الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سليخة

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

2015 / 7 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


((سليخة))

هذه حكاية حقيقية مائة بالمائة حدثت في صيف 2003 في المنصور.

... بعد أن احتلت القوات الأمريكية بغداد أول الأمر، نزلت الشوارع تختلط بالناس وتوزع الحلوى وبعض من وجبات طعامهم الجاهزة والمُعدة لهم خصيصاً من قبل متعهدين في الكويت، وأختلط جنود (المارينز) مع الأطفال ضمن تعليمات محددة بمحاولة كسب ود العراقيين من خلال احتكاك مشوب بحذر.
وقد رأيتُ جنوداً نزلوا من سيارات (الهامر) ونزعوا أحذيتها ولعبوا الكرة مع أولادنا الصبيان في شوارع حي المتنبي بالمنصور، وأتذكر كيف أن الأولاد الصغار قد استقلوا (الهامر) المركونة في الأزقة وكيف جذبتهم أجهزتها الالكترونية المتطورة وتلك المكالمات باللغة الانكليزية واللمبات المتقدة متعددة الألوان، فالجنود كانوا بوضع نفسي حسن، والأهالي ورغم هول الصدمة بسقوط الصنم، كانوا يتعاملون مع الجنود بشكل جيد حتى أن المحلات باتت تبيع لهم بعض الحاجيات والحلي، يشترونها للذكرى ويدفعون بعملتهم الصعبة.
أكثر من جندي راجل كان يسير ضمن دوريات نظامية في الشارع العام، ومنهم من دخل دكاني بشارع فلسطين ليشتري هدية أو يوصيني صياغة أسم لفتاته التي تنتظره على نار، وتعاملنا معاً وتكلمنا باحترام وحذر ونظرنا لهم كضيوف سرعان ما سيغادروننا بعد إتمام مهمة محددة أوشكتْ (حسب ما ظننا) على الانتهاء.
في نهاية 2003 كانت قوات (المارينز) قد انسحبت، واستُبدلت بقوات نظامية من الجيش ليس من مهامها احتلال أو اجتياح مدن كـ (المارينز) بل المكوث فيها أي ما يُعبّر عنه بالعرف العسكري (مسك الأرض)، كانوا أقل تدريباً وأقل خبرة وفيهم (زعاطيط) لكنهم مدججون بسلاح فتّاك.
لما نزل هؤلاء بملابسهم الغريبة أثاروا بالشارع فضول الناس ـ خصوصاً الأطفال ـ بالبحلقة فيهم ومراقبتهم، فالبذلة والمعدات وأجهزة اللاسلكي والسلاح وغيرها والتي تزن زهاء الثلاثون كغم، كانت مثيرة وتوحي بأنهم ذاهبون في غزوة للقمر!
هذه الدوريات الراجلة للقوات الأمريكية بدأت تفقد شعبيتها بسبب بدء المقاومة وضربها بالنار من سلاح مُتاح في الشوارع للجميع، وسرعان ما ساءت العلاقة وانتهى شهر العسل سريعاً وأمست فجوة تفصلنا عنهم، وجاءت أوامر صارمة بتصفية المقاومة وإعتبار أياً يحمل السلاح هدفاً لهم...
في هذه الأثناء كان إحتكاك عجلاتهم بسيارات المدنيين قد فاق الحد المعقول، فلا يتردد سائق المدرعة أن يصدم سيارات المارة لأجل فتح ثغرة لمروره أو يستخدم حديقة عامة أو جزرة وسطية، واحتلت عجلاتهم جهة كاملة من الشارع وصرنا نستخدم الجهة الأخرى ذهاباً وإياب، فتلفت الطرقات وأبيحتْ المحرمات.
فكانت تصرفات الجنود الأمريكان أول دروس الفوضى للعراقيين الذين كانوا فعلاً على قدر عالٍ جداً من التعلم والتدريب بكل ما كان ضار وضد القانون وعكس المنطق، فصارت فوضى جديدة لم نألفها وحوادث مفجعة تسبب بها الأمريكان بشكل مباشر أو غير مباشر.
أتذكر أنني شاهدتُ سائق (تافه) لمدرعة لا يتجاوز سن العشرين قد أوقف مدرعته على جسر الجمهورية وقطعه (ليدخن) سيجارة بعد أن أجبره زملائه داخلها بالخروج، وطالما هو يتمتع بسيجارته كان السير متوقف وعلى بعد عشرات الأمتار منه وعلى الناحيتين، حيث التعليمات تأمرنا بالمسير خلف أية آلية أمريكية بمسافة عشرون متراً أو أكثر.
دخلتْ دورياتهم في الأحياء والأزقة، وكانوا لا يترددوا بالسير بمدرعاتهم أمام دورنا وحدائقنا الخارجية فتنخسف فيهم الأرصفة وتستغيث النباتات والأزهار، وكانوا يدفعون الأسلاك الشائكة والحواجز التي كنا نضعها لنحمي بها أنفسنا، ولم يترددوا السير حتى فوق السيارات التي تعترض طريقهم لو أقتضى الأمر!
× × ×

