التفاوُض بين القُوَى العُظمَى والأطراف المتصارعة

المحور الثاني : الجانب التطبيقي
يتم تطبيق نظرية الحرب المحدودة بالتركيز علي اهم عناصرها والاسس العامة لها :

أولاً: تفترض نظرية الحرب المحدودة أن الحرب المحدودة قد تندلع لمعاناة الدول الصغرى من نقص قدراتها ووسائلها العسكرية والاقتصادية، وعدم قدرتها على تطويرها لحرب أكبر أو بسبب الخوف من انتقام العدو الذي يملك إمكانيَّات عسكريَّة أكبر أو للرغبة في الحفاظ على التأييد السياسي والعسكري والاقتصاديِّ من الدول الكبرى للحرب.

بالنسبة لنقص القدرات والوسائل العسكرية المصرية فأنه بعد دراسة إمكانيّات القوات المسلحة الفعلية ومقارَنتها بالمعلومات المتيسرة عن العدو بهدف الوصول إلى خطة هجومية تتماشى مع الإمكانيات الفعلية تبين الآتي:

1- ضعف القوات الجوية الشديد إذا ما قُورن بقوات العدو الجوية، وأنها لا تستطيع تقديم أي غطاء جوي للقوات البرية إذا قامت هذه القوات بالهجوم عبر أرض سيناء المكشوفة، كما لا تستطيع أن تُوجه ضربة جوية مُركزة ذات تأثير على الأهداف المهمة في عمقِ العدو.
2- أن الدفاع الجوي لا بأس به، وهو يعتمد أساسًا على الصواريخ المضادَّة للطائرات (سام)، ولكنَّ هذه الصواريخ دفاعية وليست هجومية، وبما أنها جزء من خطَّة الدفاع الجوي عن الجمهوريَّة فهي ذات حجمٍ كبير ووزن ثقيل وتفتقر إلى حرية الحركة؛ وبالتالي لا تستطيع أنْ تقدم أيِّ غطاء جوي لأي قوات برية متقدمة عبر سيناء، فهي سلاحٌ مناسب في الدِّفاع فقط، ولا بد من أنْ توفر له الوقاية بوضعه في ملاجئ خرسانيَّة، أمَّا إذا خرَج من هذه الملاجئ لِمُرافَقة القوَّات البريَّة المهاجمة فإنَّه يُصبِح فريسةً سهلة لقوات العدو الجوية ومدفعيَّته.
3- تعادل القوَّات البريَّة مع قوَّات العدوِّ مع وجود بعض التفوق في المدفعية، لكنَّ احتماء العدو وراء خط بارليف يجعل مواقعه قادرةً على تحمل قذائف المدفعية دون أن يتأثر بالقصف المدفعي، كما أن قناة السويس والموانع الصناعية الأخرى تقف سدا منيعًا بين القوتين.
4- أن القوات البحرية المصرية أقوى من بحرية العدو، لكن ضعف القوات الجوية المصرية أحال التفوق البحري إلى عجز وعدم قُدرةٍ على التحرُّك بحرًا، وكان في استطاعة العدو أن يتجول في خليج السويس ببعض الزوارق الصغيرة المسلحة ببعض الرشاشات دون أن يكون في استطاعة البحرية المصرية ذات القطع الأكثر قوة والأفضل تسليحًا أن تعترضَه؛ لاعتِماده على قوَّة وتفوق طيرانه وضعف الدفاع الجوي للقوات المصرية.

ثانياً : أن ضعف الإمكانيات أو زيادتها هو قد يؤدي إلى التفكير في القيام بحرب محدودة، نتيجة لهذه الدراسة ظهر أنَّه ليس من الممكن القيام بهجومٍ واسع النطاق يهدف إلى تدمير قوات الجيش الاسرائيلي وإرغامه على الانسحاب من سيناء وقطاع غزَّة، وأن إمكانيات الجيش المصري الفعلية قد تمكنه إذا أحسَن تجهيزَها وتنظيمها من أنْ نقوم بعمليّة هجوميَّةٍ محدودة تهدفُ إلى عبور قناة السويس ثم التحوُّل بعد ذلك للدفاع .