كنا نشعر بأجواء جديدة وغريبة علينا، وبرغم الغبار الذي لف بغداد وصور الخراب و(الفرهود)، كنا نشم رائحة حرية جديدة علينا، وكان المذياع هو نديمنا، فكان يصاحبني تحت نخلتي البرحية أقتطف منها ما أراه ناضج وارتشف من قدحي وأستمع لرشقة طلق هنا أو صوت محركات سياراتهم حينما تمر مثيرة الغبار غير مبالية بنا، فصرنا نحن أيضاً غير مبالين بهم...
كانت تسكن الى جوارنا فتاة فضولية عانس بعمر أربعين سنة نطلق عليها أسم (سليخة)، تقوم بإعالة أمها وأختيها حيث أبيها متوفٍ منذ سنوات، فهي التي تقوم بكافة الواجبات خارج البيت في التسوق ومراجعة الدوائر وغيرها، أما أمها وأختيها فقد آثرن عدم مغادرة المسكن إلا ما ندر.
كان الوقت (مغربية) عندما مرت من أمام دارهن دورية راجلة من جنديين أميركيين ومترجم عراقي، فأطلق شخصاً ما النار باتجاههم، لم يصِب أحداً منهم لكنه أثارهم فأطلقوا في الهواء أطلاقات كي تُحاصر المنطقة من قبل دورياتهم الأخرى بحسب خطط عملهم...
وبينما أسرع الكل لداخل بيوتهم تجنباً للشر، أطلـّت (سليخة) برأسها من خلف باب الحديقة الحديدي تترقب الموقف بفضول كعادتها، فظنوا أنها مطلق النار يترقبهم وقد توارى خلف الباب، أطلق أحدهما أطلاقة واحدة باتجاهها فأصابها برقبتها، فصاحت وسقطت أرضاً ليتجمع بعض قليل من سكنة الشارع يستطلعون أمر هذا الصراخ، ولما أقترب الجنود والمترجم وجداها غارقة بدمائها وتستغيث.
على الفور، أراد الجنود عن طريق مترجمهم، متطوعين من المنطقة ينقلونها لمستشفى اليرموك، وسيقومون بتزويده بإذن خاص لسيارته بالسماح بالتجوال ليلاً...
كنا أنا وزوجتي وأبني البكر ذو الـ 14 عام ومن سوء حظنا المتطوعين المطلوبين القيام بذلك، فقد كان الموقف إنساني ويتطلب تواجد امرأة لمرافقتها والعناية بها حيث كانت تعليماتهم تتطلب إجبارها البقاء صاحية حتى نصل للمستشفى، لأنها قد تتعرض لحالة اغماء* نتيجة النزف الشديد فتموت.
كانت الدوريات تجول شوارع بغداد الخالية من بشر في وقت كان منع التجوال سارياً على المدينة المظلمة لتبدو بغدادنا الجميلة كمدينة أشباح. في ساحة النسور، كانت دورية تغلق الشارع، وكانت لحظات صعبة، فأنت تتعامل مع أشخاص يسترخصون حياتك ولا يتفاهمون، فكيف يمكنهم تفهم مهمتك في وقت لم تكن هناك أية قواعد للتفاهم ولا حتى لغة عقل ممكن أن تكون هي المحرك الصائب لتلك المواقف الصعبة.
طلب ضابطهم أن أترجل من سيارتي رافعاً يداي حتى وصلته لأريه الكتاب الموقـّع من زملائه، ثم جاء ليشاهد البنت تنزف بينما تحاول زوجتي أن تبقيها بوعيها...
أمام مستشفى اليرموك، كنت أظن بأن العناية كما نظنها، بأن تقوم الطوارئ بعملها كما يرام، لكن اتضح بأن مبدأ عملهم كان (هيلب يور سيلف) أي أخدم نفسك بنفسك!
أخذنا كرسي متحرك ووضعنا البنت عليه بمشقة بينما غطت الدماء فرش السيارة بالكامل، وهو الأمر الذي رافق برائحته سيارتي حتى بعتها، لأن رائحة دماء البشر في هكذا غزارة لا تزول مهما تحاول أن تغسلها أو تستخدم مساحيق ومعطرات، ربما لحكمة من رب العالمين!
كان ليس من مجالاً لرصف السيارة، فأبقينا وبمجازفة كبيرة ولدي الصبي داخل السيارة يحركها بمشقة أمام المستشفى كلما تطلبت أوامر جنود، مقطوعة أواصر التفاهم والثقة بينهم وبيننا.
أدخلناها بقاعة الطوارئ واطلع على وضعها طبيب فحوّلها لطبيبة بغرفة معزولة وليس أمام الناس فدخلتْ معها زوجتي كي تستطيع معاونة الطبيبة بتجريدها من الملابس الملطخة بالدماء وفحصها.
حولوها للأشعة فلم نجد أطلاقة، فاستشارت الطبيبة طبيباً أقدم منها ليدخل ويفحصها، فكيف يمكن للطلقة أن تدخل رقبتها وليس من مكان لخروجها، بينما الأشعة تقول أن ليس من أطلاقة بجسمها؟
الغريب ما اكتشفه الطبيب بعد أن مسحوا كتفيها من الدماء، ظهر أن ثقب بحجم خرم الإبرة هو كل ما تركته أطلاقة الجندي عند خروجها من كتفها جهة ظهرها وكأن الجرح ألتأم سريعاً...
حولها الطبيب بعد إسعافات أولية إلى مستشفى الجملة العصبية في ساحة الأندلس بالحال لتكون تحت المراقبة الشديدة حتى الصباح، وأخبرنا بأن الحظ وحده من وقف معها، حيث دخلت الطلقة من رقبتها وغادرت من كتفها الأيمن دون أن تقتلها، وكان لسخونة معدنها عمل تعقيم الجرح، لكنه قال بأنه قلقاً فيما لو أن مضاعفات سترافق البنت بتلك الليلة، وأن 12 ساعة قادمة ستحدد مصيرها...
أخذنا خطاب موقع ومصدق منه وعدنا، في طريقنا رأينا شاباً مسكيناً بعمر الزهور كان متمدداً مضجعاً بدمائه بين الرصيف والشارع يستغيث ويرجو إسعافه، كان فيما يبدو أن اليةٍ ما قد صدمته، ما كان للأسف له أي مغيث فتركناه مجبرين يلاقي مصيراً مظلم!
كان علينا أن نسأل أهلها عن قريب لها ليس ببعيد عنا يمكننا تسليمه الأذن فيذهب بها على عجل لمستشفى الجملة العصبية وأن يسهر قربها للصباح، فقد كانت مهمتنا الإنسانية قد استوفت هدفها وليس من المعقول مرافقتها وليس من علاقة مباشرة تربطنا، بينما الوضع متشنج في الشارع والجميع داخل بيوتهم يقفلون أبوابها متخوفين.