ثالثاً : أمَّا بالنسبة للخوف من انتقام العدوِّ الذي يملكُ إمكانيات عسكرية أكبر، فتؤكد الوثائق أن حرب الاستنزاف المصرية قد توقفت بعدَ أن قام العدو بدفع جماعات التخريب المنقولة جوا إلى أعماق مصر، وقامت بنسف بعض الأهداف الحيوية، وتوقفت حرب الاستنزاف مرة أخرى بعد أن دمر العدو الدفاع الجوي في القطاع الشمالي من القناة وفتح ثغرة واسعة في خط الدفاع الجوي ما بين بورسعيد شمالاً والإسماعيلية جنوبًا، وأصبح في استطاعته أنْ يعبر بطيرانه عبر هذه الثَّغرة إلى قلب الدلتا


رابعاً : أمَّا عن الرغبة في الحِفاظ على التأييد السياسي والعسكري والاقتصادي للدول الكبرى حيث يتضح أن الخطَّة الأولى التي كانت باسم العمليَّة 41 (خطة تهدف إلى الاستيلاء على المضائق)، تم تحضيرها بالتعاون مع المستشارين السوفييت بهدف إطلاعهم على ما يجب أن يكون لدي القوات المصرية من سلاح وقوات لكي يصبحوا قادرين على تنفيذ الخطة

أما الخطة الثانية فقد أطلق عليها الاسم الكودي (المآذن العالية)، وكان يتم تحضيرها في سِرية تامة، وبناءً على الخطَّة 41 تم تحرير كشوف بالأسلحة والعتاد المطلوب الحصول عليها من الاتحاد السوفيتي.
وأثبتت الوثيقة الخاصة بحرب أكتوبر أن سحب الدعم العسكري السوفييتي إثر قرار طرد المستشارين للسوفييت قد أثَّر تأثيرًا كبيرًا على قدرات الدِّفاع الجوي للقوات المصرية ، وأكدت السلطة السياسية حرصها على التأييد العسكري والاقتصادي للقوة العُظمَى في خِطابها أمام المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة في 3 يونيو 1971 بقولها: "إنَّ إستراتيجيتنا يجب أنْ تكون واضحةً لكم، وهي تتلخَّص في نقطتين: النقطة الأولى: الحفاظ على علاقتنا مع السوفييت والتمسُّك بها حتى يمكننا بناء الدولة الحديثة اقتصاديًّا وعسكريًّا، إنَّ الحركة الصِّهيَوْنيَّة هي هجمةٌ صليبيَّة، وسوف تستمرُّ عشرات السنين، وإنَّ صَداقتنا مع الاتِّحاد السوفييتي هي التي سوف تُساعِدُنا في التصدِّي لهذه الهجمة، أمَّا النقطة الثانية فهي الوحدة العربيَّة، إنَّنا ملتزمون بهذين الهدفين ونسيرُ قدمًا في اتجاههما

خامساً : أن من عوامل الضبط على الأهداف أن يقبل الطرف الآخر قيود الحرب المحدودة

طلَب رئيس الأركان المصري في المؤتمر المذكور من السلطة السياسية الاتصال بالجانب السوفيتي لمعرفة موقفه عند القيام بعملية هجوميَّة، ويقول أيضًا: "إنَّ لديهم لواءين من طائرات القتال وفرقة دفاع جوي، وهم يُسَيطِرون على إمكانيَّات الحرب الإلكترونيَّة، ويجب أنْ نعلم كقادةٍ هل سيشتركُ معنا السوفييت أو لا، وفي حالة اشتراكهم فيجب أن نعلم حدود هذا الاشتراك؛ حتى يمكن أن يكون تخطيطنا سليمًا .
أما وزير الحرب المصري فلم يخفِ انتقاده وعدم ثقته بالاتِّحاد السوفيتي في أحاديثه كلها، وبعد أن كانت انتقاداته دائمًا على المستويات الأعلى خرَج عن هذه القاعدة اعتبارًا من يناير 1972، فخطب في اجتماع عقد في المنطقة المركزية حضره عدة آلاف من الضباط من جميع الرتب وهاجم الاتحاد السوفيتي هجوما عنيفًا، وأعلن "أنَّ الروس لم يُورِدوا الأسلحة المطلوبة، وأنهم يحولون دون تحقيقِ رغبتنا في الهجوم.
وبعد زيارة وزير الحرب الروسي لمصر علق نظيره المصري قائلاً: "إنَّ الروس غير مُخلصين وغير جادِّين في التعاون مع مصر " .