... بعد مهمة بحث سريعة، وجدنا عمها الذي يسكن الحي العربي، فتكفل بعد تردد وخوف وبضغط منا، العناية والإسراع بها إلى ساحة الأندلس.
كانت ليلة طويلة صعبة علينا بدأت في المساء حينما رمى الجندي الطلقة على (سليخة) ثم تلاه صراخها ونزيفها ونقلها وإعادتها... لتنتهي بنا دون نوم عند الفجر.
كان الوقت يمر بطيئ ونحن قلقين متخوفين من أن نسمع خبراً قد لا يسرّنا عن هذه البنت المسكينة حتى طلع الصباح ليأخذ التعب منا مأخذاً ونغرق بالنوم...

عند ساعة الظهر، كنا لا نزال في صدمة وترقب حتى جاءنا صوت (لمكنسة) يدوية تكنس أثر الدم من على بلاط الكراج في بيتهم... فهرعنا نستطلع الأمر وكلنا خوف ورهبة، فوجدنا (سليخة) شخصياً تقوم بمهمة كنس دمائها من على الأرض!
قلنا لها ( الحمد لله على سلامتك، الأفضل أن ترتاحين وأحد أخواتك تقوم بالتنظيف)
تشكرت منا وقالت بأن طبيب الوجبة الصباحية قد فحصها وأخبرهم بأنها بأحسن حال وليس من ضرر بعودتها للبيت، وأضافت بأنها منشغلة ليس بتنظيف مسرح الأحداث من الدم بقدر أنها ـ وكانت جادة ـ تقوم بالبحث عن الطلقة اللئيمة التي زارت جسدها لأجزاء الثانية!
× × ×

ما كان شعورها لو أنها فعلاً قد وجدت الطلقة، هل ستحتفظ بها كذكرى لحظات عصيبة جداً قد مرت عليها؟
هل قامت بمحاكاة الطلقة، هل حقدت عليها لأنها تسببت لها بكل ذلك الألم والعذاب والرهبة؟
أم بالعكس، تشكرت منها لأنها لو زحفت بضعة مليمات لحدث ما يمكن أن يذهب بحياتها؟

... من غريب الصدف أن (سليخة) وأمها وأختيها قد توطنّ بأمريكا قبل بضعة سنوات، ولا أحد يعلم هل (شفعت) لها تلك الطلقة وهل قدمتها للجنة الأمريكية كإثبات لحكايتها كأحد الشهود مثلما هو الأثر الذي على رقبتها؟
أم أنها قد استخدمتها كدليل إدانة للجرائم الحقيرة التي اقترفها جنودهم بمدننا الآمنة؟
أم فضلت فقط إعادة الطلقة لأصحابها وتسليمها يد بيد (للأخوة) الأمريكان كعربون صداقة ومودة؟

كل شيء ممكن ووارد، والجواب لديك يا (سليخة)!

عماد حياوي المبارك
× النزيف الشديد وفقدان الدم بكثرة يؤدي للغيبوبة نتيجة اختلال ضغط الدم بقوة وبالتالي قلة الدم الصاعد للرأس أي نقص بالأوكسجين الصاعد للدماغ فيؤدي لموت خلايا الدماغ قبل موت سواها من خلايا الجسم...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تخطط لإرسال مزيد من الجنود إلى رفح


.. الرئيسان الروسي والصيني يعقدان جولة محادثات ثانائية في بيجين




.. القمة العربية تدعو لنشر قوات دولية في -الأراضي الفلسطينية ال


.. محكمة العدل الدولية تستمع لدفوع من جنوب إفريقيا ضد إسرائيل




.. مراسل الجزيرة: غارات إسرائيلية مستمرة تستهدف مناطق عدة في قط