كل هذه النقاط التي أشرنا إليها تؤكد أنه مهما كان من حجم المساعدات السوفيتية لمصر فإنها تتعرَّض لضوابط كثيرة، فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّه لا وجه للمقارنة بين هذه المساعدات وتلك التي تقدمها أمريكا لإسرائيل وخاصَّة في الأوقات الحرجة من القتال لأمكننا الوصول إلى نتيجةٍ مؤدّاها أنّ إستراتيجيَّة الحرب المحدودة التي اتفق عليها الطرفان في منطقة الشرق الأوسط تقوم على حِرصهما على تخلف العسكرية المصرية في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي، والحفاظ على هذا التفوق؛ والدليل على ذلك ما يلي:

1- إصْرار الاتحاد السوفيتي على أن تدفع مصر ثمن الأسلحة التي اتفق عليها كاملاً وبالعملة الصّعبة، وأن يتم تسديد الثمن بالعملة القابلة للتحويل، وتصف الوثيقة هذا الإصرار بأنه عمل غير مقبول، بل يكاد يكون عدائيًّا .
2 ـ أنَّ الجسر الجوي السوفيتي - في المراحل الأخيرة من الحرب - يعتبر متواضعًا إذا قورِن بالجسر الجوي الأمريكي إلى إسرائيل. لقد نقل الأمريكيون خلال 566 رحلة 22395 طنًّا من الإمدادات مُستخدِمين 141 حمولة الأولى 100 طن والثانية 40 طنًّا، وقامت شركة العال الإسرائيليَّة بنقل 550 طنًّا أخرى، وبذلك أصبَح إجمالي الجسر الجوي لإسرائيل هو 27895 طنًّا، وإجمالي المساعدات بما فيها البريَّة والبحريَّة بلَغ 61153 طنًّا، فإذا أدخَلْنا في حسابنا أنَّ المسافة من أمريكا لإسرائيل هي 7000 ميل، والمسافة من الاتِّحاد السوفيتي إلى مصر وسوريا هي 2000 ميل، اتَّضح أنَّ الجسر الجوي الأمريكي الإسرائيلي يُساوِي 6.5 مرة الجسر الجوي على أساس وحدة الطن/ميل".
3- أكد تقريرٍ مرفوعٍ إلى الكونجرس في 16 أبريل 1975 من قيادة القوَّات الجويَّة الأمريكيَّة يُوصِي فيها بناءً على تجربة حرب أكتوبر بضرورة إنشاء خطَّة عمليَّات كاملة جاهزة للطَّوارِئ خاصَّة بإستراتيجيَّة سلاح حاملات الطائرات الأمريكي لتدعيم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ولضَمان تدفق الطائرات أثناء العمليَّات الإستراتيجيَّة وأوصت سكرتارية القوَّات الجويَّة وقيادة حاملات الطائرات بأنَّه يجبُ الاستمرار في إمداد حُكومة إسرائيل بمختلف هذه الاحتياجات؛ سواء باعتماداتٍ ماليَّة أو دونها.
4 ـ أنَّ الأسلحة الحديثة تَدخُل في خِدمة القوَّات المسلَّحة الإسرائيليَّة والأمريكيَّة في وقتٍ واحد؛ ولذلك فإنَّ الأسلحة المتاحة لإسرائيل خلال الستينيَّات تتقدَّم جيلين عمَّا هو متيسِّر لدى العرب، وقد ضاقَتْ هذه الفجوة لتُصبِح جيلاً واحدًا خِلال السبعينيَّات.
5- أجاب وزير الخارجيَّة الأمريكي في مؤتمرٍ أمام الكونجرس ردًّا على سؤالٍ يتعلَّق بتعبئة القوَّات الأمريكيَّة في العالم (في أكتوبر 73) بقوله: "نحن لا نعتَبِرُ أنفسَنا حتى الآن في مواجهةٍ مع الروس، وأعتقدُ أنَّنا بإمكاننا المحافظة على هذا الوضع.. وأريدُ أنْ أُؤكِّد أنَّنا والاتِّحاد السوفييتي في علاقةٍ مُتميِّزة، نحن أضدادٌ ورُفَقاء في نفس الوقت؛ أضداد لأنَّنا نجدُ أنفسنا في مواجهة محتملة، وكلٌّ منَّا له أصدقاء يسعون نحو أهداف لا يُفكِّر فيها واجد منَّا قط

سادساً : أمَّا عن السَّيْطَرة الجويَّة ودورها في طلب الطرف الأضعف أسلحة مُضادَّة للطائرات من حليفه، وأثر ذلك على احتمالات توسُّع الحرب، فإنَّ الوثيقة تُتَرجِمُها على النحو التالي:

1- السيطرة الجوية الإسرائيلية :

تكشف الوقائع في أكثر من موضعٍ السيادةَ الجويَّة الإسرائيليَّة وضعف القوَّات الجويَّة المصريَّة من خِلال الاشتباكات المتعدِّدة التي تمَّت بين طائرات مصر وطائرات العدو ظهَر تفوق الطيران الإسرائيلي في هذه الاشتِباكات بشكلٍ واضح وحاسم، وكانت النتائج دائمًا في مصلحة العدوِّ، لم يكن طيَّاروا مصر تنقُصهم الشجاعة، ولكن كانت تنقُصهم الخِبرة والتجربة.
لقد كانت الغالبيَّة العُظمَى منهم تقل ساعات طيرانهم عن 1000 ساعة طيران في حين كان متوسط ساعات الطيارين الإسرائيليين تزيد عن 2000 ساعة، لقد كانت القوَّات الجويَّة الإسرائيليَّة تسبقُ القوَّات الجويَّة المصريَّة بعشر سنواتٍ على الأقل، كما كانت طائراتنا أقلَّ كفاءةً من طائرات العدوِّ".
وتشيرُ الوثيقة المصرية الرسمية الخاص بحرب اكتوبر إلى دور هذه السَّيْطرة في الأيَّام الأخيرة للحرب فتقول في "إنَّ قوَّاتنا أصبحت مُهدَّدة بالتطويق بعد أنْ دمَّر العدوُّ الكثيرَ من مواقع صورايخنا سام، وبعد أنْ أصبحت القوَّات الجويَّة المعادية قادرةً على العمل بحريَّة من خِلال الثَّغرة التي أحدَثَها في دفاعنا الجوي". وتقول الوثيقة كذلك "بحلول يوم 24 أكتوبر أصبح الموقف سيِّئًا للغاية، لقد أتَمَّ العدو حِصار قوَّات الجيش الثالث شرق القناة وعزَلَها عن مركز قيادة الجيش الثالث التي كانت غربَ القناة وأصبحَتْ هذه القوَّة كلُّها خارجَ إمكانيَّات شبكة الدِّفاع الجوي سام؛ وبالتالي أصبحت مُهدَّدة بالقصف الجوي المعادي دون أيَّة فرصة لردْع الطائرات المهاجمة".

2- إمدادات الحليف من القُوَى العُظمَى لمواجهة السَّيْطرة الجويَّة:

كان حجم القوَّات الجويَّة والدِّفاع الجوي لمجابهة السَّيْطرة الجويَّة الإسرائيليَّة على النحو التالي صباح 6/10/1973:

القوَّات الجويَّة: (305 طائرة قتال - 70 طائرة نقل - 140 طائرة هليوكوبتر).
قوات الدِّفاع الجوي: (150 كتيبة صواريخ سام - 2500 مِدفَع مضاد للطائرات).
بدأت الإمدادات الروسية تصلُ إلى مصر وأصبحت جاهزةً للقيام بمهامِّها القتاليَّة، وكانت تشمَلُ جميع العناصر الرَّئيسة في الدِّفاع الجوي، وكان معَها مُعِدَّات لم يسبقْ لمصر أنْ حصلت عليها".وتتحدَّث الوثيقة عن الصِّراع بين الطائرة والقذيفة فتقول: "كان الصِّراع بين الطائرة والقذيفة صِراعًا مَرِيرًا خلال حربِ أكتوبر دون أنْ يستطيعَ أيٌّ منهما أنْ يدَّعي أنَّ له التفوُّقَ على الآخَر".

سابعاً : مرحلة المفاوضات في الحروب المحدودة
لها اربعة مستويات:
1- خوف القوَى العظمَى من توسع الحرب واحتمالات المواجهة:

بدأت المواجهة المفاجئة بين القوَّتين العظميين؛ لأن كلا من مصر وإسرائيل قد انتهكتا وقْف إطلاق النار، لقد حصلت إسرائيل على مكاسب عسكريَّة لا يسمح بها الاتِّحاد السوفيتي، فقد أخَذت حاملات الطائرات السوفيتيَّة طريقها من البحر الأسود إلى البحر المتوسط، وأعلم الروس الولايات المتحدة بأنهم مستعدُّون الآن لإرسال قواهم الخاصَّة للمنطقة؛ لتعزيز وقْف إطلاق النار، ولأنَّ الولايات المتحدة لا تسمح بذلك فقد رفعت درجة استعداد قوَّاتها، فإذا أرسل الروس قوَّاتهم فستصبح المواجهة حتميَّة بعد أنْ كان الوفاق ممكنًا، فالمصالح القوميَّة الآن لكلٍّ منهما في خطر

2- استخدام التهديد السياسي من قبل الدول العُظمَى:

في صباح 24 أكتوبر انتقد الاتِّحاد السوفيتي إسرائيل وهاجم أمريكا بصفة علنيَّة في الأمم المتحدة، وسلَّم إنذارًا للولايات المتحدة يقول فيه: إنَّه إذا لم يكن من الممكن أنْ تعمَلُوا معنا في هذا الموضوع فقد نجدُ أنفسنا أمامَ موقف يضطرُّنا إلى اتِّخاذ الخطوات التي نَراها ضروريَّة وعاجلة، ولا يمكن أنْ نسمح لإسرائيل بأنْ تستمرَّ في عدوانها هكذا".

3- عدم السماح بهزيمة الحليف هزيمة كاملة:

إن الاتِّحاد السوفييتي والولايات المتحدة قد اتفقا على وقْف القتال قبل أنْ تهزمَ إسرائيل العربَ هزيمةً كاملة، لكنَّ إسرائيل تحاول الحصول على نصرٍ كامل بأيِّ طريقة، وهذا يعني أنَّ الاتِّحاد السوفيتي لم يستَطِعِ الحِفاظ على كلمته مع العرب، وبالنسبة للولايات المتحدة بأنها غير قادرةٍ على وقْف القتال الإسرائيلي، ومن هنا ضغَط الرُّوس على المصريين والأمريكيون على إسرائيل، وقَبِلَ الطرفان وقْف إطلاق النار مُؤقَّتًا في إطارٍ نظَّمَه وزيرُ الخارجيَّة الأمريكي

4- دور النصر العسكري لأحَدِ الأطراف المحليَّة في التأثير على المفاوضات:

يبدو إن من وجهة النظر العسكريَّة البحتة حقَّق الجيش إنجازًا ضخمًا وعظيمًا، جعَل الحكومة الإسرائيليَّة قادرةً على دُخول المفاوضات من موقعٍ قوي، وهذا هو الذي جعل المفاوضات تُعطِي انطباعًا بأنَّنا قد ترَكْنا ميدان المعركة منتصرين ، تمكنت إسرائيل من فرْض شروطها في هذه المفاوضات ولم تُعْطِ أيَّ فرصةٍ للطَّرَفِ المصري للمساومة، إنه بعد أن أتمت إسرائيل حِصارَ الجيش الثالث طالبت - كثمنٍ لإمداده بالتعيينات - بالآتي:

(أ) الإفراج عن الجاسوس الإسرائيلي أفيدان: وقد رافَق هذا الجاسوس الممثل المصري المتفاوض الذي سلَّمه إلى الجانب الإسرائيلي.
(ب) المطالبة بتسليم الجواسيس الإسرائيليين الذين يقضون أحاكمًا في السجون المصريَّة.
(جـ) طالبت بإلغاء الحصار البحري المصري، وأن يكون ذلك بطريقةٍ علنيَّة يعلمُ بها العالم أجمع

وقد أبرزت هذه الحرب نقطتَيْن أساسيتين لم تشير إليها نظرية الحرب المحدودة :

الأولى: أنَّ النصر العسكري الحاسم يمكن الدولة الحليفة من المساومة لحسابها الخاص، والقضاء على كافَّة التهديدات من قِبَلِ الدول المتحالفة مع الطَّرف المحلي الآخَر.إنَّ إمدادَ الجيش الثالث بالتعيينات والمياه يجب أنْ يُقابِله إمداد أمريكا والغرب بالوقود، وقد وضَعتْ أمريكا سلاح البترول في كفَّة الميزان وإنقاذ الجيش الثالث في الكفَّة الأخرى، وكان على السُّلطة السياسيَّة المصريَّة أنْ تلتمس من العرَب وقْف استِخدام هذا السلاح، وهذا ما حدَث فعلاً".

الثانية: أنَّ النصر العسكري الحاسم الذي يتبعه احتلال مناطق ومدن مهمة قد يَحول سلوكيات قوَّات الاحتلال إلى عملية مُنظمة، وتسير وفقًا لتعليماتٍ من السُّلطة السياسيَّة للقوَّات المحتلَّة هدفها تدميرُ سُبُلِ الحياة في هذه المناطق والمدن، والاستفادة بكلِّ ما فيها من إمكانيَّات لصالح الدولة المحتلَّة، وتقول الوثيقة في ذلك: إنَّ القوَّات الإسرائيليَّة قامت بعد احتلال مدينة السويس لمدَّة ثلاثة أشهر بما يأتي:

1- تم ردم ترعةَ المياه الحلوة التي تنقل المياه من الإسماعيليَّة إلى مدينة السويس والجيش الثالث.
2- فكت مصنع تكرير الوقود ومصنع السماد اللذين يقَعان خارج المدينة ونقلَتْهما إلى إسرائيل ونسَفت الأجزاء الثقيلة التي لا يمكن نقلُها.
3- فكَّت الروافع والمعدَّات من ميناء الأدبيَّة.
4- فكَّت خطوط أنابيب المياه وأنابيب البترول التي كانت تمرُّ في المنطقة.
5- نهبَتْ واستولَتْ على المواشي والمحاصيل التي كانت في حوزة الفلاحين

خلاصة
من خلال إستعراض الإطار العام لنظرية الحرب المحدودة يتضح إن هنالك تطابق بين النظرية وحرب أكتوبر ، ويبدو إن الحلقة النهائية التي إنتهت بها حرب أكتوبر قد امثلت في توقيع اتفاقية كامديفيد ، كما يتضح إن حرب أكتوبر تتناسب مع النوع الثالث من أنواع واشكال الحروب المحدورة وهي الحرب التي تنشئ بين الدول الصغرى وتتدخل فيها القوى العظمي في حدود محدودة حيث تدخل كل من الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية بصورة مباشرة لكنهما لم يستخدما قوتهما النووية ،فيما تتضح حقيقة مهمة وهي إن أي حرب من الحرب في العصر الحالي تتناسب او تتطبق كثير من النظريات الاستراتيجية المتعلقة بالحروب ويرجع ذلك لتتطور انواع الحروب وتزايد عدد النظريات الاستراتيجية .
ـــــــــ
أ ـ عمر يحي ، جامعة الزعيم الازهري كلية العلوم السياسية و الدراسات الأستراتيجية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -أسلحة الناتو أصبحت خردة-.. معرض روسي لـ-غنائم- حرب أوكرانيا


.. تهجير الفلسطينيين.. حلم إسرائيلي لا يتوقف وهاجس فلسطيني وعرب




.. زيارة بلينكن لإسرائيل تفشل في تغيير موقف نتنياهو حيال رفح |


.. مصدر فلسطيني يكشف.. ورقة السداسية العربية تتضمن خريطة طريق ل




.. الحوثيون يوجهون رسالة للسعودية بشأن -التباطؤ- في مسار التفاو